الترامبية والمكارثية الجديدة

بقلم: فايز رشيد

لم ينس العالم بعد الحقبة المكارثية في أمريكا، التي تُنسب إلى عضو سابق في مجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي، وقد كان رئيسا لإحدى اللجان الفرعية في المجلس، واتهم عددا من موظفي الحكومة، خاصة في وزارة الخارجية بتهة ظالمة، وقاد إلى حبس بعضهم، على أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفييتي. وقد تبين في ما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس.
بدأت المكارثية بقائمة فيها 205 أسماء، قيل إنهم شيوعيون وجواسيس في الخارجية الأمريكـــية، ثم امتدت لتصل إلى جميع قطاعات المجتمع الأمريكي، وراح ضحيتها عشــرات الآلاف، تم الزج بهم في السجون، فضلا عما يزيد على 10 آلاف تم طردهم من وظائفهم والتنكيل بهم، وفق تهم ملفقـــة، ومن هــؤلاء مارتن لوثر كينغ، ألبرت أينشتاين، آرثر ميللر وشارلي شابلن.
غالبية الامريكيين لم يدينوا الحملة، لأنهم خافوا من الخطر، كما صُّور لهم، وخافوا من الشيوعية، خاصة لأن دعاية مكارثي اعتمدت على أن الشيوعية دين يريد القضاء على المسيحية. لكن في ما بعد، قَلَّ تأييد الامريكيين لمكارثي لأكثر من سبب:
اولا، تأكدوا من أن مكارثي غوغائي وكاذب، يوزع الاتهامات يمينا ويسارا من دون أي ادلة كافية. ثانيا، فشل مكارثي في إثبات وجود جيش من الشيوعيين والجواسيس في وزارة الخارجية الأمريكية. ثالثا، ظهرت لدى سياسيين وصحافيين وأكاديميين، شجاعة كافية لينتقدوا مكارثي ويحاربوه بلا هوادة، وهو في ذروة شهرته، مثل ادوارد مارو، وهو من نجوم أخبار ومقابلات التلفزة الأمريكية الآوائل، ظهركعدو لمكارثي. (عرض قبل بضع سنوات، فيلم بعنوان "ليلة سعيدة وحظا سعيدا"، عن حياة مارو، وفيه مواجهته التاريخية مع مكارثي)، مما قاله مارو، وسجّله الفيلم، إشارة إلى حوار بين القائدين الرومانيين كاسيوس وبروتس، قبيل اغتيال القيصر الروماني يوليوس قيصر: يا عزيزي بروتس، الذنب ليس ذنب حظنا، الذنب ذنبنا.
التاريخ يكرر نفسه، هذه المرة بشكلٍ أكثر مسخرة، من خلال ادّعاءات ترامب، أن المسلمين والمهاجرين هما الخطر الأبرز على أمريكا، ولذلك حاول منع العرب والمسلمين من سبع دول، من دخول الولايات المتحدة (طـــــلّ قاضٍ فيدرالي تنفيذ القرار، حتى تفصل فيه المحكمة)، وينوي تسجيل أســـماء كل المسلمين الأمريكيين في قوائم خاصة، بهدف إحــــكام الرقابة عليهم. أتذكرون التاريخ القريب؟ عشية الحرب الأمريكــــية العـــدوانية على العراق، وكان الرئيس جورج بوش الابن، قد تحدث عن حرب صليبية، وكان مسرورا وجذلا ومعتدا بنفسه لاستعماله كلمة سياســــية جديدة، اخترعها، من تلك التي خطرت على باله. حينها رأى المفكر الأمريكي المعروف اليوت كوهين: أن الحرب الأمريكية على العــــالم العربي والإسلامي، هي الحرب العالمية الرابعة، على أساس أن الحــرب العالمية الثالثة هي الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق. عبّر التعبير ذاته أيضا الرئيس الأمريكي الأسبق الراحل ريتشارد نيكسون، في كتابه بعنوان "نصر بلا حرب".
الحرب العالمية الرابعة يعتبرها مفكرون كثيرون أمريكيون: الحرب على العرب والمسلمين، وقد سمتها أمريكا الحرب على الإرهاب، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، واتخذتها مبرراً وذريعة لتلك الحرب، ولكن الحقيقة، أن الحرب المعنية بدأت بالتحديد في عام 1997، حين قرر المحافظون الأمريكيون الجدد، بعد صعود بوش الابن إلى السلطة عام 2001، عندما فاز بالرئاسة واستعد لتلك الحرب، على أساس أنها الطريقة الأبرز لتحقيق فلسفة اليمين الأمريكي المحافظ في تصوره للإمبراطورية الأمريكية، أو القرن الأمريكي الجديد، وعلى أساس: أن تلك الحرب، هي السبيل الوحيد لحل المشكلات الاقتصادية (أزمة الرأسمالية الأمريكية) على حساب الرأسماليات الأوروبية، الصينية، الروسية واليابانية، وهي الأزمة التي ظهرت في ما بعد في قطاع العقارات والبورصات، وغيرها، نتيجة لفشل الحرب على العراق، بالتالي لم يتم حل أزمة الرأسمالية الأمريكية، بل زادت تفاقما، نتيجة التكاليف الباهظة لتلك الحرب، أضف إلى ذلك الفشل الأمريكي الذريع في أفغانستان.
