في فلسطين أول العدل إقدام وجرأة

بقلم: جواد بولس

نقلت الأخبار يوم الأحد الفائت تفاصيل اجتماع عقده قادة "المؤسسة الأمنية" الفلسطينية وترأسه الدكتور رامي الحمدالله، رئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الداخلية، لبحث مجريات وتداعيات أحداث "مبنى المحاكم" في مدينة رام الله.
جاء ذلك بعد يوم تركت أحداثه طنينًا مؤذيًا في سماء وطن يبحث عن بشارة وثورة، وينتظر ميلادًا عساه يبرعم في حضن صباح سرّته مجدولة من نور، وصرخاته كرامة وحرية وإصرار.
شاشات الفضائيات امتلأت بصور هراوات يمسكها رجال أمن فلسطينيون ويهوون بها على رؤوس وأجساد شابات وشبان فلسطينيين، تجمعوا أمام مبنى المحاكم ليحتجوا على استمرار متابعة محكمة صلح المدينة لملف خمسة شبان تتهمهم النيابة العامة بحيازة سلاح غير مرخص، ومن بينهم كان الشهيد باسل الأعرج، الذي طلبت النيابة في تلك الجلسة إسقاط التهمة عنه، بسبب استشهاده على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، ما أفضى إلى ضرورة إنقضاء الدعوى الجزائية المقدمة بحقه، كما كتب سعادة القاضي في نهاية قراره الصادر ومضيفًا بحق رفاق باسل: "والسير بها حسب الأصول ووفق ما رسمه القانون عن باقي المتهمين، حيث لا يصح قانونًا إصدار أي حكم بخصوصهم إلا بعد سماع البينة، وحيث تقدم وكيل أحد المتهمين بهذه الجلسة بما يفيد أن المتهمين الأربعة في سجون الاحتلال، فإن المحكمة تقرر تبليغ المتهمين المذكورين بالإلصاق على آخر محل إقامة، والتعليق على لوحة إعلانات المحكمة، وانتظارًا لذلك رفع الجلسة إلى يوم 30 نيسان/أبريل المقبل.
هكذا قضت، باسم القانون، المحكمة في إحدى قاعاتها، بينما سقط في الخارج، باسم القانون أيضًا، عدد من المصابين والجرحى، كان من بينهم والد الشهيد باسل الأعرج وبعض الصحافيين. في الإعلام انتشرت صور فرق أمن فلسطينية مدججة ومتمرسة "بمكافحة الشغب" وهي تواجه حشدًا من المحتجين الفلسطينيين، ربما المزعجين للبعض، لكنهم كانوا مسالمين، والصراخ يملأ الفضاء، ويبث لجميع أرجاء المعمورة، في مشهد لم يحمل إلا رسالة واحدة، رسالة اللامعقول، وصوتًا واحدًا، صوت الجرح.
لم أقوَ على متابعة جميع ما بث ونشر، فصوت فتاة واحدة كان يردد بما يشبه الحشرجة "ولكو هادا أبو الشهيد، يا الله.. أبو الشهيد" كان كافيًا ليستفز "هموم عيني"، فهي كانت تصرخ في "الفيلم" وتولول دالفة وراء مجموعة من رجال الأمن المنكبين فوق جسد رجل ممدد على الأسفلت، بصمت عاجز وبهدوء "فريسة"، ويتلقى ما تقوله السواعد للهراوات وما تلقنه أرجل الرجال العابثة.
بعد مشاهدتي لذلك الفيديو قررت أن أداري روحي وأمنع عنها الصدأ والصدى، فبعد أربعين عامًا من الوقوف إلى جانب أبناء شعبي الفلسطيني في وجه هراوات الاحتلال الإسرائيلي وبساطير جنده، خفت على قلبي وقررت أن أحميه من خيبتي الكبرى والسقوط في مهاوي العدم.
