منذ البداية أقرر أن الهوية الوطنية الفلسطينية، قد وصلت مرحلة النضج واللاتراجع، شاء من شاء وأبى من أبى، على رغم كل التحديات التي تواجهها داخلية كانت أو خارجية، إن مصطلح (الهوية الوطنية) يعاني ما يعانيه في جميع الدول العربية والإسلامية أكثر مما يعانيه هذا المصطلح في أي دولة من دول العالم، فإذا كان من حق العرب شأنهم شأن كافة الأمم أن يمارسوا حقهم في تقرير المصير وإنشاء الدولة القومية، خصوصاً بعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على معظم أجزاء العالم العربي شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، إلا أن القوى الإستعمارية الأوروبية قد تآمرت على هذه البلاد ووضعت الخطط قبل سقوط الدولة العثمانية ففي عام (1907) نذكر بمؤتمر كامبل بنرمان الوزير الأول البريطاني وما نتج عنه من توصيات حينها تشير إلى الحيلولة دون وحدة العرب وإقامة دولة الوحدة العربية التي من المتوجب أن تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً ومن جبال طوروس والبحر المتوسط شمالاً إلى بحر العرب وخليج عمان والصحراء الكبرى في إفريقيا جنوباً، لما تمثله مثل هذه الدولة من خطر على مصالح وأطماع الدول الإستعمارية الأوروبية في الوطن العربي نفسه أولاً وفي مستعمراتها ومصالحها في إفريقيا وآسيا عموماً، رغم ما يتوفر عليه العالم العربي من عناصر الوحدة من لغة، ودين، وثقافة، وإقليم متواصل، وتاريخ وآمال وتطلعات وتحديات مشتركة، فكانت التوصية الأساس لمؤتمر (كامبل بنرمان) العمل على تجزئة العالم العربي إلى وحدات سياسية متعددة ومتباينة، ومن أجل أن يستمر ذلك لابد من إقامة جسم سياسي غريب عنه يفصل شرقه عن غربه ويكون على مقربة من قناة السويس، فكان المشروع الصهيوني الإستعماري في فلسطين هو الخيار.
من هنا تبدأ أزمة الهوية في الوطن العربي عموماً، وتتنازع فيه الهويات والإنتماءات من ما بين دوائر ثلاثة (الإنتماء للهوية القطرية، أم العربية، أم الإسلامية) ولازالت هذه الدول ومواطنيها يتنازعهم هذا التمزق في الهوية والإنتماء.
فبعد إنهيار الحكم العثماني وإنحسار تركيا داخل حدودها القومية والوطنية وإقامة دولة تركيا الحديثة 1924م، لا يوجد دولة إسلامية (دولة خلافة جامعة) كما لم يتمكن العرب من إقامة (الدولة القومية) الجامعة، ومع إنقشاع الإستعمار الغربي أقيمت الدول الوطنية أو القطرية في العالم العربي والتي تعد واحدا وعشرين كياناً سياسياً، بإستثناء فلسطين التي نفذ فوق إقليمها الكيان الصهيوني العازل لشرق العالم العربي عن غربه، ليحول دول التواصل الجغرافي من جهة، والضغط بإتجاه إستنزاف وتوتر هذه الكيانات السياسية العربية المختلفة، زيادة على ما تعانيه من إشكالات التمزق في الهوية وفشل التنمية والتوحد المجتمعي وبناء المواطنة.
من هنا كان التحدي الأكبر للوطنية الفلسطينية التي جرى تقديمها قرباناً لديمومة التجزئة وتمزيق الهوية القومية وإضعاف الهويات الوطنية التي نتجت عن هذه التجزئة المفروضة والمكرسة بموجب النظام الذي أرست قواعده الإتفاقات الإستعمارية ونخص إتفاقية (سايكس بيكو) الفرنسية البريطانية، والتي تمثل نظام التجزئة المفروض.
