يتهدد قطاع غزة خطرٌ شديدٌ ومستقبلٌ غامضٌ، فقد تلبدت سماؤه بسحبٍ سوداء قاتمة، تحمل معها نذرَ عواصف هوجاء شديدة، وأمطار علينا لا حوالينا، لا غيث فيها ولا ما يسقي الأرض، ولا ما ينبت الزرع ويجري الضرع، ولا ما يحيي الأرض اليابسة أو يروي التربة الجافة، أو ينجي الخيام والكرافانات المنثورة والبيوت غير المسقوفة، أو يسعف الجرحى الذين ما زالوا على حالهم مرضى، أو يأخذ بيد المكروبين والمنكوبين بأبنائهم وبيوتهم وممتلكاتهم، أو يساعد المتضررين من الحروب والاجتياحات السابقة.
إذ في هذا النذيرُ برقٌ ورعدٌ وأنواء غير مريحة، وعواصف شديدة ورياح قوية وسريعة، لا تبشر بخيرٍ نتوقعه، ولا تعد برجاءٍ نأمله، فقد باتت الأجواء العامة تنذر بحربٍ جديدةٍ، وتهيئ الأجواء لمعركةٍ ساخنةٍ تبدو للعيان قريبة، قد تكون أشد خطراً على أهلنا في قطاع غزة من كل الحروب السابقة، وأكثر إيلاماً لهم، يأمل فيها العدو أن ينتقم من المقاومة وحاضنتها، وأن يعدل من صورته ويحسن من أدائه، ويعيد البريق إلى جيشه وعتاده، بعد حروبٍ عديدةٍ خاسرةٍ، عجز فيها عن تحقيق ما تمنى، وقصر فيها عن تنفيذ ما خطط ووعد.
صحيح أن التهديدات الإسرائيلية للمقاومة في قطاع غزة قديمة ومتكررة، ويتعرض لها دوماً بالتصريح والتلميح وزراء الدفاع وقادة الأركان ومختلف المسؤولين الأمنيين والضباط العسكريين الإسرائيليين، أي أنها ليست جديدة ولا غريبة، فقد اعتاد الفلسطينيون على سماعها، ووطنوا أنفسهم على التعامل معها والرد عليها، إذ عندهم ما يردعون به العدو وينهونه عن مغامراته الجنونية، وما يخيفه أحياناً ويقلقه من عواقب مواجهتهم حقيقةً، إلا أن تهديداته الأخيرة كثرت وباتت أكثر قرباً وجديةً، وأشد خطراً وتصميماً بعد استلام دونالد ترامب للإدارة الأمريكية الجديدة، التي أعضت الضوء الأخطر للمضي في السياسات الإسرائيلية المتشددة، وتنفيذ الخطط القديمة المؤجلة، والضرب بالقوة المفرطة.
وقد جاءت التهديدات الإسرائيلية على لسان السياسيين والعسكريين على السواء، وأوردتها شخصياتٌ عامة، ووسائل إعلامية مختلفة، بعباراتٍ وأشكالٍ متعددةٍ، ولكنها جميعها تحمل تهديداتٍ صريحةً وواضحةً، ومبهمةً وغامضةً، ومباشرةً وغير مباشرة، وقد تبرع آخرون بنقل الرسائل الإسرائيلية الحازمة والموافقة الأمريكية الواضحة، الأمر الذي زاد في درجة التوتر والشحن العام الذي يسود المنطقة، ويرفع من منسوب الحرب المتوقعة.
التهديدات الأخيرة التي صاحبتها ضرباتٌ جويةٌ وغاراتٌ على أكثر من موقعٍ وهدفٍ في قطاع غزة، قد تكون هذه المرة مختلفة كلياً، ومغايرة عما سبقها من تهديدات، وذلك بالنظر إلى الإدارة الأمريكية الجديدة المعنية بلا خوفٍ ولا حياءٍ بإشعال نار الحرب، وغير القلقة أبداً عما سيلحق بالشعب الفلسطيني ومقاومته، ولعلها برئاسة دونالد ترامب أكثر من يشجع القيادة الإسرائيلية على خوض حربٍ جديدةٍ بغطاءٍ أمريكي واضحٍ وصريحٍ، وضوء أخضرٍ مباشرٍ ودائم، وهو ما لا يتحقق لهم دائماً بسهولةٍ ويسرٍ كما هو اليوم.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان الذي دخل إلى وزارة الحرب الإسرائيلية كالثور الهائج، يهدد ويتوعد، ويرغي ويزبد، ويعد المقاومة ورجالها في غزة بيومٍ أسودٍ ومصيرٍ مشؤوم، وينذر قادة المقاومة بالقتل والتصفية، فهو لم يغير من مواقفه، ولم يبدل من سياساته، ولم يعقله المنصب أو تهذبه المسؤولية، ولم يردعه فشل السابقين وعجزهم، بل ما زال يتطلع إلى حربٍ ضروسٍ قاسيةٍ، تكون على المقاومة أليمة وموجعة، تتأذى منها وتنكسر بها شوكتها، ليتمكن بعد ذلك من فرض شروطه، وتمرير خطط الفصل والعزل والطرد التي ينادي بها، وإعادة تصنيف الأراضي بما يحشر الفلسطينيين في أصغر مساحةٍ منها، ويمنح الإسرائيليين مساحاتٍ أكبر خالية من السكان العرب.
