تناول المؤرخون والباحثون في قضايا الأسرى ظروف الاعتقال في أعقاب " نكسة حزيران من العام 1967م "، والتي حرصت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ البدايات على معاقبة المناضلين الفلسطينيين وإبقائهم في ظروف اعتقالية متدنية للغاية في تلبيتها للاحتياجات الإنسانية الأولية، وما نقصده بشروط الاعتقال هي مجمل الشروط المادية التي يوفرها السجن لقاطنه لأجل ممارسة حياته بصفته كائناً حياً في المعاملة والسكن والمنام والملبس والمأكل والعلاج الطبي([1]).
في هذه المرحلة تجرّع المعتقلون الأوائل مرارة سياسة استهدفتهم من أبواب كثيرة وطنية ونفسية واجتماعية وفكرية، فقد اتبعت حكومة إسرائيل في هذه المرحلة كل الأساليب الممكنة لأجل تحقيق هدفها في تطويع المناضل الأسير لإخضاعه تمهيداً لشطبه وطنياً وإنسانياً([2]).
وأعتقد أن الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة يقصد بها " جموع الأسرى والأسيرات الذين دخلوا السجون " كون أن إسرائيل اعتقلت منذ بدء احتلال فلسطين آلاف النساء من بينهن أمهات وقاصرات وكبيرات سن ([3])، شاركن في المقاومة، ورفعن أصواتهن عالياً مطالبات باسترداد حقوقهن المغتصبة وأرضهن السليبة([4])، فساهمت المرأة الفلسطينية وشاركت بفعالية وعطاء في كل مجالات العمل النضالي الكفاحي([5])، وامتشقت البندقية وقاومت وخاضت غمار الكفاح المسلح([6])، وتعرضت للاعتقال والإبعاد والإقامة الجبرية ([7])، وفي السجون خاضت الأسيرات العديد من النضالات والخطوات الاحتجاجية والإضرابات المفتوحة عن الطعام في سبيل تحسين شروط حياتهن المعيشية، والتصدي لسياسات القمع والبطش اللواتي تعرضن لها([8]).
وأرى أن تجربة الحركة الأسيرة النضالية لم تعبر بطريق مستقيم، بل مرت بمراحل من التقدم والتراجع، والتصاعد والهبوط، وقد تركزت جهودها مرحلة ما قبل أوسلو حول النضال ضد مصلحة السجون لتحقيق شروط حياة أفضل، وقد نجح الأسرى في تسجيل نقلات نوعية بين فترة وأخرى في مسيرة صعبة وشاقة، خاض خلالها الأسرى سلسلة من النضالات الجزئية، والشاملة، فكان الثمن سقوط الشهداء والجرحى([9]).
ومن الباحثين من قدم اجتهادات في توثيق تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، فمنهم من اعتمد على الجانب الثقافي([10])، فقسم تطور الحركة الأسيرة لأربع مراحل، الأولى مرحلة القمع الثقافي (1967-1972م)، ومرحلة النضال والتمرد (1972- 1980م)، ومرحلة الازدهار (1980-1991م)، ومرحلة التذبذب من (1992 – مستمرة)([11])، ومنهم من اعتمد على عملية التطور النضالي وحالة الصعود والهبوط في نضال الحركة([12])، وقسمها لخمس مراحل، الأولى: مرحلة حماية الذات الوطنية (1969 – 1971م)، الثانية مرحلة بناء المؤسسة الاعتقالية وتحسين شروط الاعتقال (1972-1979م)، والثالثة: مرحلة تحقيق المنجزات وحمايتها (1980-1987م)، الرابعة: مرحلة النضال الشامل (1987-1992م)،والخامسة:مرحلة ما بعد اتفاقية أوسلو وانشداد الذهن نحو الحرية وانعكاسها على واقع الأسرى (1993 – مستمرة)، ومنهم من اعتمد على معيار نشاط المقاومة للشعب الفلسطيني ودرجة العنف الثوري ضد المحتل وانعكاسه على السجون، واعتبر أن الحركة الأسيرة مرت بعدة مراحل منها: (1967- 1972م) مرحلة العنف الثوري والمطاردات والاعتقالات والمحاكمات العالية، والثانية: مرحلة (1973- 1981م) حالة من الهدوء في نشاط المقاومة وكان فيها عدد الموقوفين في حد أدنى بسبب استقرار منظمة التحرير ومقاومتها من لبنان، المرحلة الثالثة العمل بالاعتقال الإداري وتبني أساليب العمل الجماهيري والنقابي للمنظمات الفلسطينية (1982-1985م)([13]).
