تجريم العقل النقدي عند العرب

بقلم: عدنان الصباح

كلما اختلفت مع رأيه سحب " مقدسه " الشخصي وأفرغه في رأسي

حين تعتقد بقداسة رأيك وانه وحده مطلق الصحيح فأنت كمن يعتقد بامتلاك مسدسا للقتل ولا يجوز لغيرك حتى التفكير بمعرفة الحقيقة أو الوصول إليها ولا يجوز لك أن تصل إليها أو حتى تحاول ذلك ولا زلنا نذكر أيام الدولة البوليسية العربية كيف كان الاستماع إلى هذه الإذاعة أو تلك أمرا محرما حد العقوبة لمن يرتكبه وكيف كانت بعض القوانين تعاقب من يمتلك كتابا ما أو صحيفة ما أو يعلن عن رأي ما وبعض الأنظمة حرمت شعوبها من قدرة الوصول إلى هذه المحطة الإذاعية أو التلفزيونية أو تلك وفي بعض الدول ظل والى أمد قريب وقد يكون ما زال محرما استخدام اللاقط الفضائي للتلفزيون وهناك من لازال يلغي قدرة مواطنيه على الوصول إلى مواقع الانترنت أو بعض المعلومات فيها إذا كانت تختلف مع ما يعتقد وقد باتت هذه القدرات تتراجع رويدا رويدا مع الزمن.
لقد اعتدنا على اعتبار الدين هو أساس تجريم العقل النقدي بل وذهبنا نحن أيضا إلى ابعد من ذلك حد اعتبار الدين نفسه هو معيق وجود وتقدم العقل النقدي لدى العرب قبل غيرهم وهو يبدو بهذه الخصوصية لأنه لا يجد طريقه لدى المسلمين من غير العرب, مثل هذا الاعتقاد كان افتعاليا من قبل أرباب الدين وليس الدين وعلى العكس مما يعتقد البعض فان الدين الأصل بدون هوامشه وتفسيراته وملابسه التي البسوه إياها ليتم تفصيله على مقاسهم لم يكن أبدا كذلك.
الدين في الأصل حث على الفكر والتفكير واستخدام العقل وكان الأنبياء قدوة في ذلك فهم الذين طالبوا الله بالبراهين ليقتنعوا وهو أي الله سبحانه قدم لهم ذلك فقد فعل ذلك مع موسى عليه السلام حين طالب أن يراه وفعل ذلك مع عيسى عليه السلام بولادته نفسه وفعل ذلك مع محمد عليه السلام بأول كلمة في القرآن " اقرأ " ولقد سبق وأوضحت هذه الكلمة في قراءة سابقة منشورة بعنوان " عصرنة التأصيل في مواجهة تحديات التحديث " وقد أوردت في تلك القراءة ما نصه (" اقرأ باسم ربك الذي خلق " وهي دعوة صريحة ومباشرة للتفكير والبحث وتأتي عظمتها ودلالاتها البحثية لا النصية من كونها جاءت من الله سبحانه إلى بشر لا يتقن القراءة بالمعنى النصي, فهي إذن دعوة فكر وبحث وانطلاقة للذهن البشري نحو الحقيقة, وقد تكون الكلمة الأولى في القرآن الكريم هي العنوان المفترض للفكر الإسلامي أولا والعربي ثانيا, وهي دلالة حية على أن الإسلام فكر بحث وعلم واستدلال وتطور والدعوة الإلهية تلغي كل فكر جامد متوقف عند النصوص وحرفياتها وهي لو قيلت لرجل يتقن القراءة النصية لاختلف الأمر, وقد يكون من الممكن عندها القول أن النصوص مطلقة وان الدعوة للتنفيذ الحرفي لنصوص بعينها, لكنها قيلت لنبي كانت عظمته في أميته, ويتباهى المسلمون دوما بان إثبات نزول القرآن من عند الله سبحانه وتعالى أن النبي كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة, وبالتالي فالدعوة جاءت فوق المستوى النصي الثابت باتجاه المكتشف الواعي والمدرك بالاستدلال والبحث والتفكير.).
