إستطلاع الرأي الذي أجرته CNN وORC حول مدى قبول ورضى الشارع الأمريكي بأداء الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمركية دونالد ترامب بأول أسبوعين له من توليه منصبه، أظهر نتيجة غير معهودة بتاريخ الرؤساء السابقين لأمريكا، حيث قال الإستطلاع أن الغالبية وبنسبة 53 في المائة غير راضين عن الطريقة التي يدير ويؤدي بها ترامب وظيفته كرئيس لأمريكا، الأمر الذي يعتبر أكبر نسبة عدم رضا بتاريخ الرؤساء الأمريكيين منذ بدء استطلاعات الرأي حول هذا الأمر.
وأيضا في رسالة مدوية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، حذر خمسون جمهوريا عملوا بالبيت الأبيض وتبوئوا ملفات حساسة ومسؤوليات كبيرة في جهاز الأمن القومي من أن ترامب سيكون أخطر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بسبب جهله وعدم كفاءته، وذكر هؤلاء، بإننا مقتنعون بأن ترامب سيكون رئيسا خطيرا وسيعرض أمن بلادنا القومي واقتصادها وازدهارها للخطر، وعزوا موقفهم إلى أن الملياردير المثير للجدل غير أهل لتولي مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة بسبب افتقاره إلى المؤهلات اللازمة وكذلك أيضا بسبب طباعه النزقة، مضيفيين في رسالتهم أن ترامب ليس لديه لا الشخصية ولا القيم ولا الخبرة لكي يكون رئيسا، وهو يظهر عن جهل مقلق لأبسط الوقائع في السياسة الدولية، محذرين بنفس السياق بأن وصول ترامب إلى البيت الأبيض سيضعف السلطة المعنوية للولايات المتحدة في العالم، مشيرين إلى أنه يجهل على ما يبدو مبادئ الدستور الأمريكي والقوانين الأمريكية.
وأضافوا أن ترامب ليس جاهلا في الشؤون الدولية والمخاطر بوجه الأمن القومي فحسب بل أنه لا يبدي أي رغبة في الاستعلام، معربين عن أسفهم بأنه يتصرف بنزق ولا يتمتع بضبط النفس ولا هو قادر على تقبل الانتقادات الشخصية، متابعين بإننا مقتنعون بأنه سيكون أخطر رئيس في التاريخ الأمريكي، قائلين بأن سلوك ترامب الدخيل على السياسة أثار قلق أقرب حلفاء الولايات المتحدة، وبأنه لا يقر بضرورة هذه العلاقات الدبلوماسية، ومن الموقعين على الرسالة مايكل هايدن المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) في عهد جورج بوش الابن، وجون نيغروبونتي المدير السابق لوكالة الاستخبارات الوطنية، وتوم ريدج ومايكل شيرتوف الوزيران الأول والثاني للأمن الداخلي في عهد جورج بوش الابن، وإريك أدلمان المستشار السابق للأمن القومي لنائب الرئيس ديك تشيني، وكذلك روبرت زوليك الدبلوماسي السابق ورئيس البنك الدولي سابقا.
بينما وصفه بعض المراقبين بالرجل العنصري الذي يثار غضبه بسرعة وان تصرفاته وقراراته تشبه تصرفات الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش ومكمل الى طريقه وسياسته وان هذه السياسة ستعرض الولايات المتحدة الامريكية الى خطر الانهيار لأنه رجل بعيد كل البعد عن السياسة والرؤى السياسية السليمة.
لقد أثار الرئيس الجديد لأمريكا ترامب ضجة سياسية حقيقة وردود افعال عالمية منذ حملته الانتخابية ووعوده الطائفية وخطاباته القريبة للشعبوية مرورا بفوزه بالانتخابات الغير متوقع من جميع النخب السياسية والتوقعات العالمية وصولا لدخوله الى البيت الابيض وخطابه الاول اثناء تأدية القسم الدستوري الذي كان ذو اسلوب بعيد عن الديمقراطية وممزوج بخليط من فن الإقناع وازدراء واضح للنظام السياسي القائم.
