الدبلوماسية الفلسطينية بوجه أخر بين سطوري

بقلم: زهير الشاعر

مقالي اليوم سيتحدث بطريقة مختلفة تماماً عما سبق في مقالات كثيرة، قدمت خلالها شرحاً مطولاً عن سلبيات السفارات الفلسطينية وهي هائلة نتيجة الظروف المتداخلة حولها والتدخلات الكبيرة  فيها  لمنع إستقلاليتها وإغراقها في التجاذبات القائمة، وقد إتهمني البعض في حينه بأن كلماتي تلك كانت نابعة من حالة غضب شخصية أو بأنها كانت تتساوق مع نهج يستهدف سلطة الرئيس محمود عباس، وهنا لا بد من التأكيد على أن هذه الأراء لم  تكن  يوماً تضيرني بالمطلق أو تزعجني لأن الدقة كانت تجافيها، لا بل هي كانت حافزٌ لتشجيعي على المضي قدماً في السير في طريق البحث عن الحقيقة لتقديمها للقارئ الكريم مجردة بدون رتوش.

لذلك فإن كلمات هذا المقال لربما تكون صادمة للبعض كونها تثني على الحالة المستهدفة في الموضوع ، حيث أنها جاءت في سياق بعيد  عن حالة التوتر القائمة في الضفة الفلسطينية والآلية العنيفة التي يتعاطى بها رجال الأمن الفلسطينيين مع الأحداث السلمية القائمة هناك ، والتي في تقديري تمثل إنعكاساً طبيعياً للحالة المتوترة التي لم تعد تخفى على أحد .

هذه الأحداث التي أرى بأنها ليس لها علاقة بحالة تآمرية كما يحلو للبعض وصفها، وبالإمكان إحتوائها بالمنطق والعقل ،  حيث أنها نتاج طبيعي لحاجة الناس المُلِحَة لعلاج مشكلاتٍ إجتماعيةٍ وأمنيةٍ باتت سلبية للغاية وتراكمية على مدى سنوات، أدت إلى فقدان الأمل، مما جعلها شديدة الخطورة وبحاجة لعلاج جذري قبل إنفلاتها وتوسعها، حيث أن التعاطي معها بهذه العقلية والآلية العنيفة يحتاج إلى حكمة وإعادة نظر وإنفتاح إتجاه مفهوم الشراكة الوطنية، كما أنها لم تعد هي الطريقة السليمة التي تتناسب مع الظروف الصعبة التي يعيشها  أبناء الشعب الفلسطيني .

لذلك فإنني سأتحدث في مقالي هذا حول الدبلوماسية الفلسطينية وأهميتها الوطنية، حيث لابد من الإشارة في البداية إلى أنني عايشت زمن أربعة وزراء خارجية فلسطينيين سابقين ، منهم إثنين بشكل مباشر ومنهم لم يأخذ حظه لكي نعرف خيره من شره ، وهنا قد يستغرب البعض من تطرقي شخصياً لمثل هذا الأمر بوجه أخر مختلف عما سبق من أطروحاتي بهذا الشأن، وقد يتفاجئ البعض الآخر من مجمل هذا الموضوع ، وقد لا يعجب هذا الأمر البعض الآخر أيضاً في ظل إنحيازهم غير المرن للتعاطي مع الحقيقة، وبالتأكيد لن يعجب الفئة القليلة التي لا تعجبها مثل هذه الكلمات، خاصة أن هذا البعض ينتمي للفئة التي لا تعرف أن تترعرع إلا في مستنقع الخلافات والعمل على تعميقعها وخلق المزيد من العداوات والصراعات،  ولا تقبل أن تعيش في بيئة توافقية عنوانها التكامل والإحترام والإخلاص والعمل البناء الذي يقدره البعض الذي يثق بأن كلماتي لا تذهب في سياقٍ غير سياق الدعوة للوفاق.

وكون أن هناك من يصطادون في الماء العكر كعادتهم الوقحة بدأوا ينثرون سموم قلوبهم في الخفاء في الفترة الأخيرة، بوصف كلمات مقالاتي السابقة بأنها لا تسير حول مجمل المشهد العام، لا بل هي تترنح على ضفاف شاطئ هذا وذاك!، وهم يعرفون أنفسهم أكثر من غيرهم بأنهم هم المأجورين ولا يمثلوا سوى أحذية يتم إرتدائها وقت الحاجة إليها فقط ،  وأنهم في الحقيقة كالفئران لا يتمتعوا بالجرأة على المواجهة!.

لذلك  ومن منطلق أنني لا أشخصن الأمور كما كان يتهمني البعض وكما كان يتمتع البعض الآخر في السابق إذا جاءت كلماتي في سياق يخدم أهوائهم!،  ولست متخصصاً أيضاً في الهدم، لا بل لدي هامش كبير من المرونة التي  تعطيني الثقة بالنفس للمضي قدماً بالمساهمة في البناء حتى لو بالكلمة الحرة والأمينة والصادقة، حيث يزيدني ذلك إصراراً على أن أقول الأشياء بمسمياتها بغض النظر عن إن كانت تخص من تسبب لي بآلام وأوجاع عميقة  صعب إزالتها من الذاكرة، أو لا تتماشى مع رأي الآخرين فيها سواء إتفقوا معها أو إختلفنا حولها ، فأنتقد بشدة وبدون مواربة أو مجاملة في سياق ثقافتي المتمردة ولكنها أيضاً الرصينة، وخبرتي الدبلوماسية المتواضعة،  عندما أجد أن هناك حاجة للتصويب، وأثني  بقوة وبدون حرج على ما يستحق الثناء حتى لو كان ذلك يتعلق بمن بيننا وبينهم خلاف، وهذا قد حصل مع الكثيرين من قبل لأن طباعي نابعة من إيماني بمنطق المصلحة العامة التي يتوجب بأن تكون عنواناً للجميع وبأن  تكون مبنية على أساس فكرة التسامح مهما تعمقت الجراح!.