لقد عاش العرب صراعاتهم الفكرية بعيدا عن دوائر الفعل فانشغلوا بالقول بكل أطرافهم فهم بدءا من المعتزلة الذين قدموا العقل على النقل فيما ابعدوا عن ذلك ليس المقدس الإلهي فقط بل وكذا فعلوا مع شروحاته مما جعل مدرستهم بلا معنى أي أنهم أعطوا أنفسهم نفس ما أعطوه لله من حق وهنا ابتدأت الجريمة فاعتبار النص الإلهي مقدس له ما يبرره, أما أن تعتبر التوابع الإنسانية مقدسة فهي إذن احتكار للحقيقة من ادعيائها وإلزام للآخرين بتقديس الحقيقة التي يروها, المعتزلة اعتبروا أن العقل هو أساس النقل فيما عدا العلوم النقلية الخمسة وهي " القرآن وهو الأصل المقدس والحديث والبعض يبرر ذلك بان الآية الكريمة القائلة " ولا ينطق عن الهوى " تفسر قبول الحديث كعلم نقلي لا يخضع للعقل مع ضعف ذلك بكل أسسه فهناك حديث شريف ورد في الصحيحين يقول " من كتب منكم عني غير القرآن فليمحه " وإذا سلمنا بقبول الحديث فما الذي يبرر جعل العلوم النقلية خمسة لا واحد وهو القران ولا اثنان بإضافة الحديث الشريف بل بإضافة التفسير والسيرة والفقه إليهما لتصبح بذلك حكاية العقل مرهونة بأصحاب العلوم الثلاثة الأخيرة أي مدعي الحقيقة المطلقة ومحتكري العلوم الدينية وهم يكادون يضعون القرآن والحديث كيافطة لتبرير جريمتهم فإذا اختلفت معهم على تفسير آية قرآنية أو حديث شريف يفاجئونك بان علم التفسير علم نقلي وهو ملك لأصحابه أي لهم هم.
أصحاب هذه المدرسة من المعتزلة وأتباعهم غير المجددين أوقفوا ومنعوا أية محاولات للتجديد والعصرنة وبذا تم إعدام مشروع عظيم مثل مشروع " التراث والتجديد " الذي دعا إلى إعادة بناء العلوم المقدسة على ضوء العصر وتطوراته فقد اعتبروا ذلك كفرا وتجديفا لكي لا ينال من تفسيراتهم وأحكامهم التي أعطوها صفة المطلق وغيبوا القرآن لتصبح بديلا عنه في متناول جمهور المتلقين من العامة ولذلك تفتقت الأذهان عن مناهج أخرى مثل المنهج الذوقي عند الصوفية والمنهج الحدسي الذي يقارب استخدام العقل باستبداله خجلا به على ما يبدو بالحدس عند المحدثين والمنهج النصي الذي يقدس النص بالمطلق, بكل الأحوال فان النقل لم يستغني عن العقل أبدا وحتى عند كبار السلفيين من أمثال ابن تيمية في ما ذهب إليه من " موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول " وكذا في " درء تعارض العقل والنقل " وان كانت الأفضلية دوما للنقل وللنص بإعادة العقل إلى الوراء لصالح النقل والأخطر أن أولئك الأوائل قصدوا النص الإلهي في حين تحول ذلك اليوم إلى نصوصهم هم عند الضعفاء والتابعين واستبعد النص الإلهي واستبدل بنصوص المفسرين والفقهاء لتصبح القداسة من حق نصوصهم وحقهم أحيانا لا من حق القرآن الكريم ونصوصه ومصدره أي " الله " سبحانه.
لقد هزم العقل النقدي بل والعقل برمته عند العرب أولا بتدمير مدرسة العقل التي كان روادها شارحي " أرسطو " وفي مقدمتهم " ابن رشد " ثم كانت هزيمة عصر التنوير التي انطلقت في مصر وكان من رموزها احمد لطفي السيد وطه حسين وآخرين ومع ذلك فان مطلع القرن الحادي والعشرين فتح الأبواب على مصراعيها لاستعادة مكانة العقل والنقد مقابل النص وتقديسه بما في ذلك الإمعان حد تقديس قائليه بمستوى تقديس النص الإلهي وهو يذكرنا بالكهنوتية التي سادت في مسيحية اوروربا حتى صارت الكنيسة هي السماء التي لا يجوز نقض أو نقد أو حتى مناقشة قرارتها المنزلة على عامة البشر.
