عمق ازماتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية...يدفع بنا نحو الصراعات الداخلية والتراشق الإعلامي والسياسي وتحميل المسؤوليات..حيث الأزمة شامل وتلف الجميع،سلطة ومعارضة وجماهير وبدرجات متفاوتة،وهي آخذة في التعمق والتسييد وليس الفكاك والحلول،في كل المجالات والميادين...ويجري التعبير عنها في اكثر من مجال وميدان،ففي الجانب المجتمعي نجد وتائر الخلافات والصراعات الإجتماعية تزداد حدة وسفورا وتاخذ جانب التجييش العشائري والقبلي والطائفي بحيث يتم الباس المشاكل والخلافات الفردية او الشخصية الطابع العشائري والحمائلي،لكي تنفجر على شكل حروب مصغرة،نحقد فيها على بعضنا البعض اكثر من حقدنا على من يحتلنا ويشوه قيمنا ومفاهيمنا،وليس هذا فقط،بل نجد ان العنف وحوادث القتل،أصبحت من الخطورة بحيث باتت تهدد الوحدة الوطنية والمجتمعية،حيث تتقدم الولاءات القبلية والعشائرية والجهوية على الإنتماءات الوطنية،في تراتبية مقلوبة،تنطوي على الكثير من المخاطر في بناء مجتمع مدني،وهذا نتاج لغياب الوعي والعقل الجمعي القادر على التصدي لمثل هذه الظواهر،من حيث لجمها والتصدي لها وتبيان درجة مخاطرها،ولهيب العنف المستشري يمتد ليطال المؤسسات التربوية والتعليمية،وهذا يؤشر ويدشن مرحلة جديدة كبديل لمرحلة،كانت فيها المؤسسات التعليمية خط احمر،وكرامة المعلم فوق أي اعتبار آخر،ولكن في هذه المرحلة نستطيع القول بان العهد ،عهد ما قاله الشاعر الكبير الراحل احمد شوقي"قم للمعلم وفيه التبجيلا" قد انتهى الى غير رجعة،ليحل محله عهد "اضرب المعلم وحطمه وكسره تكسيرا،وامسح في كرامته الأرض واجعله صغيرا"،فلا يكاد يمر يوم واحد دون ان نسمع عن حوادث عنف وقتل تطال مدراء مدارس ومعلمين من قبل الطلبة واهاليهم،وبطريقة همجية ووحشية،تنم عن جهل وتخلف وإنهيار منظومة القيم والأخلاق،وهذا بدوره،لم يشكل فقط تعد صارخ وامتهان لكرامة المعلم،وتحقير لشخصيته امام الطلبة،بل اوجد حالة عدم مبالة واهتمام وإنتماء عند هؤلاء التربويين من مدراء ومعلمين،بحيث صاروا يقدمون السلامة الشخصية على العطاء والإخلاص في العمل والعلم والتعليم،مما ادى الى التراجع في المستوى التعليمي والأكاديمي في ظل وضع لا يشعر به لا مدير المدرسة ولا المعلم بالأمان،هي حالة غير مسبوقة قتل واعتداءات تطال هذه المؤسسات،واللا مبالة والفرجة والحلول الترقيعية والسطحية سيدة الموقف من قبل القوى والأحزاب والمؤسسات المجتمعية،والتي أصبحت هي الأخرى بحكم عمق أزماتها بحاجة الى من يساعدها،بدلاً من ان تساعد وتقود عمليات وبرامج التصدي لمثل هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة والمقلقة والعمل على محاصرتها واجتثاثها ومحاسبة مرتكبيها.