لقد قرر الدكتور رامي الحمدالله وبتوجيه من السيّد الرئيس محمود عباس، تشكيل لجنة تحقيق، بعضوية وكيل وزارة الداخلية اللواء محمد منصور ومدير عام الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان د. عمار الدويك ونقيب المحامين السيد حسين شبانة، "للوقوف على أحداث مبنى المحاكم في رام الله، لضمان الوصول إلى حقيقة ما حدث". بالتوازي مع هذا القرار وبعد أن استقبل في مكتبه وفدًا من نقابة الصحافيين شدد رئيس الوزراء "على التزام القيادة والحكومة الكاملين بحماية الصحافيين الفلسطينيين ومحاسبة مرتكبي الاعتداءات بحقهم، والرفض المطلق للاعتداء عليهم، مجددًا تأكيده دعم القيادة والحكومة المطلق لحرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام".
يجب النظر بإيجابية لردة فعل القيادة الفلسطينية وتفاعلها مع أحداث ذلك اليوم، فإقامتها للجنة تحقيق مهنية فيه من الإقرار بجسامة ما حدث قسط، ومن الرغبة بتفادي ذلك في المستقبل أقساط، لاسيما عندما نقرأ التزامًا صريحًا معلنًا من قبل رئيس الوزراء يفيد بضرورة: "محاسبة مرتكبي الاعتداءات بحق الصحافيين والرفض المطلق للاعتداء عليهم مجددًا".
هنالك من سينتقص من حجم هذا الالتزام وأهميته متذرعًا بتخصيصه جمهور الصحافيين الفلسطينيين، كما جاء في النص، وعدم اشتماله على جميع من شارك أو أصيب في الاعتداءات؛ إلا أنني أرى بتركيبة لجنة التحقيق وبالمؤسسات التي يمثلونها (وأنا أعرفهم جيّدًا) كفالة لقيامهم بواجبهم بشكل مهني وبمسؤولية وطنية، فنقابة المحامين مؤتمنة على السلم العام وسلامة الجمهور، وقبلهما على سيادة القانون وحمايته لحقوق الناس الأساسية وكراماتهم الشخصية، ومثلها الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان، التي أنشئت في حينه لتكون ديوان المظالم الفلسطيني المستقل والنزيه، ولتحمي المواطن من عسف السلطة وضيم أجهزتها ومؤسساتها.
لن يكون عمل اللجنة سهلًا، خاصة إذا ما لاحظنا لغة كتاب التكليف ومفردات صيغته العامة وحدوده الواسعة، مع هذا فإنني على قناعة أنها قادرة على حصر ورصد تفاصيل تلك الأحداث المؤسفة، وضبط محطات تداعياتها، ومتى وكيف آلت إلى ما آلت إليه، وبعدها التوصل إلى مخرجات من شأنها تخفيف حدة التوتر المتعاظم في الشارع الفلسطيني، ومعاقبة من أخطأ؛ أمّا المهمة الأصعب فستبقى في قدرتها على وضع توصيات ومبادئ عمل كفيلة بعدم حصول مثل هذا الصدام في المستقبل. فهل سيكون ذلك ممكنًا؟
في قدرة أعضاء اللجنة حل "شيفرة" ما حصل عينيًا أمام مبنى المحاكم، لكنها إذا ما اكتفت بهذه المهمة، فلن يكون لتوصياتها تأثير على المستقبل؛ لذلك أرى أن ملامسة جذور المشكلة الحقيقة وسبر مفاعيلها، بصبر فدائي وبمسؤولية وطنية عليا، هي الهدف الأسمى الذي على اللجنة بلوغه، فمن لا يلاحظ الغربان وهي تحوم في سماء فلسطين يبقى أعمى ومتجاهلًا، ومن لا يستشعر الخوف من الأسوأ يهمل نداء الضرورة إلى فتح قاموس جديد، يؤسس لحقبة مختلفة تضبط عمل "المؤسسة الأمنية" التي قد تكون بحاجة إلى إعادة نظر في بعض مضامين أهدافها الوجودية، وتصويب فهمها وطبيعة عقليتها المحركة لنشاطها ولردات فعلها، كما تجلّت، مثلًا، في مواجهاتها لاحتجاجات "مبنى المحاكم" وقبلها في أحداث مشابهة في بيت لحم أو نابلس ومناطق فلسطينية أخرى.