رغم شيوع الكثير من المدارس الدينية والمفسرين والمناهج والمذاهب بل والطوائف فتحت في الإسلام لدينا طوائف أهمها السنة والشيعة ولدينا مناهج كما سبق واشرنا ولدينا مدارس واليوم هناك صراع حاد بين الوهابيين وغيرهم وبين أئمة الشيعة وأئمة السنة وبين دعاة النقل ودعاة العقل واختلافات بين أتباع أشهر المذاهب الأربعة " الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي " وان كانت الوهابية اليوم تكاد تتفوق عليهن ومع أنها أي الوهابية اعتمدت على رفض التأليه لغير الله إلا أن أتباعها أمعنوا في تجريم وتكفير من يختلفون معهم حتى أصبحت مع مرور الزمن مدرسة عنفية لا مدرسة فكرية دينية وقد كان الأجدر أن يكون لنا في ذلك درسا بان من حقنا أن نختلف في الفروع ما دمنا نتفق على الأصول فجميع الطوائف والمذاهب الإسلامية تؤمن بالله ورسوله وكتبه وتختلف فقط في القراءة والتفسير فكيف يمكن للاختلاف في الرأي أن يتحول إلى اختلاف على أصحاب الرأي أنفسهم وحياتهم.
إن مطلع ما قلته في رأس المقالة " كلما اختلفت مع رأيه سحب " مقدسه " الشخصي وأفرغه في رأسي" هو اختصار لكل ما أردت قوله هنا فحين اختلف معك في شروحاتك فانا لا اختلف مع الله أو على الله بل مع بشر مثلي وعلى رأي مثل رأيي فلما تلجا وفورا في استخدام المقدس كمسدس لا لتطلقه على رأيي بل على راسي ويتحول اغتيال الرأي بالرأي إلى اغتيال لصاحب الرأي ويتحول مقدسك مسدسا ضد راسي لا مقدسا ضد مقدسي إن جاز التعبير, وقد استمعت إلى احد رجال الدين يتحدث بكل الجرأة من على منبر صلاة الجمعة قائلا برفضه للسنة كرفضه للشيعة ويدلل على ذلك بأنه في زمن الرسول محمد عليه السلام لم يكن هناك لا شيعة ولا سنة وقد كان من حقه أن يتساءل من الذي أعطى أولئك أو هؤلاء الحق بإعلان طريقتهم أو مذهبهم أو مدرستهم أو قناعاتهم صفة القداسة المطلقة وكفر غيرهم والرسول وحده الذي كان على الأرض حاملا رسالة الله وكما صرخ أبو بكر الصديق فان محمدا قد مات فلا احد بعده يملك مثل هذا الحق فكيف قبلنا بالتسليم لمن هم مثلنا بان يسرقوا منا إيماننا بالله ورسوله ليصبح إيمانا بهم وبأقوالهم.
لقد غاب العقل النقدي عند العرب بعد ابن رشد بل وحتى بعد الآخرين الذين حاولوا البحث والتفسير بكل السبل وان كنا لا نتفق مع بعضها إلا أن أولئك لم يدعونا للتسليم بأقوالهم حد العبادة والقداسة فهم اجتهدوا فقط وذهبوا في حالهم وكل ما في الأمر أن البعض من بعدهم وجد في أقوالهم مصلحة ما له فتوقف عندها وأراد لنا جميعا إن نتوقف هناك معه رغما عنا وعن عقولنا وهذا يشبه أولئك الذين جعلوا من بوذا إلها وهو لم يكن يريد ذلك ولم يسعى إليه ولم يقل به وحتى اليوم والبعض يختلف مع الوهابيين أو يوافقهم على رؤيتهم لمكانة غير القرآن وغير الله إلا أن لهم رأيهم وللآخرين رأيهم لكن أحدا من الطرفين لم يترك الأمر لله ليفصل به يوم القيامة التي نؤمن به جميعا وهو ما أراده الله وما قاله الإسلام في أصله وهو القران الكريم ومن ناقله وهو رسول الله.
