باسل الأعرج: الفدائي الكامل

بقلم: سيف دعنا

* "في يوم من الأيام، جاءوا وسألونا عمن ينبغي إبلاغه في حال وفاتنا، وحقيقة إمكانية حدوث ذلك صعقتنا جميعا. لكننا أدركنا لاحقاً أنها حقيقة، وأنه في الثورة الحقيقية أنت تنتصر أو تموت".
من رسالة تشي غيفارا في وداع فيديل كاسترو

* "هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعَره المترفون، وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى".
الإمام علي بن أبي طالب

"تشي غيفارا هو الإنسان الأكثر كمالاً في عصرنا"، ليست عبارة تبجيل أو مديح أو حتى رثاء بليغ صادر عن أحد أهم مفكري أوروبا في القرن العشرين لأحد أعظم المناضلين الأمميين الذين عرفهم العالم على الإطلاق. "الإنسان الكامل" هو توصيف فلسفي لنموذج فريد جداً من الثوار الذين عرفتهم الإنسانية.

فـ تشي غيفارا، يقول جان بول سارتر، "كان مقاتلاً ومُنَظِّراً"، ولم يكن مقاتلاً فقط (أو حتى مقاتلاً عادياً)، أو منظراً فقط (أو حتى منظراً عادياً)، ألهمت تجربته الثورية واشتباكه المباشر النظريات الثورية التي طورها وانتصر بها وتركها لنا من بعده. و"الإنسان الكامل" كمفهوم، وكرؤية فلسفية لدور الفرد في التاريخ، ما كان ليصدر حينها إلا من جان بول سارتر تحديداً (ربما من مارتن هايدغر أيضاً، لكن، وبالتأكيد، ليس من لويس ألتوسير)، ولم يكن ليصدر كذلك إلا في توصيف تشي غيفارا بالذات. فهو يختصر خلاصة مسيرة وعمل ونضال الفيلسوف الوجودي-الماركسي الأهم في مفردة مكثفة جداً تختصر أيضاً تجربة الثائر الجنوبي الأهم في العصر الحديث. فكل مساهمات سارتر الفلسفية والنظرية وحتى الأدبية التي ساهمت في تغيير رؤيتنا للعالم، وكل نشاطه السياسي الطويل واشتباكه المباشر مع السلطة، تجسدت له في تجربة ثائر واحد حينها هو تشي غيفارا.
صحيح أن الثائر الجنوبي الفذ مكّن الفيلسوف الفرنسي حينها من تلخيص، وربما حتى إدراك، جوهر مشروعه الفكري الذي زاوج بين الوجودية والماركسية ونقاشه للحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية وتجربته الطويلة كناشط سياسي بعبارة واحدة: "تشي غيفارا هو الإنسان الكامل". لكن، في عبارة سارتر، الذي يحتل مكانة مهمة جداً ومميزة جداً بين مفكري وفلاسفة أوروبا في القرن العشرين (قارنه شارل ديغول بفولتير حين أمر بالإفراج عنه من الاعتقال) نوع من الحسد والاعتراف الواضح بأن هذه المكانة العظيمة جداً، رغم ذلك، تبهت جداً جداً أمام تجربة ثائر من الجنوب بقامة تشي غيفارا. ففي الوقت الذي كان سارتر يكتب عن الأدب المشتبك والكاتب المشتبك في نصه العبقري "ما الأدب؟"، كان تشي غيفارا يحمل بندقيته ورصاصه ودفتر ملاحظاته أيضاً ويتنقل بها بين الجبال والوديان والغابات من معركة إلى معركة ومن بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة.