كما أن جيش العدو يتربص بالمقاومة وأهلها، ويتطلع إلى حربٍ جديدةٍ، ينتقم فيها ممن مرغوا أنفه وقيادته في الوحل، وبهتوا صورته العسكرية، وأظهروا عجزه عن تحقيق أهدافه، فضلاً عن تكبده لخسائر حقيقة في الأرواح والمعدات والمعنويات، ما يجعله يتطلع إلى حربٍ جديدةٍ، يسوي فيها أوضاعه، ويستعيد فيها هيبته، ويلقن المقاومة درساً قاسياً، وهي التي تكبر أمامه يوماً بعد آخر، وتطور قدراتها العسكرية، وتضاعف ترسانتها الصاروخية، وتبتكر وسائل للقتال جديدة، وتسجل نجاحاتٍ باهرة في مجال الاختراق والسيطرة، وجمع المعلومات واستراق السمع والدخول على مختلف الأجهزة الخاصة والمؤسسات الحساسة، فضلاً عن دورات التدريب والتأهيل العالية، التي أكسبت مقاتليها خبرةً كبيرةً وقدرةً عاليةً.
ينبغي على قيادة المقاومة أن تكون حكيمة وعاقلة، وواعية وراشدة، إذ لا يجوز لها الاستخفاف بهذه التهديدات، ولا ينبغي أن تصم آذنها عما تسمع وتغمض عيونها عما ترى، فالعدو لا يغفل ولا يهمل، ولا يكل ولا يمل، فهو يراقب ويتابع، ويرصد ويصور ويسجل، والأوضاع العامة جد خطيرة، والأجواء الدولية والظروف الإقليمية تساعده على اتخاذ قرارٍ جرئٍ ومغامرٍ، ومجنونٍ وغير عاقلٍ، وهو يريد أن يحدد بنفسه توقيت المعركة ومكانها، ويخطط ليفرضها بالطريقة التي يريد، ليفاجئ المقاومة بها وبحجمها، وهو عدوٌ ماكرٌ، لئيمٌ وجبارٌ، وعنده القدرة والإمكانية، وقد جاءته الفرصة وواتته الظروف، وهناك من يساعده ويشجعه، وليس من يحاسبه أو يؤنبه، فلماذا لا يقدم على هذه الحرب التي يحلو لبعض قيادتهم أن يصفها بالحرب الأخيرة.
إنه بصراحةٍ ووضوحٍ في حاجةٍ إلى حربٍ جديدةٍ سريعةٍ، كاويةٍ للوعي وموجعةٍ للشعب، يستخدم فيها أقصى قوته، وأقوى سلاحه، فلا نعطيه هذه الفرصة ولا نمكنه منها، وإن كنا نطمئن إلى أنفسنا، ونركن بعد الله إلى مقاومتنا، ونعتمد على قوتنا وتماسك شعبنا، ولا نخاف من المواجهة ولا نهرب من الحرب، ونصبر عند القتال، ونصدق عند اللقاء، ولكن هذا لا يجيز لنا أن نسهل للعدو باستهتار البعض أو غبائه حرباً يريدها، يدفع شعبنا ثمناً موجعاً لها من حياة أبنائه واستقرار عيشه، وهو الذي خرج للتو من حروبٍ طاحنةٍ همجيةٍ، دمرت بيوتهم، وقتلت أبناءهم، وخربت حياتهم، وفرضت عليهم حصاراً خانقاً قاتلاً ما زال إلى اليوم قائماً، بل على المقاومة أن تحفظ قوتها، وأن تحمي شعبها، وعلى الأمة أن تساهم في حماية هذه المقاومة المباركة، التي إن كسرت وهزمت فإن الأمة كلها ستسقط وستنهار، وستذل وستخضع، وستفقد كرامتها وعزتها، ولن يكون لها تحت الشمس مكانٌ.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/2/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]