ومنذ ان خطى الرئيس الامريكي الجديد ترامب اولى خطواته دخولا الى البيت الابيض وهو يحذوا نفس خطوات حملته الانتخابية ليعطي رسالة ذو حدين الى العالم أنه يحكم بذات النهج الذي سار به في حملته الانتخابية رافضا انحيازه حتى لحزبه الجمهوري وموجها رسالته مباشرة للشعب الأمريكي، وكما كان متوقعا، ترامب المرشح والرئيس ليس قويا وغير قادر على تنفيذ وعوده، فمنذ توليه منصب رئاسة الولايات المتحدة الامريكية ولحد الان يتضح الارتباك على قراراته وتعكس حالة الفوضى والمرض الذي بدأ يأكل جسد الدولة العظمى الاولى في العالم _ اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. وقد صبت قرارته الزيت الذي اشعل نيران الغضب في الداخل والخارج وزادت من معاناة دولته اكثر مما اعادتها الى هيبتها كما يحاول هو ان يجعلها بحسب تصريحاته.
لقد شكل انتخاب الرئيس ترامب صدمة موجعة للمحللين والمتابعين، فضلا على الحكومات في كثير من البلدان، فكل التوقعات كانت ترجح فوز وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلنتون مدعومة بكونها ابنة المؤسسة الامريكية العريقة، والمدافعة عن القيم الامريكية العالمية، والاكثر انفتاحا على الاقليات والحكومات، انطلاقا من ما يسمى بالمصالح المشتركة.
لقد شكك كثيرون في طموح الرئيس ترامب، ويعتقدون ان همه ليس الوصول الى البيت الأبيض، بل هو يسعى للحصول على الدعم الذي يمكن أن يساعده على توسيع ثروته. فهو يعمل على زيادة وهج علامة "ترامب" التجارية، وهو يعرف أنه لن يكون رئيسًا. انه يطمح إلى الحصول على أرضية سياسية تساوي ثروة، تدعم مصالحه لدى الدوائر العقارية. انه يتعامل مع السياسة كرجل أعمال وليس كسياسي، ونقل مفهوم البزنس إلى السياسة.
وتصف مجلة ايكونوميست عبقرية ترانب بالوقحة، ولا يتمتع بحس سياسي متين، لكنه يصف نفسه بالمفاوض الذي لا مثيل له، وتضيف المجله أن ترامب ليس جمهوريا تقليديا ولا محافظا نموذجيا، وله مواقف ضد مواقف الجمهوريين من الاسلحة النارية ومن الإجهاض، وهو في مطلق الاحوال كان ديمقراطيا في فترة ما.
وترامب الصاعد في حقل الشعبويات الامريكية، دائما ما يثير الجدل بتصريحاته التي تعتبر لدى الكثيرين ضد القيم الامريكية، فهو لا مانع لديه من استخدام طريقة الإيهام بالغرق وغيرها من طرق الاستجواب العنيفة أثناء استجواب مشتبه فيهم بجرائم إرهابية، لأنه يعتقد ان على السلطات "امتلاك القدرة على فعل أي شيء تريده" للحصول على معلومات سعياً لإجهاض هجمات مستقبلية.
لقد اطلق عليه خصومه، داخل أمريكا وخارجها، الكثير من الاوصاف فهو النرجسي بامتياز، الذي يعشق الاضواء، ويصر دائماً على ان يكون موضع جدل، وشخصيته معجونة بالتعجرف والغرور، ومواقفه تتسم بالتهور والشوفينية التي تتقاطع مع العنصرية، ومفهومه للعلاقات الدولية بسيط وخطير، وعلى العالم ان يقبل املاءات الولايات المتحدة، وإلاّ...!!!
وترامب يكرر دائما انه ذكي للغاية، لكنه سطحي الى ابعد الحدود، واذا تحدث بضع دقائق يقترف الاخطاء، واذا تجرأ احدهم على مساءلته، يتعرض للاهانات، فكلماته المفضلة لمن يختلف معه هي: انت غبي.
تتوزع ثروة ترامب، على الفنادق ومباني وملاعب الغولف في الولايات المتحدة وخارجها، وقدر بنفسه ثروته بعشرة مليارات دولار لدى الافصاح عنها للجنة الانتخابية الفدرالية، ولو أن مجلة "فوربس" قدرتها باربعة مليارات، وبلومبرغ بـ 2,9 مليار، وهو إضافة الى ثرائه، فهو احد نجوم برامج تلفزيون الواقع والتي تستقطب ملايين المشاهدات يوميا. وهو يركز في حملته الانتخابية على شعار «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً.