فإذا أتيح للشعوب العربية، أن تقرر مصيرها وأن تقيم دولها الوطنية بعد إنقشاع الإستعماري الكلونيالي الغربي عنها، إلا أن فلسطين كانت هي الإستثناء، إضافة إلى الأجزاء التي اقتطعت من العالم العربي وألحقت بدول أخرى كترضية لها وهي لواء الإسكندرونة وإلحاقه للدولة التركية الحديثة، والأحواز العربية التي منحت لإيران، لإسقاط صفة العروبة عن الخليج.
من هنا واجه الشعب الفلسطيني تحديات معقدة ومركبة تحول دون ترجمة إنتمائه الوطني في إقامة دولته القطرية شأنه شأن بقية الأقاليم العربية الأخرى، لكن هذا التحدي المتمثل بتغييب الوطنية الفلسطينية قسراً، وإقامة الكيان الصهيوني على المساحة الأكبر من إقليم فلسطين، تنفيذاً لتلك المخططات الإستعمارية في سنة 1948م، وتبديد الشعب الفلسطيني عبر تشريد أكثر من نصفه وتحويلهم إلى لاجئين، وإلحاقه بمجتمعات وكيانات سياسية عربية مختلفة، وإخضاع من تبقى منه صامداً في وطنه للسياسات العسكرية والعنصرية الصهيونية، بهدف تذويبه في هذه الكيانات والمجتمعات، وإسقاط قضيته الوطنية، وتأمين إستمرار الكيان الصهيوني، ككيان سياسي غريب عن المنطقة العربية ليواصل دوره المنوط به إستراتيجياً لصالح دول الغرب الإستعمارية صناع الكيان وملاكه.
ولكن الشعب الفلسطيني كان قد تنبه منذ البداية لهذا الخطر الذي يهدد وطنه وهويته، فكان رد فعله سريعاً على هذه السياسات منذ وقوع فلسطين تحت الإنتداب البريطاني 1918م-1948م فلم يهدأ ولم يستكين لهذه الإستراتيجيات الإستعمارية الجهنمية، فكانت الإنتفاضات المتوالية والثورة الكبرى لعام 1936م ومقاومته في أعوام 1947/1948م للإستعمار البريطاني وللعصابات الصهيونية المدعومة منه، ولكن حجم المؤامرة والقوى الشريكة فيها وهيمنتها على عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى وعلى هيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، مكن للمؤامرة الدولية الإستعمارية أن تنجح في إقصاء الوطنية الفلسطينية، عن حقها في إقامة كيانها المستقل، شأنها شأن الأقاليم العربية الأخرى، المنسلخة عن الدولة العثمانية، يضاف إلى ذلك ما أشرنا إليه من إشكالية عامة بالنسبة لمجموع العرب الذين خضعوا لتنازع الهوية ما بين (الهوية الإسلامية والهوية القومية والوطنية)، الشيء الذي كان له أيضاً أثره السلبي على بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية شأنها شأن الوطنيات العربية الأخرى، التي تبلورت وفق النظام الإستعماري ووفق إتفاقية (سايكس بيكو)، ودخل الشعب الفلسطيني مرحلة الضياع والتوهان في الفترة الممتدة من عام 1948م-1964م، وعاش إشكاليات صراع الهويات وتنازعها، حتى ظهرت حركة التحرير الوطني الفلسطيني كتنظيم سياسي وعسكري يهدف تحرير فلسطين، وعودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه وممارسته لحقه في تقرير المصير فوق ترابه الوطني.