لن يتعاطى هذا المقال مع قضية التنسيق الأمني بين "المؤسسة الأمنية" الفلسطينية و"المؤسسة الأمنية" الإسرائيلية، على الرغم من أهمية هذه المسألة وكونها خلافية على المستوى الوطني، وكذلك لوجود بعض نقاط التماس والتشابك بينها وبين ما أقترحه هنا كروافد على لجنة التحقيق أن تسلكها وتضع أصابعها على بعض منابعها.
فموضوعنا هنا لجنة التحقيق، وانتظارنا منها أن تؤكد على أولوية مكانة المواطن الفلسطيني وكونه رأس مال الوطن وذخيرة المستقبل، رغم تعقيدات الحالة السياسية واختلافها عما كانت عليه قبل اتفاقية أوسلو، وما طرأ عليها بعد ذلك من تدهور خطير، جراء انفصال غزة؛ "فالمواطن" يجب أن يعيش آمنًا وحرًا وكريمًا ليبقى سندًا لوطنه وحليفه غير المبدل، ويكفيه، في حالتنا، ما يواجهه من قهر الاحتلال وقمعه وذله.
من غير إيعاز وتدخل من الأعلى لن تتم إعادة تأهيل العلاقة بين "المؤسسة الأمنية" والمواطنين وبناؤها على أسس من الحقوق والواجبات التي تضمن سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه وتضمن، كذلك، حرياتهم الأساسية؛ فما نراه اليوم في فلسطين ونلمسه هو نمو هوة كبيرة بين قطاعات واسعة من الناس تريد أن تمارس حياتها السياسية والتعبير عن مواقفها بحرية، وبين السلطة وأجهزتها، وإذا ما تم جسر هذه الهوة فستبتلع الجميع إلى بطنها. وعلينا ألا ننسى أن أفراد الشرطة والأمن الفلسطيني هم من أبناء هذا الوطن، وبعضهم كان قد أمضى سنوات في سجون الاحتلال وعانى من قساوة السجان وبطشه ( وقد تشرفت بالدفاع عن العديد منهم) واليوم حين نراهم يرفعون الهراوة على والد شهيد، ما زالت دماؤه فوّارة، وهو ملقى أمامهم على الأرض يتلقى ضرباتهم، ينتفض الجسد ويتجمد العقل، فكيف من الممكن أن يحصل هذا؟ وأن يصير المشهد طبيعيًا ومقبولًا؟
ما الذي يغير ذاك المناضل "خريج" سجون الاحتلال ليصبح مثل سجانه؟ فهل يعي هذا الجندي أن فلسطينه ليست دولة كاملة السيادة، وسلطتها تعمل بصلاحيات منقوصة، هل يعرف أن ما يبرر تصرفات أنظمة الشرطة والأمن وقمعها أحيانًا في دول مستقلة، هو غير منطبق في حالة فلسطين المحتلة، وعندما يضرب هو مناضلًا أو والد شهيد دون سبب وتبرير "أمني" أو غيره، يتصرف عمليًا عن خلل بنيوي وقيمي ووطني يستصرخ أصحاب القرار ويدعوهم لأن يصححوا المسار ويقوّموا المسيرة.
على لجنة التحقيق أن تعي وتفهم أهمية ما صرح به رئيس الوزراء، وبايعاز من السيد الرئيس، وتمضي في مهمتها الكبيرة، في سبيل رفع راية فلسطين النقية وإعادة اللحمة لأخوة يعيشون كلهم تحت الاحتلال، فبدون ذلك سيبقى جميع الضاربين والمضروبين بالهراوات ضحايا لقهر محتل ما فتئ ينظر من بعيد ويقهقه ساخرًا ومستشفيًا كيف يتناحر الإخوان، وحيزات تحرك جميعهم وتنفسهم ليست أوسع من هامش تصريح، ومن خرم بندقية يحملها جندي تعمّد في جرن الاحتلال وعنجهيته، وينتظرهم عند أقرب حاجز ومنحنى.
فأول العدل إقدام وجرأة!

جواد بولس
كاتب فلسطيني