لكن فكرة "الإنسان الكامل" ليست جديدة، وفي الحقيقة ليست أوروبية المنشأ على الإطلاق، برغم أنها كانت ولا تزال تكتسب معنى مختلفاً في كل حقبة وكل مكان وبحسب المرجعية الفكرية. وبرغم أن التأريخ للفكرة يسبق الحضارة العربية والإسلامية (المعتقدات الإيرانية الأبستاقية، مساهمات العصر الهيليني، المانوية، المعتقدات السامية المسيحية – انظر هيثم مناع "الإنسان الكامل في الثقافة العربية") إلا أن تاريخنا يتضمن سرديات جاهزة لفكرة "الإنسان الكامل" وهي أساساً على علاقة بـ "الحقيقة المحمدية" ("قطب الأرواح وروح الموجودات" النبي محمد، كما يذكر في بعض الفكر الصوفي). والفكرة تتمحور أساساً حول تصور فلسفي للإنسان ومكانته ووظيفته الكونية، وهوما يستتبع إما إيماناً بحرية الإنسان ومساواة بين البشر أو عبودية وخضوع ولا مساواة ـ لم يكن بلا معنى، إذن، اقتباس الشهيد باسل للإمام الحسين في رسالته من سجون سلطة عباس: "ألا أن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة".
وفي السرديات العربية الإسلامية تكتسب الفكرة معاني مختلفة في الزمان والمكان (وتأثير المرجعيات الفلسفية أحياناً) برغم تأويل الكثير منها لذات المصادر في أحيان كثيرة (سورة الإسراء: آية ٧٠ وسورة البقرة: آية ٣٠) التي تحدد مكانة ودور ووظيفة الإنسان الكونية. وبرغم أن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي هو أهم المراجع الصوفية (الفتوحات المكية تحديداً –انظر محمود الغرّاب "الإنسان الكامل والقطب الغوث الفرد: من كلام الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي") إلا أني أظن أن الصوفي المتأخر "الشيخ عبدالكريم الجيلي" الذي أفرد كتاباً بذات العنوان، "الإنسان الكامل"، لم تكن مساهمته أقل من الشيخ الأكبر، إن لم تكن أكبر في توسيعه للمفهوم. و"الإنسان الكامل" ظل يكتسب معاني مختلفة في العصور المختلفة وشكلته رؤى فلسفية مختلفة من "إخوان الصفا" الذين رفضوا التعصب وانفتحوا على جميع المعارف من أجل "التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية" كشرط للإنسان الكامل، إلى المعتزلة الذين قالوا بأن "كمال الإنسان في كمال العقل". لكن، وكما يشير مناع محقا، فربما يكون كتاب "تهذيب الأخلاق" ليحيى بن عدي هو فعلاً الكتاب الأول في فلسفة الأخلاق باللغة العربية، حيث يقول: "الإنسان التام هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنعه رذيلة، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان. فإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد، فهو بالملائكة أشبه منه بالناس".
يحتاج نقاش المفردة في السرديات العربية والإسلامية إلى مساحة كبيرة جداً، لا مكان لها هنا. لكن ذكرها هو للتأكيد فقط أن المرجعية للإنسان الكامل هنا ليست أوروبية برغم افتتاح هذه المحاولة بسارتر. المرجعية هي عالمثالثية/جنوبية رمزها تشي غيفارا وستيف بيكو وفرانز فانون وغسان كنفاني ووديع حداد الذين شكلوا، برأيي، نموذجاً للتكامل بين المقاومة والوعي، بين المقاومة كعلم وحقل معرفي والوعي المقاوم. هذا ما أعطانا المثقف المشتبك.