وهنا بدأت مواجهة التحديات الداخلية، المتمثلة في تنازع الهوية والإنتماء، وحددت بوضوح معالم الهوية الوطنية الفلسطينية التي لا ترى لها تناقضاً رئيسياً غير التناقض مع المشروع الصهيوني وكيانه العنصري، وما عداها من تناقضات تعتبر تناقضات ثانوية، وحلت إشكالية تنازع الهوية والإنتماء بين دوائرها الثلاثة ( الإسلامية - العربية - الوطنية)، فعرفت نفسها بأنها فلسطينية الوجه، عربية العمق، عالمية الإمتداد، معتمدة على إرث نضالي طويل للشعب الفلسطيني الذي بلور هويته الوطنية من خلاله، والعيش المشترك لآلاف السنين فوق ترابه الوطني، والعادات، والتراث والموروث الشعبي الغني والمتعدد بتعدد ألوان فلسطين وتضاريسها، وهنا بدأت عملية توضيح التناقضات وترتيب الأولويات لدى الشعب الفلسطيني وقيادته والتي تمثلت في أطر منظمة التحرير الفلسطينية ككيانية سياسية جامعة لكل الشعب الفلسطيني على إختلاف أطيافه السياسية والإجتماعية والإقتصادية والجهوية، وعلى إختلاف أماكن تواجده داخل الوطن أو الشتات، ومن خلال الكفاح والنضال بكافة أشكاله المختلفة ووفق ظروفه، بدأت عملية وقف الإذابة والتبديد للشعب الفلسطيني، وبدأت مرحلة الكفاح نحو العودة وتقرير المصير، برؤى نضالية معاصرة وحضارية وديمقراطية، حين أكدت على أن هدفها الإستراتيجي هو إقامة الدولة الديمقراطية على كامل تراب فلسطين والتي سيتعايش فيها الجميع على إختلاف الألوان والأجناس والأديان سواسية أمام القانون، كحل حضاري عصري للإشكالية المعقدة التي أقامها الإستعمار الغربي بإقامة الكيان العنصري الصهيوني على أرض فلسطين، وهو ما سينتهي إليه الصراع آجلاً أم عاجلاً.
وهنا كان لابد (لحركة فتح) ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية أن تواجه بعض التحديات الداخلية المتمثلة في الأطياف السياسية (المافوق وطنية) التي كانت تنشط بين أبناء فلسطين من تيارات قومية وإسلامية، وأممية، وأن تعمل على توحيدها على (قاعدة الوطنية الفلسطينية الجامعة) والصاهرة لهذه القوى، والتأكيد على الشعار الوطني الفلسطيني المستقل، لإنهاء عصر الوصاية والذوبان من جهة وإبراز النقيض المباشر للكيانية الصهيونية من جهة أخرى، وإدارة الصراع معه بدعم وتنسيق وتكامل مع دوائر الإنتماء الثلاثة (العربي والإسلامي والإنساني العالمي والتقدمي)، وقد نجحت حركة "فتح" و م.ت.ف في ذلك نجاحاً باهراً في إذابة الجدر التي كانت قائمة بين هذه الدوائر الهوياتية، فتوحد الوطني مع القومي مع الإسلامي مع الأممي، في ثورة وطنية فلسطينية، اعادت الإعتبار للهوية الوطنية الفلسطينية، وبلورت برامج نضالية وكفاحية وجدت الدعم الكامل من مختلف المستويات العربية والإسلامية والدولية، وباتت الوطنية الفلسطينية حقيقة سياسية يقر بها الجميع، الأصدقاء والأعداء على السواء، لتبقي الصراع مع الكيان الصهيوني العنصري مفتوحاً، ودون توقف إلى حين ترجمتها على أرض الواقع وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في العودة إلى وطنه، وحقه في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، كمرحلة أولى في حدود الأراضي المحتلة عام 1967م، ومواصلة الكفاح والنضال من أجل وحدة إقليم فلسطين وإنهاء النظام العنصري الذي باتت تتضح معالمه أكثر فأكثر مع الزمن، والذي يتناقض مع روح العصر، فهو محكوم عليه بالزوال كما زالت كافة النظم العنصرية عبر التاريخ، ونموذج جنوب إفريقيا وناميبيا يبقيا ماثلين للعيان، حتى يواجه النظام العنصري الصهيوني نفس المصير أمام إستمرار تحدي الوطنية الفلسطينية، التي لم تتوقف قبل أن تعيد لفلسطين حقائقها التاريخية والإجتماعية، التي ستبقى تفعل فعلها المتواصل والمتراكم عبر جدلية صراعية تأخذ أشكالها المناسبة في كل مرحلة من مراحل الصراع، ولذا نلاحظ كيف يشتد الصراع الداخلي والخارجي هذه الأيام مع الوطنية الفلسطينية ممثلة في م.ت.ف وسلطتها الوطنية بقيادة حركة "فتح"، مع قوى داخلية عادت تنشط بفعل بعض التأثيرات الإقليمية والدولية التي غاظها هذا النجاح الأسطوري لإستعادة الوطنية الفلسطينية لمكانتها وهويتها الفاعلة المؤثرة والتي وصلت إلى مرحلة اللاعودة واللاتراجع في مواجهة المشروع الصهيوني، مؤكدة حقها في العودة وتقرير المصير والدولة.