 هنا نود التأكيد على أن فكرة البناء الأمين والنقي تبدأ من جلد الذات قبل الثناء عليها ، لذلك عندما أبدأ حديثي عن ما يزيد عن ثماني سنوات عمل فيها د. رياض المالكي كوزير لخارجية فلسطين قاد خلالها الدبلوماسية الفلسطينية، أستطيع القول بأن الحظ قد حالفه وهذا لا يعيبه،  هذا إلى جانب عدم إغفال قدراته المهنية التي تطورت بشكل إيجابي وفعال وهذا لا يمكن أن ننكره عليه.

 وكون أن الحقيقة باتت ساطعة بدون شرح أقلام مشاغبة ومتمردة، وهي التي تنص بوضوح على أن إقصاء أبناء قطاع غزة من الدبلوماسيين الفلسطينيين لم يكن نهج الوزير المالكي أو توجهه هو، لا بل كان هناك آلية قبيحة متبعة خلف الستار، مبنية على أساس نظرية تقاسم الأدوار والمنافع وتقاطع المصالح،  لم يأتي بعد الوقت للكشف عنها  والحديث عن أفعالها بالتفاصيل المملة!، حيث أن هذه الأفعال كانت ولا زالت تصب في صالح هدف السيطرة على المقدرات والنفوذ تحت غطـاء متطلبات سياسة عامة باتت مفضوحة ومكشوفة، وكان لنا الشرف والدور الأبرز في فضحها وإفشالها بقوة وجرأة وإن إحتاج الأمر سنمردغ أنفها بالتراب حتى لا يظن الآخرين من المختبئين من أصحاب تبني فكرة هذا النهج المشبوه بأنهم بعيدين عن المسائلة والمحاسبة والملاحقة وبأنهم غير معروفين لدينا أو أننا من أصحاب الأقلام المرتعشة!.

لذلك في تقديري بأنه مما لا شك فيه بأن رأس هرم الدبلوماسية الفلسطينية د. رياض المالكي أطاح بكل خصومه وطوع كل من وقف في طريقه وأزاح كل عقبة أمام رغبته بنجاح عمله من خلال إجتهاده ونيله ثقة مرجعيته المتمثلة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ، وكان ذكياً في صناعة التحالفات وفهم متطلبات الآخرين وإنتقاء ما يخدم بقائه في منصب تكثر عليه الصراعات ، وبالرغم من ذلك كانت السهام ولا زالت تتقاذف بإتجاهه من كل حدبٍ وصوب خِفافاً وثقالاً،  ولكنه بقي صامداً، يعرف طريقه ولا زال ، حيث كثف من نشاطه بإقتدار بالرغم من المتربصين به أمام كل هذه الرياح العاتية والأمواج الجارفة التي عاكسته.  

كيف لا ، وقد كانت التصريحات المتقدمة والمهمة التي أدلى بها وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون في مؤتمر صحفي معه في رام الله مؤخراً حول دعم بلاده الكامل لمبدأ حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ورفضها لعمليات الإستيطان التي تقوم بها  إسرائيل على أراضي الضفة الغربية، نتاج جيد لأداء الدبلوماسية الفلسطينية لا يمكن تجاهله، حيث جاء هذا التصريح المهم في خضم التحديات التي باتت تواجه هذا الطرح لا بل تواجه عملية السلام برمتها.

 كما أنه لا يمكن إغفال أهمية مطالبة الوزير المالكي للوزير جونسون  بضرورة إعتذار بريطانيا عن ما تسبب به وعد بلفور المشؤوم للشعب الفلسطيني من آلام وتشريد ،  وأن يكون هناك توجه واضح لبريطانيا بالإعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة، حتى لو كان ذلك بعيد المنال كما أشرنا في مقالات سابقة.

أخيراً ، من باب الإنصاف الذي لا يتوافق مع قناعاتنا حجبه، لابد من الإشارة إلى أن هذا يعني أن الدبلوماسية الفلسطينية لا زالت تتمتع بموفور من الطاقة العالية المخزونة ، للتواصل حول الشأن الفلسطيني مع دول العالم بغض النظر عن التوافق مع الآلية الدبلوماسية القائمة أو الإختلاف معها،  بالرغم من القناعة بأنها باتت تحتاج بلا شك إلى بيئة سوية بعيداً عن التدخلات بفرض أمر واقع عليها أو وضع العراقيل في طريقها، وذلك من أجل حصد نجاحات لا زالت مرجوة، ولا أعتقد أن هناك داعٍ للتقليل من شأن الجهد الذي يبذل في هذا السياق!.             

م. زهير الشاعر

كاتب ومحلل سياسي

فلسطين       

[email protected]