الاشتباك

الاشتباك هو مفهوم متخصص من ضمن قاموس المفردات السارترية (من سارتر) التي تشير إلى استعداد الكاتب/المثقف لقبول وتحمل المسؤولية عن تبعات المواقف السياسية الفردية. لكن سارتر الذي ناقش المفهوم من خندق الكاتب والفيلسوف أساساً (تحديداً في "ما الأدب"؟ وطوره أكثر لاحقاً في تصديره لمجموعة ايميه سيزير وليوبولد سنغور "أورفيوس الأسود" بضمه الشعر للكتابة أيضاً كحقل اشتباك ممكن بعد أن كان قد استثناه في "ما الأدب"؟)، ورأى فيه أداة ممكنة لإعادة تشكيل الوعي، اختبره لاحقاً وبشكل مباشر وحقيقي سجناً وتعذيباً بسبب موقفه النقدي والرافض للاستعمار الفرنسي للجزائر (انظر تصديره الاستثنائي لكتاب هنري أليغ، "القضية"، عن التعذيب في سجون المظليين الفرنسيين).
لكن جوهر فكرة الاشتباك، في الحقيقة، هي في أساس تيار/تقليد أساسي في علم اجتماع المعرفة، إن لم نقل أنه جوهر تيار/تقليد أساسي في علم الاجتماع عموماً كحقل وفكرة، وتسبق كثيراً مساهمة سارتر لمفردة "الإنسان الكامل" ونظرية "الأدب المشتبك" (أنصح بقراءة ايرنستو لاكلو وشانتال موفيه: "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية" كنموذج لطريقة التفكير المقصودة هنا). وهي أيضاً في أساس الجدل القديم الجديد حول المثقفين ودورهم. فالكاتب المشتبك (ولاحقاً الشاعر المشتبك عند سارتر) تبنى في الحقيقة على مفهوم المثقف العضوي، عند أنطونيو غرامشي، "المنخرط" دائماً والذي "يجهد لتغيير العقول"، كما عَرَّفَهُ إدوارد سعيد في "صور المثقف". في مقابل هذا التقليد الذي أصبح عنوانه الأساسي الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، هناك أيضاً من يفترض اشتباكاً من نوع مختلف مبني أساساً على تصور مختلف للمثقف ودوره، كما هو مثلاً عند جوليان بندا صاحب "خيانة المثقفين" أو حتى السوسيولوجي الأهم ماكس فيبر. فـ بندا، لا يفترض، مثل غرامشي أن "كل إنسان مثقف"، بل يرى أن المثقفين "فرقة صغيرة جداً من الفلاسفة فائقي الموهبة، وذوي التزام أخلاقي عال يجعلهم يشكلون ضمير الإنسانية." لكن، وبغض النظر عن التقليد والتعريف، فالاشتباك قائم في كل الأحوال، مرة عبر العمل الدؤوب لتغيير العقول، كما هو عند غرامشي، ومرة عبر الدفاع عن "المعايير الأزلية للحق والعدل"، كما هي عند بندا.