أشد ما يؤلم اليوم في إطار التحديات الداخلية للوطنية الفلسطينية، هو السياسات التي تمارسها تيارات الإنتماء الإسلامي الذي بلور نفسه في أطر سياسية (حماس، الجهاد) وأخذ ينازع منظمة التحرير الفلسطينية والوطنية الفلسطينية، برؤى شعاراتية، تعيد الوطنية الفلسطينية عقوداً إلى الوراء، وتفتح الساحة الفلسطينية للتدخلات الإقليمية والدولية، وتضعف الوطنية الفلسطينية في مواجهتها مع المشروع الصهيوني، من خلال الخروج على السياسات والإستراتيجيات التي أقرتها الوطنية الفلسطينية في إطار جبهتها الوطنية الفلسطينية م.ت.ف، وهنا كما جهدت حركة "فتح" و م.ت.ف في البدايات مع التيارات المختلفة في العمل على توحيدها على أسس الوحدة الوطنية الفلسطينية مازالت تجهد إلى اليوم مع تيار الإسلام السياسي من أجل إنضاجه وتوحيده مع الإطار الوطني وإغلاق الثغرات التي أحدثها هذا التيار في جسد الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً منها الإنقسام الذي لازال يفعل فعله في إضعاف الوطنية الفلسطينية، ويجد له من يموله ويسانده، ويستثمر فيه العدو الصهيوني أكبر إستثماراته، بل يراهن عليه كي يوجه من خلاله الضربة النجلاء للمشروع الوطني الفلسطيني ووحدته وتصفية قضيته.
نلاحظ هنا حجم التحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها الوطنية الفلسطينية والتي لازالت تخوض معاركها السياسية بشراسة، وتثبت فيها أنها جديرة بخوض الصراع تجاه التحديات الثانوية بالحوار وبالأساليب الديمقراطية والسياسية كما مع التناقض الرئيسي بمختلف أشكال النضال، ووفق الظروف والمعطيات، وتحقق وتراكم الإنجاز تلو الإنجاز على المستوى السياسي والدبلوماسي والقانوني، والمستوى المادي في توحيد الشعب الفلسطيني حول أهدافه الوطنية، وتطلعاته المشروعة والمحقة.
هنا أود الإشارة إلى أن هذا الموضوع قد كان موضوع أمسيتنا الثقافية ليوم الخميس 17 آذار والتي شارك فيها عدد من الأخوة الكرام، حيث قدمت فيها عرضاً مفصلاً ومؤصلاً ثقافياً تاريخياً وسياسياً وإجتماعياً لموضوع الهوية الوطنية الفلسطينية والتحديات التي واجهتها وتواجهها، كما شارك الأخوة الحضور بمداخلات عميقة أثرت الموضوع وأبانت من جوانبه المختلفة التحديات التي تواجهها الهوية الوطنية الفلسطينية.
وكخلاصة نهائية نقول: الهوية الوطنية الفلسطينية لم تعد محل شك من أحد، ولكنها لازالت تواجه تحديات داخلية وخارجية إضافة إلى التحدي الرئيسي وهو الكيان الصهيوني الذي يحكم قبضته على كامل إقليم فلسطين، إلا أن الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وتنامي شعوره الوطني وتبلوره وقوة عدالة القضية الفلسطينية، كل ذلك يمثل المعادل الموضوعي لهذا العنت والصلف الصهيوني والذي تتنامى عنصريته يوماً بعد يوم، كمؤشر على عمق أزمته السياسية والقانونية والوجودية، والتي سوف تتفاعل مع قادم الزمن وتؤدي إلى إنهياره وزواله لا محالة، وتحقيق الإنتصار التام للوطنية الفلسطينية.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس