يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي ما يقرب من (7000) أسير فلسطيني ، من بينهم "41" أسيرا أمضوا خلف قضبانها ما يزيد عن (20) عاماً بشكل متواصل ، ويطلق عليهم عمداء الأسرى ، ومن بين هذه الكوكبة سبعة أسرى أمضوا أكثر من ثلاثين عاما ، أقدمهم الاسير المناضل كريم يوسف يونس (58) عاما من سكان فلسطين المحتلة عام 48 الذي دخل عامه السادس والثلاثون في الأسر ، كما أن من بينهم (29) أسيرا معتقلين منذ ما قبل اتفاق اوسلو الذى وقعته السلطة الفلسطينية مع الاحتلال عام 1994، وهم من يطلق عليهم "الاسرى القدامى".
ومع اختلاف انتماء هؤلاء الابطال وتنوع مشاربهم السياسية والفكرية ، فإنهم يحظون باحترام وتقدير أبناء شعبهم وأمتهم ، فهم قادة فلسطين ورموزها ، مفخرةٌ ليس للفلسطينيين فحسب إنما لكل أحرار العالم ، فهم من قدموا زهرات شبابهم خلف القضبان من أجل حرية واستقلال شعبهم ، وشكلوا نموذجا فريدا في التضحية والفداء دون أن تنال منهم مرارة الاعتقال وقسوته ، حيث فشلت كل محاولات الاحتلال الرامية لتحطيم إنسانيتهم وإفراغهم من محتواهم الوطني والنضالي .
لست هنا لكيل عبارات الثناء والتبجيل لهؤلاء الرموز والقادة ، فسيل الكلمات والعبارات التي انبرت لمدحهم وتعظيم عطائهم قد أوشك علي النضوب ، فمثل هؤلاء لا يمكن للعبارات والكلمات أن تفيهم حقهم ولا أعتقد بأنهم متلهفون لسماع المزيد من هذه المجاملات ، ويقيني بأنهم يتطلعون بشغف إلي حريتهم بعد هذه العقود التي أثقلت عليهم بتفاصيلها المؤلمة والتي انتزعت منهم لحظات الحياة والفرح .
أسرانا البواسل وخاصة الأسرى القدامى شكلوا علي الدوام عنوان انتقام للاحتلال وأجهزته القمعية ، وكانوا مرمىً للاستهداف بسياسات إجرامية سعت إلي تدميرهم جسديا ومعنويا ، لا لشيء إلا لأنهم أبطال سلام وطلاب حرية ، تمردوا علي واقع الاحتلال وحملوا رسالة الخلاص من القهر والاضطهاد وإرهاب الدولة المنظم .
نسمع عن سجناء ومعتقلين من بينهم سياسيون وسجناء رأي أمضوا فترات قياسية في مختلف أصقاع الأرض ، لكن أحداً من هؤلاء قد تعرض لهذا الحجم من القهر والإذلال ومحاولات تحطيم الارادة الذي تعرض له المعتقلين الفلسطينيين ، كما أن غالبية سجون العالم تخضع بشكل أو بآخر لمعايير حقوق الإنسان وتتوفر فيها مقومات الحياة الكريمة التي تصل أحيانا إلي حد الرفاهية ورغد العيش ، بينما سجون الاحتلال أريد لها أن تكون مقابر للمعتقلين الفلسطينيين تدفن فيها أحلامهم وآمالهم ويجردوا فيها من حقوقهم وتنتهك كرامتهم علي مرأى ومسمع من العالم دون أن تتحرك ضمائر دعاة الانسانية ومنظمات المجتمع الدولي .
ولعل أبرز من أمضوا سنوات طويلة ممن تغنى العالم بصمودهم وتضحياتهم هو المناضل الأممي الذي نجله ونحترم نضاله ، الراحل نيلسون مانديلا الذي أمضى (26) عاما في سجون نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا حيث تحول بهذه التضحية رمزا للحرية وخصما للعنصرية ، في الوقت الذي انتجت فيه الحركة النضالية الفلسطينية المئات من المناضلين والباحثين عن الحرية ولم يلتفت العالم لتضحياتهم ، بالرغم من تجاوز اعتقالهم مدة اعتقال المناضل مانديلا مع الفارق الكبير في ظروف احتجازهم والتي تعتبر الأشد قسوةً وبطشا علي مستوى العالم .
لقد رفضت دولة الاحتلال اطلاق سراح الأسرى القدامى ضمن أي من الصفقات السابقة سواء تلك السياسية أو العسكرية ، وبعبارة أخرى فشلت القيادة والمقاومة الفلسطينية في تأمين حريتهم نظرا لتعنت الاحتلال وتمسكه باعتباراته الأمنية وتصنيفاته الجغرافية والمناطقية الأمر الذي فاقم من معاناتهم وساهم في تعقيد قضيتهم ، لكن ذلك بالطبع لم يفت من عضدهم ولم يفقدهم الأمل وثقتهم بشعبهم وقيادتهم .
وهنا أقتبس جزءا من رسالة عميد أسرى فلسطين كريم يونس إلي القيادة الفلسطينية يؤكد فيها علي ضرورة أن تحظى قضيتهم بالاهتمام الذي يتناسب مع حجم تضحياتهم قال فيها " لقد دفعنا ثمنا غاليا وفادحا بسبب اتفاقيات سابقة، وعشنا على الوهم والانتظار، سقط من سقط منا شهداء ، وشنت علينا حربا نفسية من الإسرائيليين اشد قسوة من الحرب نفسها عندما فرضت مفاهيم التفاوض ومقاييس وشروط التجزئة والتصنيف في صفوف الأسرى حسب الانتماء ومكان السكن والتهمة وغير ذلك، مما حولنا إلى فريسة سهلة للسجانين وحكومات إسرائيل المتعاقبة ".
لذا ، فإن كان من المهم الحديث دائما عن معاناة الأسرى القدامى وتسليط الضوء علي قضيتهم ، وجعلها حيةً في ذاكرة وقلوب أبناء شعبنا ، فمن الأهم أن تكون هناك خطوات عملية واستراتيجية وطنية تعجل من لحظة حريتهم وانتشالهم من بين براثن هذه السجون ، قبل أن تُطبق عليهم جدرانها وأسوارها وقبل أن تلتهمهم سنوات الأسر وتقذفهم لا سمح الله جثثا متناثرة أو أجسادا أثقلتها الأمراض والهموم فتصبح حريتهم حينئذ بلا معنى ودون قيمة .
ومن وجهة نظري فإن حرية الأسرى القدامى يجب أن تُقدم علي كافة القضايا الوطنية في الوقت الراهن ، بحيث يتم حشد الطاقات وتعظيم الجهود وتركيز المساعى السياسية والدبلوماسية في كافة المحافل الدولية لضمان حريتهم ، وعدم ربط قضيتهم مع بقية القضايا السياسية الأخرى ، بل اشتراط حريتهم لإرساء أسس الاستقرار في المنطقة ، بعيدا عن مخاض الحراك السياسي الذي من الواضح أنه سيستمر طويلا دون أن يثمر عن نتائج ملموسة في ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة .
وإلي أن تنجح الجهود السياسية في ذلك يبقى الأملُ معقودٌ في صفقة عسكرية مشرفة تنجزها المقاومة الفلسطينية يراعي فيها أن يكون الأسرى القدامى والمرضى والنساء والأطفال علي رأس من يتم تحريرهم ، فأعمار أسرانا وخاصة القدامى لا تحتمل الانتظار وجرح قضيتهم النازف لابد له أن يندمل .
بقلم/ أسامة الوحيدي