ومن الباحثين من استند على توصيف الفترات الاعتقالية وفق حالات السجون المركزية وما مرت به من أحداث وحالات التقدم والتراجع، فاعتبر أن سجن السبع المركزي مر بثلاث مراحل قد تنسحب على باقي السجون والمعتقلات، الأولى: مرحلة تحقيق الإنجازات وبناء الواقع الاعتقالي، والثانية: مرحلة الصدام والمصادمات مع إدارة مصلحة السجون، والثالثة: مرحلة العصر الذهبي، والرابعة: مرحلة الضعف([14])، ومنهم من قسم مسيرة الحركة الأسيرة إلى مرحلتين، الأولى مرحلة المخاض بدأت مع بداية الاحتلال الإسرائيلي واستمرت حتى منتصف السبعينيات، والثانية: مرحلة البناء و بدأت من منتصف السبعينيات لحتى طباعة الدراسة في العام 1986م([15])، ومنهم من اعتمد على التجربة الشخصية والتنظيمية فقسمها إلى أربع مراحل، أولاها مرحلة النهوض العام وتحقيق الإنجازات القوية ووحدة الحركة الوطنية الأسيرة (1987 – 1993م) والثانية مرحلة التراجع في أعقاب اتفاقية أوسلو وسيطرة فكرة التحرر على أذهان الأسرى (1994 – 2001 م) والثالثة تعتبر حالة استنهاض للحركة الأسيرة (2002 – 2006 م)، والرابعة مرحلة الاستقرار النسبى (2007 – مستمرة)([16])، ومن الباحثين من اعتمد على تطور نضالات الأسرى وانعكاسها على واقعهم فاعتبر أن الحركة الأسيرة مرت بأربع مراحل: الأولى بناء المؤسسة الاعتقالية المنظمة(1967- 1973م)، والثانية مرحلة تنظيم الصفوف الداخلية (1974 – 1976م)، الثالثة: مرحلة الدفاع عن الحقوق الإنجازات (1977 – 1987م)، الرابعة: مرحلة القمع في أعقاب الانتفاضة الأولى (1987- 1993م) والمرحلة الأخيرة ما بعد اتفاقية أوسلو وانتفاضة الأقصى وانعكاسهن على واقع الحركة الأسيرة ([17]) ولتلك الفترات الكثير من المحطات المشرقة ([18])، التي تراكمت عليها إنجازات وإبداعات الاسرى في فترة الدراسة.
1- مراحل تطور الحركة الأسيرة ما بين 1985 – 2015 م:
بعد عملية تقييم ومراجعة مستفيضة للباحث في تقسيم مراحل تطور الحركة الوطنية الأسيرة وفق اجتهادات الباحثين السابقة وجدت تركيز المعظم على المراحل الأولى للاعتقال، مع افتقارها لفترة زمنية مهمة، هي فترة الدراسة ما بين " 1985 – 2015م ".
وكونى عايشت معظم هذه التجربة بنفسى في معظم السجون الإسرائيلية وكنت شاهداً عليها فقمت بتقسيم تلك الحقبة وفق المتغيرات السياسية " كتبادل الأسرى في العام 1985م، والانتفاضة الأولى في 1987م، واتفاقية أوسلو في 1993م، والانتفاضة الثانية في العام 2000م، والانقسام الفلسطيني في 2007م، وعملية تبادل الأسرى مقابل شاليط في العام 2011م، واستهداف حكومة الاحتلال الإسرائيلي للأسرى بسن القوانين والتشريعات والتضييق عليهم والإضرابات الفردية والجماعية التي شهدتها المرحلة الأخيرة ما بين 2012 حتى 2015م وما أحدثته تلك الأحداث على الواقع الاعتقالي وأثرت فيه ما بين مد وجزر، وبناءًا على ذلك قسمتها لأربع مراحل وهي:
- الأولى من (1986 – 1994م) مرحلة النضال الشامل وذروة تحقيق الإنجازات والانتصارات.