عرف باسل أن المطلوب في هذا الوقت بالذات هو المثقف المشتبك

في "ما الأدب؟"، كان على سارتر أن يناظر "شاباً أبله"، كما وصفه، لم يفهم على ما يبدو ما يعنيه سارتر بـ "الكاتب المشتبك" وأهمية ذلك، فطالب الفيلسوف والأديب بـ "الانضمام للحزب الشيوعي" كطريقة وحيدة ممكنة للاشتباك. كان عليه، كذلك، أن يجادل "كاتباً عظيماً" يرى أن "أسوأ الفنانين هم الفنانون المشتبكون" مدللاً على ذلك بما يقوم به "الرسامون السوفيات" حينها. كان عليه، أيضاً، أن "يجادل ناقد عجوز" شبه دعوة سارتر للأدب المشتبك بمحاولة "قتل/اغتيال الأدب" كون سارتر، حسب رأيه، "ازدرى الكتابة الجميلة" كمقياس للقيمة الأدبية وفضل عليه مدى اشتباك الكاتب. كان عليه أن يرد على "شخص تافه صغير العقل" وصف سارتر، ككاتب مشتبك، بـ "العنيد الأحمق". وأيضاً، كان عليه أن يجادل مؤلف يعتب على سارتر تنظيره للاشتباك وعدم اهتمامه بـ "البحث عن الخلود" الذي يمكن أن يوفره الأدب الرفيع للكاتب الفذ (انظر: "ما الأدب؟").
لكن الاشتباك اكتسب معنى جديداً ومختلفاً، وتجاوز مفهوم سارتر كثيراً، مع صعود فئة جديدة من المثقفين الذين عرفتهم مجتمعات الجنوب تحديداً في سياق النضال ضد الاستعمار والإمبريالية وجسدهم مفهوم "الإنسان الكامل" بشخصية تشي غيفارا. فالثقافة والمعرفة هنا لا تستهدف الاشتباك عبر الكتابة (كما في حالة سارتر) أو الشعر (كما في حالة ايميه سيزير أو ليوبولد سنغور)، بل عبر الرصاص والقتال بالمعنى الحرفي للكلمة. لم يعد مفهوم الاشتباك يحصر دور المثقف في مجال واحد، فهو ليس صاحب موقف سياسي نقدي قد يدفع ثمنه الكاتب أو المثقف سجناً أو تعذيباً، أو حتى حياته أحياناً. الاشتباك الثوري، كما هو في حالة غيفارا مثلاً، هو ديالكتيك الفعل والفكر في أرقى صوره على الإطلاق. فالاشتباك، كما عرفه أبطال الجنوب، ليس الاشتباك الثقافي البحت مع مثقفي الطرف الآخر فقط، ولا تسخير المعرفة والثقافة في خدمة النضال السياسي، ولا حتى في جعل النضال الهم الأول والأخير للمثقف. الاشتباك هو إدراك أهمية أن تصبح المقاومة حقلاً معرفياً (علم المقاومة) قائماً بذاته مختبره الميدان الفعلي للمواجهة، وأن تصبح الثورة أيضاً، مادة المعرفة الأولى والأخيرة والهم الدائم للمثقف التي يختبرها بنفسه ومباشرة في الخنادق والدشم والمتاريس وبين أزيز الرصاص على طريق تغيير العالم. والمثقف المشتبك هو صاحب وعي مقاوم يدرك حقيقة وأهمية المشروع الذي يناضل من أجله وارتباطه بالمشروع الأكبر على المستوى الإنساني ـ تغيير العالم.
وفي فلسطين، عرف باسل أن الاشتباك يأخذ معنى أعمق حتى من كل ما سلف وعرف أن المطلوب في هذا الوقت بالذات هو المثقف المشتبك. عرف أن المثقف يجب أن يكون كذلك في الطليعة: "وإذا ما بدك تكون مثقف مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك". والمثقف المشتبك كفكرة وممارسة ليس ظاهرة جديدة في فلسطين، كما يمكننا أن نستدل من كلمات غسان كنفاني، الذي وبرغم كونه عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية في حقبة خطف الطائرات كتب ما يلي: "كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه". فوق ذلك، أدرك باسل، كمثقف حقيقي، كيف يأخذ المفهوم في السياق العربي والسياق الفلسطيني في عصر النيوليبرالية الرأسمالية معنى وتعريفاً نظرياً عميقاً وأكثر تخصصاً وتطوراً حتى مما عرفناه واختبرناه في حقبة مقاومة الاستعمار في عالمنا الجنوبي. هذا بالتأكيد عرفه باسل عن قرب، كما يبدو من كتاباته ومحاضراته عن المثقف المشتبك ومن قراءاته كذلك (انظر عادل سمارة: "ثورة مضادة: إرهاصات أم ثورة" وأيضاً "المثقف واحد، وإذا تعدد خان").