ولكن رغم ذلك، فان دونالد ترامب صاحب العقارات الشهيرة والاستثمارات المتنوعة وبرامج الواقع على شبكات التلفزة، غيّر قواعد اللعبة كلياً وفرض نفسه كحالة فريدة همّش فيها بقية المرشحين الستة عشر الآخرين عن الحزب الجمهوري، الذين يأتي جلهم من الخلفية التي توصف عادة بخزان ومصنع الرؤساء الأميركيين -منصب السيناتور وحكام الولايات!
ورغم ان فوز ترامب في الانتخابات لم يكن مستغربا اذا قرأنا بتمعن جميع المتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في امريكا، الا ان الاعلام الامريكي لم يبذل جهدا في قراءة هذه المتغيرات، بل عمل على حشد جهوده لتشويه سمعته وتأليب الرأي العام ضده للحيلولة دون فوزه بالانتخابات، فأكثر من مئة مؤسسة إعلامية أميركية عريقة، كصحف نيويورك تايمز وهافنغتون بوست وواشنطن بوست وسي أن أن ركزت على تحويل ترامب إلى مادة يومية للسخرية، وحيث التصقت به في وسائل الاعلام اوصاف مثل المهرج البرتقالي والمتحرّش الفخور والذكوري الوقح.
فالتحريض اليومي الذي وصل حدّ الشتم والسخرية اللاذعة، حوّل دونالد ترامب إلى مستضعف، والخطاب الشعبوي الذي يتفاخر الإعلام التقليدي أنّه يتعالى عليه، وأنه حكر على مواقع التواصل الاجتماعي، نجح في حثّ الأميركيين على الالتفاف حول الرجل الذي يحاربه الجميع: من الإعلام إلى وول ستريت، وصولاً حتى المؤثّر الأميركي الأكبر أي هوليوود.
ورغم كل الإنتقاادات التي وجهه له الجميع، إلا أن هناك من كان يدافع عنه وكان يقابله كلام آخر على مواقع التواصل، فمناصروا ترامب يدافعون عنه بإستماته، ويتحدثون عن واقعيّته ويعيدوننا إلى هفوات وأخطاء وجرائم منافسيه الداخلية والخارجية وهذا الكلام الذي لم نقرأه أو نشاهده في أي مكان آخر.
لقد وصفه المفكر الأميركي نعوم تشومكسي: ترامب بأنه حصيلة مجتمع متداع وماضٍ بقوة نحو الانهيار. وهو كان قد تنبأ قبل نحو ست سنوات بسيناريو وصول شخصية مثل دونالد ترامب، إلى سدة الحكم في أمريكا، محذرا من أنه في حال حصول ذلك فإن أمريكا ستدمر ذاتها ذاتيا، وستشكل خطورة على العالم أكثر من تلك التي مثلتها ألمانيا، أيام حقبة النازية.
ونص ما قاله تشومسكي آنذاك: إن الولايات المتحدة محظوظة للغاية لعدم ظهور شخصية كاريزمية بها، هذه الشخصية الكاريزمية هي مثل المحتال الذي يدمر نفسه ذاتيا، مثل مكارثي أو نيكسون. إذا جاء شخص ما يمتلك هذه الشخصية الكاريزمية فإن هذا البلد سيكون في ورطة حقيقية بسبب الإحباط، وخيبة الأمل، والغضب المبرر في أوساط مواطنيها، وغياب أي استجابة لكل ذلك.
وأضاف تشومسكي: ماذا يمكن أن يفكر فيه الناس إذا جاء شخص وقال لهم: لقد حصلت على الجواب، لدينا عدو؟ لقد كان اليهود، اليوم سيكون المهاجرين غير الشرعيين والسود. سيقال لهم أن الذكور البيض أقلية مضطهدة. سيقال لهم يجب أن ندافع عن أنفسنا وشرف الأمة، وسيتم التعالي بالقوة العسكرية. وإذا حدث ذلك فإن أمريكا ستكون أكثر خطورة من ألمانيا أيام النازية. الولايات المتحدة هي أكبر قوة عالمية، وكانت ألمانيا قوية، ولكن كان لديها خصوم أكثر قوة، لا أعتقد أن كل هذا بعيدا جدا عن الحدوث.