- الثانية من (1994 – 2000م) مرحلة النضال السياسي.
- الثالثة من (2001 – 2006م) مرحلة الاستيعاب ومحاولات الاستنهاض.
- الرابعة من (2007 – 2015م) مرحلة الانقسام السياسي والنضال الجماعي والفردي.
وللاطلاع على ظروف ومتغيرات كل مرحلة، وملامحها ومميزاتها من حيث انتهاكات سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأساليب ووسائل الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، وأشكال نضالها ومقاومتها نتناول كل مرحلة منها بالتفصيل:
· المرحلة الأولى من 1986 – 1994م مرحلة النضال الشامل وذروة تحقيق الإنجازات والانتصارات:
حاولت إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية في أعقاب عملية التبادل في العام 1985م أن تنال من الحركة الوطنية الأسيرة بسبب تحرير عدد كبير من قيادات السجون والكوادر الاعتقالية، والالتفاف عما حققه الأسرى من إنجازات مهمة جداً كنتيجة لإضرابي نفحة 1980م وإضراب جنيد في العام 1984م والذي حقق إدخال التلفاز والراديو وإدخال الكتب والحرامات والملابس، فبدأت بحملة من القمع وفرض الإجراءات الخانقة والمذلة لتصبح الحركة الأسيرة في موقف الدفاع عن منجزاتها التي حققتها بالتضحيات الغالية حيث خاض الأسرى سلسة من الإضرابات الجزئية والشاملة في إطار التصدي لهجمة إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية على حقوقهم، وفي 1987م خاض الأسرى إضراب سجن جنيد استمر 20 يوماً لمناهضة تلك السياسات التي استهدفت البنى التحتية للسجون([19])، لاشك أن عملية تبادل الأسرى في العام 1985م والتي تمت في 20 مايو 1985م م بين إسرائيل والجبهة الشعبية القيادة العامة والتي أطلقت إسرائيل بموجبها سراح 1155 أسيراً مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين كانت مؤثرة على الحركة الأسيرة بسبب الإفراج عن مئات الكوادر المجربة والقيادات التنظيمية القادرة والمتمكنة.
ولكن ما لمسته من زملائى خلال الاعتقال أن من تبقى شعر بمحاولات إدارة السجون لاستغلال هذا الظرف، ولكنها فشلت لدفاع من تبقى من الأسرى عن منجزاتهم بشراسة، وبدؤوا ببث الأمل في روح بعضهم البعض، وعكفوا على تقوية المعنويات وبث روح النضال من جديد، وتم صقل شخصية الأسير المناضل القادر على مواجهة السجان بحرفية وتجربة نضالية عالية، وبدأوا ببرامج ثقافية يومية مكثفة، تخللتها ثلاث جلسات في مجالات متعددة، أهمها نقل التجربة الاعتقالية للجدد، وحافظوا على قمة النشاط والحيوية والانضباط والتنظيم، ولم يسمحوا بلحظة من الفراغ، معتبرين أن الفراغ تربة خصبة للأمراض، وتواصلوا مع الخارج بالأسرى المحررين الذين كان لهم دور بمساندة خطواتهم النضالية.
فالكوادر التي بقيت رهن الاعتقال بعد التبادل لعبت دوراً كبيراً في ملء الفراغ، وبذلت جهوداً استثنائية في قيادة المعتقلين الجدد خاصة في أعقاب انتفاضة 1987م والتي اعتقل فيها عشرات الآلاف بقي منهم ما يقارب من 15.000 معتقل تشربوا ممن تشربوا مفاهيم وأسس التجربة التنظيمية والفكرية والثقافية والإبداعية، حتى أن الأسرى في هذه المرحلة تفاعلوا بشكل كبير جداً مع مستجدات الانتفاضة الفلسطينية فأصدروا المجلات والنشرات والبيانات التي تناولت الانتفاضة تشخيصاً وتحليلاً، وتبنوا الشهداء، وأحيوا في احتفالات خاصة مناسبة دخول الانتفاضة في كل شهر جديد من عمرها النضالي وكثفوا مراسلاتهم مع فصائلهم محاولين الإسهام من وحي تجاربهم النضالية بالاقتراح والتصور لعل ذلك يغني ويفيد التجربة ([20]).