في الجانب السياسي تتبدى الأزمة السياسية بشكل أكثر سفوراً ووضوحاً،حالة من العجز وغياب الفعل والانجاز،القيادات السياسية تتخبط ولا تعزف على نفس الوتر،وتتصرف ليس وفق رؤى جمعية واستراتيجيات سياسية موحدة،ولا المبادرة في الفعل،بل تعالج وتقود القضايا،بما فيها المتعلقة بالمشروع الوطني،وفق الهمة وردات الفعل،ورهن المصير للخارج عربياً وإقليمياً ودولياً، لا تتبارى في الإنجازات والمبادرة بقدر ما تتبارى في الخلافات والتهجم على بعضها البعض،وليصل التحريض بينها حداً ينذر بعواقب وطنية ومجتمعية وخيمة،في تقسيم المقسم أصلاً،تكفر وتخون بعضها البعض،خطابات بيانات وشعارات وبوستات تخدم غرض الفرقة وتسميم الأجواء،وتحمل معان ومضامين،تزيد من حالة الإحباط واليأس في الساحة الفلسطينية وتراجع الثقة المتراجعة أصلاً بالسلطة والقوى والأحزاب،والتآكل في هيبتها واحترامها ان بقي لها هيبة واحترام،وعمق الأزمة هنا في ظل افق سياسي مسدود يجري التعبير عنه في التهكم ولغة السخرية،والإحتقان الشعبي والجماهيري من هذه القيادة والأحزاب يعبر عنه بالعديد من البوستات والصور والجمل والشعارات التهكمية على صفحات التواصل الاجتماعي،وبما يقول بشكل واضح بأن هذه القيادات والأحزاب قد وصلت حد الإفلاس،ولم تعد قادرة لا على قيادة المشروع الوطني ولا حمايته.. فعبارات عدس وبصل ...وزيت وزعتر..و حضور"ارب ايدول" التهكمية،كلها تعبر عن سخط جماهيري تجاه قيادة لم تتقدم بوصة نحو تحقيق اهداف شعبنا في الحرية والإستقلال والانعتاق من الاحتلال،بعد خمسة وعشرين عاما من خيار تفاوضي بائس يكرس الإحتلال والإستيطان.وبالمقابل لم تنجح قوى المعارضة في خلق بديل جدي وحقيقي يتجاوز هذا النهج والخيار ويشق طريقه نحو التغيير الجدي والحقيقي وطنيا ومجتمعيا،رغم ان الساحة الفلسطينية جاهزة ومهيأة لمن يهز ويمسك بمهماز التغيير ويعبر عن همومها وامالها وتطلعاتها.
في الجانب الاقتصادي لا تقل الأزمة عن مثيلاتها،ليس بفعل الاحتلال واجراءاته الإجرامية والتي تقتل وتخنق الاقتصاد الفلسطيني وتمنع إمكانيات نهوضه وتطوره،حيث التحكم في كل مفاصل الاقتصاد الفلسطيني،بحيث يجري تعميق تبعيته للإقتصاد الإسرائيلي،وكذلك السياسات الاقتصادية القائمة،على هدر المال العام وعدم وضع خطط اقتصادية تنموية ومعالجة قضايا التهرب الضريبي،والفساد المستشري،واعتماد اقتصاد التسول" الشحدة" ونمط الإنتاج الإستهلاكي، وعدم إقامة مشاريع اقتصادية إنتاجية،تفتح المجال لتشغيل ايدي عاملة ،تقلل من مستويات البطالة والفقر والعيش على الإعانات والمساعدات الطارئة ،كل هذا يعمق من الأزمة في هذا الجانب،ولا يمكن أن يحقق اقتصاد يتجه نحو الإستقلال عن الاقتصاد الإسرائيلي،بل يزداد إرتباطاً والتصاقاً به وتبعية له، وما يرافق ذلك من حصار ظالم على القطاع وعدم انتظام فتح المعابر والقيود الكبيرة على الاستيراد والتصدير للتجار ورجال الاعمال والمستثمرين في قطاع غزة كلها عوامل تزيد من وتائر ومعدلات البطالة والفقر والجوع،وما ينتج عنها من أزمات مجتمعية عميقة.
والإجابة على العنوان ما العمل، أقول نحن بحاجة الى مراجعة شاملة،تطال كافة جوانب حياتنا من القمة حتى القاع،مراجعة تضع النقاط على الحروف بشكل جدي،تعترف بوجود هذه الأزمات،وتعترف بالأخطاء قبل الإنجازات،ولا تكتفي بالتشخيص ،فالتشخيص نحن خبراء فيه،بل نحن بحاجة الى ترجمات عملية على أرض الواقع،ترجمات تضمن المحاسبة والمسائلة الجدية،تبعد وتحاسب كل من ارتكبوا خطايا وجرائم بحق شعبنا ومشروعنا الوطني،وبحق من شوهوا قيمنا،ومن عملوا على تدمير وتفكيك منظومة قيمنا واخلاقنا،ومن عملوا على الحجر على عقول أبناء شعبنا،ومن عملوا على إشاعة الفتن والخلافات،ومن أدخلو الفكر التكفيري الى عقول شبابنا،وعمن وظفوا الدين لخدمة مصالحهم ومشاريعهم الخاصة.
مراجعة تقول لكل من اجرموا بحق شعبنا كفى فلترحلوا وتحلوا عنا وعن قضيتنا ومشروعنا الوطني.
بقلم/ راسم عبيدات