وتوقع تشومسكي أن هذا الشخص صاحب الشخصية الكاريزمية سيظهر من بين الجمهوريين، ليس كل الجمهوريين، لكن الجمهوريين اليمينيين، الجمهوريين المخبولين، والذين سيكتسحون الانتخابات المقبلة.
لكن دونالد ترامب الملياردير الامريكي لم يكترث لكل هذه الانتقادات والمعارضات وبدأ ينفذ جميع وعوده منذ اول لحظة من تنصيبه فقد نشر بيان على الموقع الالكتروني للبيت الأبيض بعد لحظات من تنصيبه أن إدارة ترامب ستجعل من هزيمة "جماعات الإرهاب الإسلامي المتطرف" الهدف الأول لسياستها الخارجية. هذا وقبل ان ينتهي الأسبوع الأول من توليه السلطة في البيت الأبيض جرى عدة اتصالات مع زعماء العالم استخدمها الرئيس الأمريكي الجديد ليضع بصمته على الشؤون الدولية.
اما في الشأن الداخلي للولايات المتحدة الامريكية بدأ ينفذ خططه الانتخابية من خلال اطلاق قرارات صادمة في مجال الهجرة، بمنع الزائرين من سبع دول اسلامية الى دخول امريكا، كما أعلن أنه سيقوم بإعادة النظر في اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية. فضلا عن إلغاء واستبدال قانون الرعاية الصحية الذي أقر في عهد سلفه باراك أوباما وكذلك إصلاح قانون الضرائب. على صعيد متصل سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى رأب الصدع مع المخابرات المركزية الأمريكية وقال للمسؤولين هناك إنه يدعمهم بعدما انتقد تحقيقاتهم بشأن عمليات التسلل الإلكتروني لروسيا أثناء الانتخابات الرئاسية.
فوز ترامب في الانتخابات الامريكية يعكس حالة من التذمر والانزعاج وعدم الرضا من الامريكان من المؤسسة السياسية الحاكمة والمتحكمة في البلاد منذ أكثر من قرنين وهيمنتها على كل مفاصل البلاد برغم وجود ديمقراطية فاعلة فيها ولكن المواطن الامريكي سأم من تلك الطبقة السياسية جمهوريين او ديمقراطيين والتي تحمي بعضها البعض ولو كان هناك مرشح من خارج الحزبين قادر على الفوز بالرئاسة لانتخبوه الامريكان لذلك انتخبوا ترامب الذي هو رجل المال والأعمال أقرب منه إلى الحياة الحزبية والسياسية.
ربما لا تكون خطوات ترامب واضحة في الأيام الأولى له في البيت الأبيض، إلا أنها ستنجلي خلال المئة يوم الأولى، إذ تعد المئة يوم الأولى مبدأ مهم في تاريخ الرئاسة الأمريكية وتحظى باهتمام الجميع على المستوى العالمي، لأن هذه الفترة تعتبر معياراً لفعالية الرئيس الجديد.
ان الصورة على مستوى الوضع الامريكي أصبحت واضحة، اذ ان الذي حصل يمثل زلزالا سياسيا عظيما حيث ان الرئيس المنتخب استطاع ان يعبر وبجدارة عن رغبة الشعب الامريكي وتطلعاته حيث انه قاد الانتخابات الى حد ما بمفرده الى جد ما، ولم يعتمد اعتمادا كبيرا على حزبه سيما وان العديد من القيادات الرصينة مثل جون مكين وجورج بوش واخوين قد تخلو عنه.
عند متابعة السياسة الأمريكية نلاحظ التخبط والتناقض في بعض المواقف والتصريحات، وحتى على مستوى الإستراتيجيات، ويبدو أن صناع القرار في الإدارة الأمريكية مصابين بداء الفصام، المرض النفسي الخطير الذي يصيب الانسان، ويعلم الجميع أن أميركا دولة مؤسسات، وأن هناك مراكز دراسات وبحوث متخصصة، في تقديم المشورة لأصحاب القرار، وهذا لا يعني العصمة أو عدم الوقوع في الأخطاء أو التناقضات.
واخيرا نقول يبدو أن الرئيس الجديد لأمريكا بحاجة إلى علاج سريع وفعال، من داء الشيزوفرينيا.
بقلم / رامي الغف*
*إعلامي وباحث سياسي