في هذه المرحلة عين دافيد بن ميمون مديراً لمصلحة السجون العامة، وأشار بفخر إلى سياسته القمعية للأسرى أمام لجنة الداخلية في الكنيست الإسرائيلي، لكن سرعان ما قدم استقالته في أعقاب عمليتى هروب من سجن غزة وسجن نفحة الصحراوي ولفشل سياسته بعد عام واحد من التجربة عين مكانه شاؤول ليفي الذي تعامل مع مطالب الأسرى، وولدت مرحلة توازن المصالح بين الحركة الأسيرة وإدارة مصلحة السجون في المعتقلات ([21])، وعاد لسياسة مدير مصلحة السجون الأسبق رافي سويسا ولم تكن هذه السياسة احتراماً للأسرى في السجون أو رغبة منه في العمل على تحسين شروط حياتهم بل كان نتيجة لعدة عوامل أهمها:
أ- فشل سياسة القبضة الحديدية التي عمل على فرضها سلفه دافيد بن ميمون، والخبرة الواسعة لشاؤول ليفي وقراءته الجيدة لتفاصيل حياة الأسرى واستعدادهم لكل جديد.
ب- طبيعة الأوضاع المأساوية في المعتقلات وشعور مديرية السجون بالاستعدادات التي يقوم بها المعتقلون لمواجهة السياسات التصفوية لمديرية السجون.
ج- التغيرات التي حدثت على مديرية السجون ومن ثم حل اللجنة الأمنية، التخوفات من اشتعال انتفاضة في الخارج يكون الأسرى عنوانها، وتنامي الوعي الدولي وازدياد حملات المساندة للأسرى([22]).
وذروة الإنجازات والانتصارات لهذه المرحلة تجسدت في إضراب 27/9/1992م والتي تجسدت فيها الوحدة والتماسك الاعتقالي، والتعبئة النضالية والروح الوطنية العالية للأسرى، والالتفاف حول قيادة وطنية اعتقالية موحدة، وقوة التنظيمات والمؤسسات الاعتقالية، والتواصل مع الخارج والعلاقات الوطنية الاعتقالية، والتفاهم على الحد الادنى والأقصى لمطالب الأسرى وقد تحققت في هذا الإضراب جميع مطالب الأسرى، كالتعليم الجامعي في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، وإدخال البلاطة الكهربائية للطهي في داخل الغرف، والسماح بالمراوح، والاعتراف بممثل الأسرى والتعامل معه، والسماح بالاتصال الهاتفي والزيارات الخاصة، وإغلاق أقسام العزل، والسماح بساعة رياضة صباحية، ووقف التفتيش العاري وزيادة وقت الزيارة وإدخال الأطفال للأسير ([23]).
في هذه المرحلة ظهرت القدرة من قبل الأسرى على استيعاب التراث النضالي والاعتقالي وتمكنوا من تخليد تجربة مشرفة تسترشد بوحي نظريتها ومعالمها الأجيال الاعتقالية، ولتضيء لهم طريق النضال الاعتقالي دون الوقوع في الأخطاء ومن ثم السقوط في هاوية التخبطات ([24]).
- المرحلة الثانية من 1994 – 2000م مرحلة النضال السياسي:
منذ التوقيع على وثيقة إعلان المبادىء في واشنطن بتاريخ 13/9/1993م بين منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) وحكومة إسرائيل حدث تحول نفسي عند الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية حيث ارتفعت مستويات التوقع لديهم، والمتعلقة بإنهاء معاناتهم والإفراج عنهم، حيث رأوا أن حصيلة أية تسوية سياسية بين طرفي النزاع لابد وأن تشمل إطلاق سراح المعتقلين، ومن هنا فإن تفاعل الأسرى مع الاتفاقيات الموقعة كان كبيراً ومشبعاً بالآمال وقد يكون هذا التفاعل هو أحد أبرز التحولات الداخلية على صعيد مجتمع الاعتقال وعلى كافة المستويات تنظيمياً وسلوكياً وثقافياً([25]).
