ينذر إعلان الحكومة عن موعد إجراء الانتخابات المحلية بالتشاور مع الرئيس محمود عباس، وبلا توافق مع الآخرين، وخصوصًا حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة؛ بإجراء انتخابات في الضفة المحتلة دون قطاع غزة، وبمقاطعة محتملة من أعضاء وأنصار "حماس" و"الجهاد"، وربما غيرهما من الفصائل والقطاعات، ما يجعل الانتخابات، التي هي أمر حميد واستحقاق ديمقراطي، خطوة لتكريس الانقسام، وستكون شرعيتها ناقصة كون أن أهمية الانتخابات تكمن في توفير متطلبات أن تكون حرة ونزيهة، وتمكين كل من يرغب في المشاركة حتى تتوفر للناخب خيارات عدة يقوم بالاختيار بينها، في وقت تزايدت فيه المخاطر على الفلسطينيين وقضيتهم بعد تولي دونالد تزامب الرئاسة الأميركية، وتغول الحكومة الإسرائيلية اعتقادًا منها أنها أمام فرصة تاريخية لتفعل ما تريد بتأييد أو صرف نظر أميركي.
لقد لاحظنا ردة الفعل الأميركية على إقرار إقامة أكثر من ستة آلاف وحدة استيطانية منذ تنصيب ترامب حتى الآن، وهي سيئة، وتعكس تحولًا في الموقف الأميركي، بدليل اعتبارها أن الاستيطان القائم لا يشكل عقبة، وأن توسيع الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية قد لا يساعد على تحقيق السلام، والحبل على الجرار.
أتى إقرار موعد إجراء الانتخابات بعد إقرار مرسوم بقانون يقضي بتشكيل محكمة مختصة بالانتخابات المحلية، لتجاوز الخلاف على صلاحية محاكم البداية في البتّ بقضايا الخلافات والشكاوى الخاصة بالانتخابات، على خلفية ما حدث من طعن مبالغ فيه بعدد من القوائم المرشحة للانتخابات التي كانت مقررة في تشرين الأول الماضي.
وهنا، يجب الحذر من عواقب نزع الشرعية عن محاكم غزة، لأن هذا يعني أن العدد الهائل من قرارات المحاكم طوال فترة الانقسام من عقود الزواج، والملكية، والشركات، والبت في المنازعات والخلافات، وقرارات المحاكم بخصوص الجريمة بمختلف أنواعها باطلة.
كنّا في أجواء إيجابية بدأت بسماح "حماس" لأعضاء المؤتمر السابع لحركة فتح من قطاع غزة بالمرور للمشاركة في المؤتمر، إضافة إلى مشاركتها بوفد ألقى كلمة باسم خالد مشعل كان لها أثر طيب وقابلها الرئيس بتحية أفضل منها.
وتواصلت الأجواء الإيجابية بانعقاد اللجنة التحضيرية لاجتماع المجلس الوطني بمشاركة مختلف القوى، وهذا أمر ساهمت في حصوله ورشة سويسرا من حيث أهمية مشاركة الجميع في اجتماعات اللجنة التحضيرية، وهو يحدث لأول مرة منذ خمس سنوات بحجم هذه المشاركة الكبيرة، حيث أكدت نتائج الاجتماع ضرورة عقد مجلس وطني توحيدي، وإنهاء الانقسام عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء الانتخابات، ما يعكس تطورًا إيجابيًا تعزز بنتائج اجتماع موسكو، وكل ذلك كان يوحي بقرب التوصل إلى اتفاق رزمة شاملة، تشمل المنظمة والسلطة على قاعدة إمكانية الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة، وينظم كيفية التعامل مع قضايا الخلاف، ويشتق منه خطة عمل قادرة على مواجهة المخاطر والتحديات المتعاظمة، وتوظيف الفرص المتاحة. فلماذا يتم قلب المسار الإيجابي، ولماذا يجري تفضيل تكريس الانقسام وتعميقه على التوجه الجدي لإنهائه؟!
يصعب تفسير ما يحدث ويؤدي دائمًا إلى إفشال كل الجهود والمبادرات الرامية لإنهاء الانقسام رغم المخاطر الجسيمة التي تهدد الجميع، ولكن ليس من المستحيل إيجاد مثل هذا التفسير. فمن جهة هناك أسباب وجذور للانقسام ازداد تأثيرها بعد تعمّق الانقسام أفقيًا وعموديًا، وتمأسس، وأوجد جماعات مصالح الانقسام التي ازدادت نفوذًا وثروة في مرحلة الانقسام، وستعمل كل ما تستطيعه لبقاء هذه النعمة.
ومن جهة أخرى، هناك إسرائيل وأطراف عربية وإقليمية ودولية يهمها بقاء الانقسام، خصوصًا إذا لم تصب محاولات الوحدة في خدمة مصالحها، وتحديدًا مصالح وأهداف إسرائيل، الذي مثل الانقسام لها الدجاجة التي تبيض ذهبًا ومكنها من تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال وتهميش القضية الفلسطينية جراء ما سببه من إضعاف الفلسطينيين أكثر، وابتزازهم للحصول على المزيد من التنازلات، وإيصالهم إلى حالة قد لا يستطيعون فيها رفض الحل الإسرائيلي الجاري فرضه على الأرض على قدم وساق.