نعم، إن تنظيم "داعش" ما هو إلا بعض تجليات تلك التصورات الأمريكية ـ الغربية، التي ابتكرت الحرب الجهادية الأفغانية ضدّ الاتحاد السوفييتي، وأوجدت "القاعدة" تعبيرا لها. بالتالي ونتيجة منطقية لحصيلة سنوات طويلة من التدخل الأمريكي ـ الأطلسي في أفغانستان، وحروب عدوانية ظالمة في العراق، ليبيا، مالي! كان من المنطقي أن ينشأ "داعش" وغيره من التنظيمات الأصولية المتطرفة. لقد سبق أن نشرت "سي. إن. إن" العربية حقائق عن المسلمين في أمريكا، وهي تتمثل في: أنهم حذروا السلطات الأمنية الأمريكية من إرهابيين مشتبه فيهم أكثر مما قامت به أجهزة الاستخبارات الأمريكية في بلادها. إنهم مثقفون بصورة أفضل من أغلب الأمريكيين، إنهم يؤمنون بالمساواة بين الجنسين، حيث أن 90 في المئة منهم يؤيدون عمل المرأة خارج المنزل، وفي الوقت نفسه نجد أن النساء المسلمات يحملن شهادات جامعية بنسبة تفوق عدد ما حصل عليه الرجال المسلمون. إنهم وُجدوا في أمريكا منذ ميلاد الدولة، حيث يقدّر باحثون وعلماء تاريخ، إن ما بين ربع وثلث الأفارقة الذين أحضروا إلى أمريكا كعبيد، كانوا من المسلمين، أنهم أكثر أقلية متنوعة عرقيا في البلاد، ورغم عدم وجود أرقام دقيقة عن أعدادهم في أمريكا، إلا أن هناك تقديرات تشير إلى أن نسبتهم تبلغ واحدا في المئة من التعداد السكاني، وأن نسبتهم ستصل إلى 2.5 في المئة في عام 2050.
لا شيء يفجر التوتر في العالم، كقرارات الرئيس ترامب، منذ تسلمه للسلطة قبل أسبوعين وحتى اليوم. في مقدمة تلك القرارات، حظر دخول رعايا الدول السبع (كما ذكرنا) إلى الولايات المتحدة، وبناء الجدار على الحدود مع المكسيك وعلى نفقتها، واعادة التوتر في العلاقات مع كل من إيران والصين، والجدير بالذكر في هذا الشأن، أن ترامب تسبب في ضجة دبلوماسية عندما أجرى حديثاً هاتفياً مع رئيسة تايوان تساي إنغ ون في الثاني من ديسمبر الماضي، وهو أمر لم يقدم عليه أي رئيس أمريكي فعلي أو منتخب منذ عام 1979، عندما توقفت الولايات المتحدة رسمياً عن الاعتـــــراف بتايوان كحكومة مستقلة، وقامت بتوقيع بروتوكول أمريكي – صيني تعترف الولايات المتحدة بموجبه، بأن الصين واحدة. كما وعد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وتصريحات وزير الدفاع الأمريكي الأستفزازية في طوكيو، حول جزر بحر الصين الشرقي، والتصعيد العسكري المفاجئ للوضع في أوكرانيا، بعدما ربط تحسين العلاقات والتعاون مع موسكو بالمسألة الأوكرانية.
الثابت أن الرئيس ترامب القادم الى البيت الأبيض من عالم التجارة والبيزنس، واثق بنفسه كثيرا، بحيث لا يستطيع التمييز بين صلابة الإرادة والعناد، وبين حكمة وقوة العقل، كما أنه يخلط بين إدارة الحــــكم في الولايات المتحــــدة وبين إدارة شركاته الكثيرة، أو أنه لم يقرأ قول الفيلسوف برتراند راسل الذي قال، إن مشكلة العالم هي أن المتعصــــبين المتشــددين واثقون بانفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك.
وأنه لم يقرأ عبارة ونستون تشرشل أيضا، التي وصفت الإمبراطوريات المقبلة بأنها إمبراطوريات العقل. إن شيئا ما خطيرا يجري في الولايات المتحدة، وهو أن في دواخل الكثيرين من زعماء إدارتها الحالية، تدور إرهاصات لمكارثية جديدة، ستكون أعظم خطرا من سابقتها.

د. فايز رشيد

٭ كاتب فلسطيني