في هذه المرحلة تراجعت الاهتمامات على المستوى النضالي والاعتقالي، وتعطلت البرامج الثقافية والتنظيمية والأمنية نزولاً عند ترتيبات الإفراجات المتتالية، وتواصل تعليق البرامج بانتظار المزيد من الإفراجات، وهربت مع هذا الانتظار الرغبة في العودة أو إعادة الانتظام للحياة الاعتقالية، وتراخت القدرات التنظيمية والإدارية والاعتقالية عن ملاحقة أو تطويق التراجع، وأدركت مصلحة السجون العامة أنها أمام واقع جديد يمكنها من استعادة ما انتزع منها خلال السنوات الماضية ([26]).
في هذه المرحلة كان الوضع خلال هذه السنوات صعباً وقاسياً على المعتقلين- من الناحية النفسية - إلا أنهم بتجربتهم الطويلة الغنية كانوا يحاولون امتصاص التطورات السلبية والتعامل مع المعطيات الجديدة وفق رؤية وطنية لا تسمح للاحتلال بكسر التجربة فجاء موقف المعتقلات الفلسطينيات اللواتي رفضن بعد اتفاقية طابا تجزئة قضيتهن عندما حاول الإسرائيليون استثناء خمس أسيرات ([27])، وشهدت هذه المرحلة ثلاثة اضرابات سياسية الأول في 21/6/1994م وجاء على خلفية توقيع القاهرة، وكان إضراباً قصيراً استمر ثلاثة أيام، والثاني في 18/6/1995م تحت شعار إطلاق سراح جميع الأسرى والأسيرات دون استثناء واستمر 18 يوم، فيما أعلن الأسرى اضرابهم الثالث في 5/2/1998م واستمر عشرة أيام ([28]).
في هذه المرحلة حاولت إدارة السجون الإسرائيلية النيل من الحركة الأسيرة فقامت بعزل عدد من الأسرى والقيادات في سجن هداريم، وضيقت عليهم في الزيارات وإدخال الأطفال وقضايا أخرى، فتم التنسيق لإضراب مطلبي مفتوح عن الطعام في عام 1/5/2000م، واستمر هذا الإضراب شهر كامل([29])، وقد تبين فيما بعد أن المفاوضات في هذا الإضراب جرت ولأول مرة مع الشاباك الإسرائيلي([30])، وتم تحقيق إخراج المعزولين الفوري، ووقف التفتيش العاري وتم الوعد بحل مشكلة الهواتف العمومية والتعليم مقابل التزام الأسرى بعدم مزاولة أنشطة خارجية من داخل السجون ولكن الشاباك وإدارة مصلحة السجون تنصلوا من الاتفاق بسبب انفجار الانتفاضة الثانية ([31])، مع التأكيد أن مستوى الحياة أو ظروف الأسرى كانت سهلة نسبياً في هذه المرحلة حيث سادت معاملة هادئة نسبياً من جانب السجانين مع الأسرى([32]).
- المرحلة الثالثة من 2001 – 2006م مرحلة الاستيعاب ومحاولات الاستنهاض:
في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000م، بدأ الأسرى من جديد بالتدفق إلى السجون، ليرتفع عددهم وفق تقرير 2008م لوزارة الأسرى إلى أكثر من (11550) أسير([33]) في أعقاب الاجتياح الكبير للضفة الغربية في التاسع والعشرين من آذار 2002م، ما استوجب إعادة افتتاح أقسام كان يقطنها أسرى جنائيون، وسجون أخرى كانت مغلقة ([34])، ومع الوقت جرى إنشاء أقسام جديدة وسجون ومعتقلات جديدة ([35])، ومع ازدياد العدد الضخم من الأسرى في السجون، وصعود ارئيل شارون لسدة الحكم، واستلام المتطرف " تساحيا هنقبي " لوزارة الأمن الداخلي المسؤولة عن إدارة السجون، وتعيين " يعقوب غانونت " مديراً لمصلحة السجون([36])، عاش المعتقلون ظروفاً قاسية جداً ولا تطاق، في هذه الفترة ظهرت وحدات خاصة ([37]) للتضييق على الأسرى، فدخلت الأقسام مقنعة ومسلحة، ومارست الإرهاب والصراخ، والقيود والضرب، ومصادرة الممتلكات الخاصة، وقامت بإطلاق النار على المعتقلين وقتلت الأسرى بالرصاص الحي، وأجرت التفتيشات والاقتحامات الليلية المفاجئة، وبررت حكومة الاحتلال هذه الانتهاكات بالادعاء أن الأسرى يواصلون القيام بعمليات فدائية، وتحريض، وتنظيم عمليات استشهادية من داخل السجون، وكان أحد عناوين هذه الهجمة أجهزة الهواتف الخلوية المهربة ([38]) إلى داخل السجون.