فتنة المقاومة

لم يعد سراً مدى افتتان الشهيد باسل الأعرج بمعركة "زقاق الموت". تسمع وترى باسل يروي تفاصيل العملية لرفاقه فتتخيل أنه كان مسكوناً بهذه العملية، يحلم بها كل ليلة، وتظن أن أمنية قوية راودته دائماً بأن يكون الاستشهادي الرابع في معركة هي في الحقيقة حلم كل مقاوم حقيقي وأمنيته القصوى ("كنت في الثامنة عشرة حين سمعت للمرة الأولى عن "إطلاق النار من مسافة الصفر"، يقول باسل). فتنته تلك المعركة، كما يبدو. وهذا ليس غريباً، فالمقاوم الحقيقي، والمثقف المشتبك، قد يصيبه الهوس الشديد حقاً بعمليات من نوع "زقاق الموت" أو عيون "الحرامية" أو "الدبويا"، أو مواجهة من طراز "بنت جبيل" و"الشجاعية"، أو صمود أسطوري "كقلعة شقيف" و"عيتا الشعب"، أو معركة عظيمة كـ "ديان بيان فو"، أو تسجيل رقم قياسي جديد مثل الصاروخ الأول الذي ضرب تل أبيب، أو حيفا، أو "ما بعد حيفا".
وليس غريباً أن تفتن عملية "زقاق الموت" بالذات مقاوم من نوع خاص كالشهيد باسل. فـ "زقاق الموت" (الخليل ١٥ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٢) كانت علامة فارقة جداً في تاريخ علم المقاومة بكسرها الكثير من الأرقام القياسية جعلت كل مقاوم حقيقي يحسد أبطالها فعلاً ويتمنى لو كان واحداً منهم. فوفق منطق علم المقاومة الذي كان باسل أحد تلامذته وأساتذته، أصبحت هذه العملية الفذة تشكل التحدي والرقم الصعب الذي يتوجب على كل مقاوم مبدع و"مثقف مشتبك"(مقدم ومصمم على المواجهة) أن يتعلم منها ويستخلص دروسها للارتقاء بالمقاومة وأن يعمل على كسر رقمها القياسي برقم قياسي جديد. والرقم القياسي هنا ليس مقصود منه عدد قتلى العدو، فهذه قضية أخرى (رغم أن زقاق الموت شكلت رقماً قياسياً في هذا المجال أيضاً من ناحية عدد قتلى العدو وعدد الرتب العسكرية الرفيعة التي سقطت في عملية واحدة). الرقم القياسي المقصود هو معنى العملية في السياق العام للمواجهة زمانياً ومكانياً وحسب الظرف الذي تعيشه المقاومة والقضية التي يناضل المقاوم من أجلها، وتأثيراتها المتعددة (النفسية والعسكرية والثقافية) على كل الأطراف (تأثيرات عملية الويمبي للبطل خالد علوان ورفاقه بعد احتلال بيروت، مثلاً، كانت أكبر بكثير من عدد قتلى العدو حينها). المعنى المقصود، أيضاً، هو مدى وكم نتعلم من كل عملية مقاومة من أجل العملية القادمة والمعركة القادمة (لأن العدو أيضاً يتعلم ويستخرج العبر) ولأنه يجب على المقاومة أن تظل متقدمة على العدو دائماً خطوة واحدة على الأقل في التفكير والتنفيذ، لا لتحبط مفاعيل تفوقه التقني فقط، بل ولتنتصر عليه رغم ذلك.
اللافت أن أبطال "زقاق الموت" (ذياب المحتسب، ٢٢ عاماً، ولاء الدين سرور ٢١ عاماً، وأكرم الهنيني ٢٠ عاماً) كانوا مثل باسل مفتونين ومهووسين ومسكونين بإحدى عمليات المقاومة السابقة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ المقاومة أيضاً وسجلت رقمها القياسي، كما يبدو من اختيارهم لهذا الموقع بالذات للعملية. يبدو أنهم كانوا يحلمون بعملية الدبويا (٢ أيار ١٩٨٠) رغم أن أياً منهم لم يكن حتى قد ولد حين حدثت، وحلموا بالمشاركة بها، وكانوا مصممين، بعد دراستها جيداً على كسر رقمها القياسي. فزقاق الموت هو، هو، ذات الطريق التي مر بها المستوطنون الصهاينة في الثاني من أيار ١٩٨٠ (ويسيرون بها كل مساء جمعة) باتجاه الحرم الإبراهيمي. هناك، وعلى أسطح بعض مباني المنطقة، كان أربعة فدائيين (عدنان جابر، ياسر زيادات، تيسير أبو سنينة، ومحمد الشوبكي) بانتظارهم وأمطروهم بالرصاص والقنابل (انظر المقاوم تيسير أبو سنينة يروي تفاصيل العملية على يوتيوب).
لكن زقاق الموت بعدها، وخصوصاً في ليالي الجمعة والسبت يتحول إلى ثكنة عسكرية لحماية المستوطنين الذين يعبرون باتجاه الحرم الإبراهيمي. كان هذا الرقم القياسي الذي أراد ذياب وأكرم وولاء كسره وتسجيل رقمهم الجديد: أرادوا أن يعيدوا الكرة في ذات المسار الذي اختبره العدو قبل سنين وكَسْرْ كل إجراءاته الأمنية الاحتياطية والوقائية التي تعلمها من الدبويا والانتصار عليه وتسجيل رقمهم القياسي الجديد. كان عليهم، لذلك، دراسة المعركة الأولى جيداً والتحضير جيداً للتأثير المطلوب تحقيقه من عملية من هذا النوع. باسل، بدوره، درس عملية زقاق الموت وروى تفاصيلها مراراً وكانت تعليقاته عليها لافتة جداً تؤكد التزامه القوي بفكرة المثقف المشتبك، التي أثبتها يوم استشهاده بتبادل الرصاص مع جنود العدو لساعات.

