لا يجب أن ننتظر عدداً من السنين كي نذرف الدموع على ضياع الضفة الغربية، فتعالوا من اليوم لنبكي على وطن يضيع أمام أعيننا، ونحن شهود على ضياعه، وتعالوا لنعترف بلا فذلكات كلامية، بأن هذه السياسية الفلسطينية المعتمدة منذ سنوات هي أكبر نكبة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وأن هؤلاء الساسة الفلسطينيين هم أكبر حليف للمستوطنين اليهود.
لا تستعجلوا الرد، سأدلل على ما أقول بالأرقام الموثقة لدى مراكز الإحصاء الفلسطينية، والتي تقول: عشية تولي السيد محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، سنة 2005، كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة لا يتجاوز 180 ألف يهودي، وبعد أن اطمئن هؤلاء المستوطنون اليهود على حياتهم بفعل سياسية التنسيق الأمني، ازداد عددهم في الضفة الغربية والقدس حتى صار 750 ألف يهودي، وفق تقديرات سنة 2017
فماذا تقولون في هذه السياسية الفلسطينية، وأنتم ترون نتائجها على الأرض؟
حين قامت دولة إسرائيل على أرض فلسطين المغتصبة سنة 1948، كان عدد اليهود في فلسطين 650 ألف يهودي فقط، فأي مفاوض سيجرؤ اليوم على المطالبة باقتلاع 750 ألف يهودي يعيشون في 131 مستوطنة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى 116 بؤرة استيطانية، تقوم على أراضي فلسطينية خاصة، تم تشريعها قانونياً من الكنيست الإسرائيلي قبل أيام؟
وبدون لف أو دوران، وبدون فلسفة كلامية، وبدون تبريرات دبلوماسية، لقد اعترفت القيادة الفلسطينية بوجود هذه الكتل الاستيطانية حين رحبت بقرار مجلس الأمن رقم 2334، الذي لم يطالب باقتلاع المستوطنات، وإنما طالب بوقف توسعها، وقد وافقت القيادة الفلسطينية على فكرة تبادل الأراضي من خلال الموافقة على مبادرة السلام العربية، التي سلمت بضم الأراضي التي تقام عليه الكتل الاستيطانية إلى دولة إسرائيل، فإذا أضيف إليها البؤر الاستيطانية التي ستغدو مدناً يهودية مزدهرة بين عشية وضحاها، فهذا يعني الخضوع الفلسطيني لسياسية الأمر الواقع الإسرائيلية والتي تمارسها الأحزاب الإسرائيلية من اليسار وحتى اليمين.
قبل أيام، زعم إسحق هرتصوغ زعيم المعارضة اليساري أن الحل السياسي في الضفة الغربية يجب أن يقوم على بقاء 420 ألف مستوطن في الكتل الاستيطانية، مجال التوافق الدولي كما يدعي، ولا مشكلة لديه إلا في 80 ألف مستوطن يهودي، يعيشون في البؤر الاستيطانية.
اليوم يجيء قرار الكنسيت بالقراءة الثانية والثالثة ليعفي زعيم المعارضة من حل مشكلة 80 يهودي، فقد ضمن القرار بقاءهم في مغتصباتهم، وضمن لهم الزيادة العددية في المستقبل، كما قال الكاتب سيفر بلوتسكر: بأن مساحة المستوطنات القائمة، لها حدود واسعة، تكفي لاستيعاب نصف مليون يهودي آخر، دون اكتظاظ.
ولكن نتانياهو الذي اطمأن إلى ردة الفعل الأمريكية يفكر أبعد من ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، لذلك لم يعد يشترط لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين اعترافهم بيهودية الدولة فقط، بل أضاف شرطاً يقضي باعترافهم بأن السيطرة الأمنية من البحر إلى النهر هي لإسرائيل حصرياً. وللتأكيد العملي على ذلك بدأ التفكير في إسرائيل بنقل مطار بن غوريون الدولي من اللد داخل حدود 48 إلى منطقة قريبة من البحر الميت داخل حدود 67.
لقد اطمأنت القيادة الإسرائيلية على مصير المستوطنات، واطمأنت إلى مستوى ردة فعل المجتمع الدولي على قانون تشريع الاستيطان، والتي لن تتجاوز بيانات الإدانة والتنديد، وهذا لن يردع المستوطنين؛ الذين حضر ممثلوهم حفل تنصيب الرئيس الأمريكي ترمب، وقد يحضر ممثلوهم الاحتفال بعيد ميلاد الرئيس الروسي بوتن، ولاسيما أن عدد اليهود الروس الذين يستوطنون الضفة الغربية قد بلغ 100 ألف مستوطن، ونسبتهم 13% من العدد الكلي للمستوطنين، في حين بلغ عدد المستوطنين اليهود الأمريكان الذين يستوطنون الضفة الغربية 80 ألف مستوطن ونسبتهم 11% من العدد الكلي للمستوطنين، أي أن يهود أمريكا وروسيا يشكلون معاً 24% من عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، ولهذه الأرقام دلالتها السياسية.
معلومة أخيرة وخطيرة
قبل التوقيع على اتفاقية أوسلو كان المستوطنون اليهود في قطاع غزة يسيطرون على 23 ألف دونم فقط من أراضي قطاع غزة.
ولكن سكان قطاع غزة تفاجأوا بتمدد المستوطنات في اليوم التالي لوصول السلطة الفلسطينية 5/5 من عام 1994، حتى وصلت إلى أطراف معسكر خان يونس ورفح، واستغرب الناس من سيطرة المستوطنين على كل هذه الارض بين عشية التوقيع على الاتفاقية وضحاها!!
ولم يعرف سكان قطاع غزة الذين كانوا منشغلين بذبح العجول للقوات الفلسطينية العائدة؛ أن الخرائط التي تم التوقيع عليها قد أضافت 23 ألف دونم أخرى لمساحة مستوطنات قطاع غزة، فصارت مساحة المستوطنات 46 ألف دونم بجرة قلم!.
هذا الواقع العنيد يضع الشعب الفلسطيني أمام خيارين:
الخيار الأول: أن يعتمد الفلسطينيون طريقة قطاع غزة في تصفية المستوطنان واقتلاع المستوطنين، وهذا يتطلب وجود قيادة فلسطينية وطنية مقتنعة بالحق في المقاومة، ومؤمنة بطاقة الشعب التي لا تنضب، قيادة مستعدة للتضحية، وجاهزة لتبيت ليلتها في السجن، أو أن تصير قيادة مطاردة، تعذبها جراحات الوطن، ومستعدة للشهادة في سبيل حرية الأرض والإنسان.
الخيار الثاني: أن ينزع الفلسطينيون كوفياتهم، ويكتبوا عليها: وداعاً يا فلسطين، وهم ينتظمون في حلقات نواحٍ، يذرفون فيها الحسرة ويبكون بشكل جماعي على وطن يضيع.
د. فايز أبو شمالة