وبالتالي وقف الجميع " قدامى وجدد " على أعتاب مرحلة جديدة حملت معها من تبقى من الأسرى القدامى من مرحلة أوسلو ، إلى الانتفاضة الثانية بلا تهيئة ولا تمهيد، واصطدم القدامى بسيل هادر من الأسرى الجدد، في هذه المرحلة أصبح من الصعب صياغة البرامج التي تلائم احتياجات هذا الكم الهائل من الأسرى، الأمر الذي دفع المؤسسة الاعتقالية للعمل على إعادة استنهاض نفسها لاستيعاب التطورات الجديدة بطريقة تعيد إلى الأذهان إلى الآليات التي استخدمتها المؤسسة في استقبال أسرى الانتفاضة الأولى عام 1987م([39]).
- المرحلة الرابعة من 2007 – 2015م مرحلة الانقسام السياسي والنضال الجماعي والفردي:
أسفرت الانتخابات التشريعية التي جرت بتاريخ 25/1/2006م عن ولادة مجلس تشريعي جديد حظيت فيه حركة حماس بعد دخول الانتخابات التشريعية بالأغلبية وتم تشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة برئاسة إسماعيل هنية، وارتفعت وتيرة الصدام بين مؤسسة الرئاسة التي تقودها حركة فتح برئاسة محمود عباس وبين حركة حماس، وكانت أحداث هذه المرحلة مقدمة للأحداث الدامية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية، والتي دفعت قيادة الحركة الأسيرة في السجون لإطلاق مبادراتهم التي عرفت باسم " وثيقة الأسرى " ([40])، والتي سميت بوثيقة الوفاق الوطني في 27/6/2007م كوثيقة نهائية بعد إجراء بعض التعديلات عليها من القوى الفلسطينية، وبعد ثمانية أشهر من الحوارات والمفاوضات، والاقتتال، وهدر الدم، توصل الطرفان " فتح وحماس " في مكة حول تشكيل حكومة وحدة وطنية مستندة لوثيقة الوفاق الوطني والتي سرعان ما فشلت بسبب عدم الانسجام وتباعد الرؤى وعدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين، وقد كانت النتيجة الانقسام السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية فى 14/6/2007م الذي نقل الحالة الفلسطينية إلى مرحلة مختلفة تماماً عما سبقها([41]).
يشار إلى أن أبرز ملامح هذه المرحلة هو الاستقرار النسبي للأوضاع في السجون بشكل عام، بعد أن خبا أوار الانتفاضة، وتوقفت تقريباً سيول الاعتقالات وتمازجت التجارب بين الأسرى القدامى والجدد على ضوء التنقلات الكثيرة، فكان لابد في ظل هجمة إدارة مصلحة السجون من إحياء الأوضاع التنظيمية ([42]) مقابل هجمة شرسة غير مسبوقة من قبل إدارة السجون بالتعاون مع أجهزة الأمن الاسرائيلية عليهم مستغلة حالة الانقسام الفلسطيني في خارج السجون، وقامت بفرض واقع مشابه داخله، وقامت بفصل الأسرى وصنفتهم تنظيمياً وخاصة أسرى حركتي فتح وحماس.
وقامت في هذه المرحلة الأداة التنفيذية المتمثلة بإدارة مصلحة السجون بهجمة غير مسبوقة على الأسرى في كل السجون.
بقلم/ د. رأفت حمدونة