في هذا السياق، ستسارع إسرائيل إلى فرض حلها على الفلسطينيين خلال الفترة القادمة، خصوصًا إذا ما أخذت الإدارة الترامبية بالنصائح التي تقدم لها من خبراء وغيرهم ممن تولوا مناصب قيادية في الإدارة الجديدة، أو ممن يعملون على ذلك من خلال تقديم توصيات لإدارة البيت الأبيض، مثلما فعل روبرت ساتلوف ودينيس روس وديفيد ماكوفسكي، الذين ينصحون إدارة ترامب بالكف عن محاولات استئناف المفاوضات أو السعي للتوصل إلى حل نهائي، والسعي بدلًا من ذلك لإنجاز خطوات مؤقتة من خلال الاتفاق الأميركي الإسرائيلي وليس من خلال المفاوضات المباشرة، أي مواصلة خطة شارون التي بدأها بفك الارتباط عن قطاع غزة، وكان يخطط لتنفيذ خطة الانطواء في الضفة الذي حاول خلفه أولمرت أن يفعلها ولكنه تراجع وسقط على خلفية الفضائح والاتهامات التي أدت به إلى السجن.
تأسيسًا على ما سبق، لا يزال الخروج من المأزق الشامل متاحًا إذا توفرت الجرأة للعمل من أجل تحقيقه، ويتمثل ذلك باستئناف الحوار الوطني الفلسطيني الشامل، وعدم ترك مصيرنا بيد فرد أو أفراد أو مجموعة. حوار للاتفاق على كيفية التعامل مع المتغيرات ومواجهة المخاطر المتعاظمة، وعدم الاستمرار بتكرار القول إننا لسنا بحاجة إلى حوارات جديدة في وقت كل العالم منشغل بالحوار حول كيفية التعامل مع تداعيات انتخاب ترامب - وما يمكن أن يحدثه إذا صمد ولم يتم إسقاطه أو استيعابه في النظام الأميركي الذي جاء للانقلاب عليه - من تغيير في القواعد الحاكمة للنظام الدولي برمته.
نحن بحاجة إلى حوار وطني، وإلى توسيع التمثيل فيه ليشمل المرأة والشتات والشباب، ويهدف أولًا إلى التوصل إلى ترجمة الاتفاق على برنامج العودة والدولة وتقرير المصير من خلال خطة سياسية لمواجهة الوضع الراهن، والعمل على إحباط المخططات الإسرائيلية والأميركية لفرض حل لم يستطع أي من الرؤساء الأميركيين السابقين التوصل إليه، ويطمح ترامب في التوصل إليه لينجح في عقد صفقة الصفقات (أم الصفقات) كما قال، الذي يثق بأن صهره كوشنر سيكون قادرًا على إنجازها، وإذا لم يقدر فلن يتمكن أحد غيره من إنجازها.
إذا عقد الحوار وتوصل إلى خطة سياسية مشتركة فهذا يفتح الباب لـما يأتي:
أولًا: مواصلة جهود اللجنة التحضيرية لعقد المجلس الوطني بحيث يكون قديمًا معدلًا من خلال مشاركة "حماس" و"الجهاد" و"المبادرة" كفصائل، واستبدال الموتى وأعضاء الاتحادات الشعبية وعدد كبير من ممثلي الفصائل، بحيث لا يكون المجلس القديم الذي تقادم إلى درجة الشلل، ولا الجديد المختلف عليه، وبحاجة إلى وقت لعقده لا يقل عن عام يتم فيه الاتفاق على الميثاق الوطني والبرنامج السياسي الجديد وعدد وكيفية اختيار أعضاء المجلس الوطني الجديد الذي مفترض أن يكون رشيقًا لا يتجاوز عدد أعضائه 350 عضوًا كما جرى الاتفاق، على أن يتخذ المجلس المعدل عند انعقاده قرارًا بالتحضير الفوري للمجلس الجديد.
ثانيًا: تشكيل حكومة وحدة وطنية، مهمتها الأساسية توحيد النظام السياسي، من خلال إعادة بناء وتوحيد وإصلاح المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، لتكون هناك سلطة واحدة جديدة تناسب التطورات والتحديات الجديدة بدءًا من فشل اتفاق أوسلو وتجاوز إسرائيل لالتزاماتها فيه، ومرورًا بالحصول على الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية وقرار مجلس الأمن 2334 ضد الاستيطان، وانتهاء بالسعي المحموم الإسرائيلي لاستكمال خلق أمر واقع احتلالي استيطاني استعماري عنصري يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًا.
ثالثًا: بعد فترة انتقالية يتفق عليها، يتم فيها توفير أو قطع شوط جدي على طريق إنهاء الانقسام يتم تأمين متطلبات إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وخصوصًا قضاء عادل ومستقل واحترام حقوق وحريات الإنسانفي الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث تجرى الانتخابات حيثما أمكن، وبالتوافق الوطني بعد وضع أسس ومعايير موضوعية مهنية لاختيار الأعضاء حيثما يتعذر إجراء الانتخابات.
وحتى يكتب لمثل هذه الأفكار النجاح، لا بد من وقف إجراء الانتخابات من دون توافق وطني، أو على الأقل، الاتفاق على تشكيل المحكمة المختصة بالانتخابات بالتوافق، والكف عن الخطوات الأحادية والتحريض الإعلامي المتبادل، والاعتقالات، ووضع إجراءات لمنع كل أشكل المنع والتهديد من أطراف وأجهزة وعائلات فلسطينية تسعى لمنع أو تقييد ترشيح البعض لصالح مرشحين آخرين.
إن التوافق وحده يمكن أن يمنع أو يُحد كثيرًا، على الأقل، من الانتهاكات التي تمس بحرية الترشيح والدعاية الانتخابية وحرية الناخب بانتخاب من يريد، والتوافق وحده يمكن أن يُحد من قدرة سلطات الاحتلال من التدخل الحاسم في عملية الانتخابات بمختلف مراحلها ونتائجها. هناك طريق إذا كانت هناك إرادة، وإذا لم تتوفر الإرادة عند القيادة والقوى المتحكمة، فليتحرك الشعب لفرض إرادته على الجميع. وهو سيتحرك عاجلًا أو بعد حين.
هاني المصري