الأمر لم يتوقف عند الإسلام ونصوصه وعلومه بل انتقل بالتأكيد ليصبح نهج حياة لنا في كل تعاملاتنا فقد بتنا نتوقف عن كل قناعة ولا نغادرها مهما استجد علينا وعلى الحياة فمن يرتدي زيا معينا يتهم كل الأزياء الأخرى بأبشع النعوت وكذا الأكل والشرب ومن لا يستخدم التلفزيون يكفر من يستخدمه ومن يلبس على رأسه يكفر من لا يلبس ومن يؤيد الموقف السياسي كذا يكفر من لا يؤيده وهكذا حتى أصبح كل شخص فينا ألها صغيرا لا يقبل غيره على وجه الأرض وبالتالي صار الموت هو الحل فلكي يعيش رأيي يجب أن تموت أنت ما دمت تختلف معه فالحياة لرأيي والموت لرأيك باتت بقدرة قادر الحياة لي والموت لك, وما دام ذلك هو نمط تفكيرنا وحياتنا وما دمنا لا نقبل الرأي الآخر ولا نسعى حتى لامعان النقد برأينا وفحصه ولا نقبل مجرد الاستماع لرأي الآخرين بما نقول وما نفعل حتى ولو كان ذلك مصلحة لتطوير ما لدينا فان الجمود والموت هو النتيجة التي سنصل إليها معا فهناك على الأرض أيضا من يرفضنا فليس الوهابيين وحدهم من يختلفون مع سائر المذاهب والعكس بل هناك امبرياليين وأعداء لا يريدون لنا جميعا الحياة إلا عبيدا لهم ولمصالحهم وما دمنا نسلم بقتلنا لبعضنا لاختلافنا فسنسلم مجبرين بقتل غيرنا لنا لمصالحهم ولكي نواجه مصالح الغير ضد امتنا علينا أن نقبل اختلافاتنا على أنها لنا كحالة جمعية ولا نقبل اختلافنا فيما بيننا علينا وعلى وجودنا فالاختلاف أساس حياة ونهوض والسكون والارتهان لمطلقنا الذي صغناه بأيدينا ورأينا أساس موت وغياب.
قديما كانت المعرفة حكر على من يستطيع الوصول إليها وقد كان بإمكان من يستطيع أن يستخدم معارفه لصالح استعباد الآخرين الذين لا يستطيعون له ولمصالحه وأغراضه فالذين لا يعرفون القراءة كانوا مجبرين على قبول ما يقرا لهم من يستطيع وبالتالي فان من يملك الثروة كان يمكنه أن يملك المعرفة وتنامت العلاقة بين المعرفة والثروة بصورة متلازمة حتى يومنا هذا إلا أن الثورة الرقمية وثورة المعرفة التي اجتاحت الأرض جعلت المعرفة اليوم في مهب الريح وان تناقضت فهي باتت ملك من يقرا ومن يسمع ومن يرى فوسائل الاتصال والتواصل لم تعد حكرا على الكلمة المكتوبة بل هي اليوم ممكنة بواسطة الصورة لمن لا يقرأ والصوت لمن لا يرى وهي لم تعد محصورة بجهاز باهظ الثمن أو بقدرة محدودة على السفر إلى مكتبة بعيدة في لندن أو باريس أو واشنطن أو موسكو أو بكين فكل مكتبات ومعارف الأرض اليوم موجودة على أجهزة صغيرة ورخيصة كالهاتف النقال أو الحاسوب وتدريجيا ستقل كلفة الوصول إلى المعلومة وتصبح ملكا لكل كائن بشري وسيضعف أولئك الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة أمام قدرة العامة على الوصول إلى حقائق غيره المناقضة أو المختلفة مع حقيقته أو حتى الناسفة لها من جذورها فقد بات بالإمكان اليوم للجميع التعرف على الفوارق بين الآراء والمعتقدات ومقارنتها وإمعان العقل فيها بعيدا عن تأثير أصحاب السلطة والسلطان ولن يستطيع حاكم أو ثري اليوم أن يغطي الشمس بغربال معارفه هو وحاشيته ومنتفعيه وأدواته ليدفع بالناس للموت دفاعا عن معتقداته هو لا عن مصالحهم وحياتهم ومعتقداتهم المتحررة من قيود احتكاره للمعرفة والثروة بعد أن يصبح ذلك في خبر كان وهذا بات قريبا جدا جدا وقد انطلقت رحلة الزمن باتجاه عصر المعرفة المتاحة للجميع بلا استثناء كونها السلاح الوحيد الذي سيلغي قدرة البعض على ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة.
لم يعد بإمكان أصحاب الثروة وسلطان المعرفة اليوم أن يجرموا العقل النقدي بعد أن أصبح بإمكان المرء أولا أن يمارسه منفردا وبعيدا عن عيونهم وقد غابت إلى الأبد قدرة البعض على منع العامة من قراءة هذه المعلومة أو تلك بمنع وصول هذا الكتاب أو ذاك أو هذه الجريدة أو تلك ولم يعد ممكنا التنصت على أبواب وشبابيك المواطنين ليعرف الحاكم أي إذاعة معادية استمعوا إليها وبات من غير الممكن حتى التشويش على وصول المعرفة التي نشرت في فضاء الكون كالهواء وصارت متنفسا تماما كالأوكسجين لا حياة بدونها.

 


بقلم
عدنان الصباح