الفدائي الكامل

ربما يكون من السهل جداً تصنيف الشهيد باسل الأعرج ضمن فئة خاصة جداً من الثوريين الذين جمعوا الفكر الثوري والفعل الثوري (تشي غيفارا، ستيف بيكو، غسان كنفاني، أميلكار كابرال، فرانز فانون، ومالكولم اكس، وغيرهم من أبطالنا في الجنوب). وربما من السهل أيضاً حتى إطلاق وصف "الإنسان الكامل" عليه، بالمعنى الذي ناقشته هذه المحاولة، لإدراكه العميق كيف تَرْسُمُ جدلية الثقافة والمقاومة خريطة تغيير هذا العالم في عصرنا أيضاً. لكن الحقيقة ليست كذلك تماماً. فبطلنا الجديد، باسل، لم يكن محظوظاً كسابقيه بحالة ثورية عالمية أو عالمثالثية ضد الاستعمار والإمبريالية. وباسل، أيضاً، لم يكن محظوظاً حتى بحالة فصائلية فلسطينية ثورية حقيقية مناهضة للاستعمار الصهيوني لفلسطين تستطيع استيعابه واستيعاب رفاقه وطاقاتهم وطموحهم وأحلامهم، كما كان حال الأجيال التي سبقتهم من المناضلين ـ ربما لهذا السبب اختار أن يناضل من خارج الفصائل ليصبح باستشهاده حجة عليها وفاضحاً لعوراتها.
وباسل، الفدائي المثقف من النوع الجديد، كذلك، جاء في عصر هيمن فيه نوع رديء جداً من المثقفين ("المثقف الريعي" أو "المأجور" أو "مثقف البترودولار") على المشهد الثقافي والسياسي في فلسطين والوطن العربي. لكنه، باستشهاده بتلك الطريقة البطولية، رفع السقف من جديد فأصبح عالياً جداً جداً على الجميع، وأعاد الاعتبار لفكرة المثقف والمقاوم. فالمثقف الحقيقي يعرف الآن أن للثقافة والكتابة أثماناً يتوجب دفعها بالدم في أحيان كثيرة في أيامنا هذه وعليه أن يكون مستعداً لذلك دائماً، وإلا "لا منه ولا من ثقافته"، كما كان يردد باسل.
باسل لم يكن فدائياً عادياً. كان هذا سيكون صحيحاً لو أنه كان من الجيل الذي عاش زمن الثورة. كان ذلك ممكناً لو أن باسل عاش زمناً كانت فيه المقاومة بِيِّنِة والثورة بيِّنَة والخيانة ليست من المشتبهات. لكن باسل عاش وقاوم وطورد واستشهد في زمن محمود عباس ـ هل من مفردة في اللغة العربية تستطيع توصيف هذا المسخ وعصره؟ دلونا عليها.

خاتمة: مع السلامة يا مِسْكْ فايِحْ

ربما كان باسل يحلم ويخطط لمعركة أخرى يستشهد بها ورقم قياسي مقاوم جديد يسجله، لكن المعنى الذي أخذته معركته الأخيرة فاقت كل ما يمكن أن يتخيله أي بطل وجعلت منه الفدائي الكامل. فباسل واجه القوات الصهيونية التي حاصرته وواجه رصاصها وقذائفها وحده لساعات حتى نفذت ذخيرته. كان صدى أصوات الرصاص وقذائف الأنيرغا يتردد في مقار الأجهزة الأمنية ومقر رئيسهم عباس على بعد عشرات الأمتار ولم يفعلوا شيئاً. كانوا بانتظار الرسالة التلفونية التي تبلغهم بانسحاب قوات العدو حتى يخرجوا من جحورهم مجدداً ليبطشوا بأبناء شعبهم. كان صدى المعركة يتردد في مكاتب كل الفصائل الفلسطينية القريبة ولم تهتز لهم قصبة. كانوا "كدكة غسل الموتى". كان صدى أزيز رصاص المعركة يتردد في مقاهي المثقفين حيث يشربون قهوة الـ "ستار بكس" المعتادة علها تلهم مقالاتهم الجديدة عن "التسامح" و"معرفة الآخر" و"العقلانية السياسية"، لكن أحداً منهم لم يقرأ ولم يكتب ولا يعرف شيئاً عن الكرامة. كان صدى صوت قذيفة الأنيرغا التي هدمت البيت على باسل يتردد في كل بيوت وشوارع رام الله، وبقي باسل يقاوم وحيداً متمترساً في شقته حتى الرصاصة الأخيرة.
ربما بدا باسل في استشهاده بتلك الطريقة وكأنه الفدائي الوحيد فعلاً، الفدائي الأخير حقاً، وربما حتى الفلسطيني الحقيقي الأخير الذي يحمل روحه وبندقيته دفاعاً عن فكرة فلسطين. لكن باسل باستشهاده بتلك الطريقة لم يرسم لنا وبدمه خريطة الطريق لتحرير فلسطين، بل أصبح، كذلك، ودون أن يدري أو يخطط، الفدائي الحقيقي الأكثر كمالاً وجمالاً في عصرنا. وداعاً أيها الباسل. من سماك كان نبياً.

سيف دعنا
* كاتب عربي