بإنعقاد قمة البحر الميت في الأردن يكون العرب منذ عام 1945 تاريخ انشاء جامعة الدول العربية،قد عقدوا ثمانية وعشرين قمة عادية وتسع قمم طارئة،وفي كل قمة عربية يا ليتنا نرى تكراراً واجتراراً إنشائياً لنفس الديباجات والنصوص والبيانات الختامية والقرارات الصادرة عن القمة العربية،بل نرى بأن هناك هبوطاً وتراجعاً وتخلياً عن المقررات السابقة،تحديداً فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي "الإسرائيلي"،وحتى في ظل هذا التراجع والإنهيار،لم تلمس الجماهير العربية متابعة او تنفيذا أو تطبيقاً لواحد من قراراتها في هذا الشأن يحفظ ماء وجه هذه القمم وقياداتها،ويجعلها مصدر ثقة واهتمام المواطن العربي،الذي ربما يفضل متابعة الدوري الاسباني او الايطالي على أخبار تلك القمم،فهي لا ترتقي الى مستوى طموحه ولا تعبر عن همومه ولا تستجيب لتطلعاته،بل قمم تحكمها التجاذبات والصراعات والخلافات والمؤامرات والحرد والمزايدات.
ما بين قمة لاءات الخرطوم الثلاث «لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف بإسرائيل» وما وصلنا إليه كأمة ودول عربية الآن،جرّت الكثير من المياه، وحدثت الكثير من المتغيّرات والتطوّرات والتحوّلات، فالنظام الرسمي العربي تعمّقت أزمته البنيوية،وتغيّر الدور والوظيفة له سلباً،بحيث أضحى يلهث خلف الصلح والمفاوضات والاعتراف بـ «إسرائيل»، ويعتبر ذلك شكلاً من أشكال الواقعية والانتصارات، حتى أنّ جزءاً من هذا النظام، لم يفقد البوصلة والاتجاه فقط، بل شارك في حروب التدمير الذاتي التي تشنّ على الأمة العربية، وجهد بكلّ إمكانياته وطاقاته من أجل حرف الصراع عن قواعده وأسسه من صراع عربي- إسرائيلي إلى صراع عربي- فارسي،ونقل الفتنة المذهبية سني- شيعي من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي،وذهب النظام الرسمي العربي الى أبعد من ذلك،حيث يجري الحديث الآن بشكل جدي عن تشكيل حلف "ناتو" عربي بقيادة امريكا ومشاركة اسرائيل،وبما ينقل علاقات هذا الحلف بإسرائيل من العلاقات السرية الى المرحلة العلنية،وبما يشمل التنسيق والتعاون الأمني والعسكري والإستخباري،والتطبيع الإقتصادي والدبلوماسي،وشاهدنا المناورات الجوية الإسرائيلية الإماراتية فوق اليونان،للتدليل على عمق النقلة النوعية في العلاقات التطبيعية العربية – الإسرائيلية.
نحن أمام نظام عربي عاجز ومنهار،ينخره الفساد في كلّ مكوناته ومركباته ومؤسساته،تتربّع على قمته قيادات حوّلت بلدانها إلى مشاريع استثمارية عائلية وإقطاعيات خاصة،تنهب معظم خيرات وثروات شعوبها، تصادر حقوقهم وحرياتهم،وتمارس كلّ أشكال القمع والتنكيل بهم لا توجد لديها أيّة خطط وبرامج تنموية تنتشل مجتمعاتها من براثن الجهل والتخلف والفقر والجوع والبطالة،وقرارها السياسي مصادر وأموالها تتكدس في البنوك الغربية والأميركية لا سيطرة لها عليها،وتدفع المليارات من الدولارات في سبيل حماية عروشها،وتقدّم التنازلات في قضايا أمنها القومي وسيادتها،ولا تتورّع عن تنفيذ ما يطلب منها على حساب المصالح العربية العليا،بما في ذلك تمويل وتسليح جماعات إرهابية تمارس القتل والتدمير والتخريب في أكثر من بلد عربي.
في كل القمم العربية،كان المتغير والمتحرك والمفعول به،هو قرارات العرب وشعوبهم المستباح أمنها والمقموعة حرياتها والمصادرة قراراتها والمنهوبة خيراتها،في حين اسرائيل كانت تحافظ على نفس مواقفها وثوابتها ولاءاتها ومتابعة وتنفيذ كل قراراتها،دون ان تلتفت الى قمم العرب،معتبرة بأن تلك القمم ليست أكثر من ظاهرة صوتية،قادتها ما يقولونه في العلن عكس ما يخفونه في السر.
لقد ظلت قرارات العرب في جزئها الكبير والخطير حبراً على ورق. والقمم العربية يجري الهبوط بسقف قراراتها والتخلي والتراجع عنها بشكل كبير،قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي على وجه التحديد وبالذات القضية الفلسطينية،ولعل الجميع يذكر قمة بيروت،وطبعاً المبادرات التفريطية والتنازلية وكالة حصرية لمشيخات النفط والكاز وخاصة السعودية،ففي قمة بيروت 2002،إقترحت الدول العربية مبادرة السلام العربية،او ما عرفت بمبادرة الراحل الأمير السعودي عبدالله بن عبد العزيز،قبل ان يصبح ملكاً،وهذه المبادرة عرضت على "اسرائيل" انسحاباً كاملاً من الأراضي التي احتلتها عام 1967 مقابل سلام شامل وتطبيع في العلاقات مع الدول الأعضاء في الجامعة.وقد رد المغدور شارون رئيس وزراء "اسرائيل" انذاك بالقول انها لا تساوي قمة الحبر الذي كتبت به،واستتبع القول بالفعل بإجتياح الضفة الغربية في نيسان 2002،بما سمي بعملية السور الواقي،حيث حاصر الرئيس الشهيد أبا عمار في المقاطعة برام الله،دون أي سند او نصير عربي .
لقد أراد العرب من خلال قممهم التصدي لإسرائيل ومنعها من تنفيذ مخططاتها وإستكمال اهدافها العدوانية في إحتلال وتهويد الأرض الفلسطينية والعربية،ولكن "اسرائيل"استمرت بمنهج ثابت واحد لم يتغير، وبإصرار على تنفيذ سياساتها ومشاريعها بالكامل.
وكان هذا الأمر واضحاً للجميع. أما العرب فكانت قرارات قممهم متحركة متغيرة وفي أكثر من اتجاه معاكس. اللاءات الثلاث التي رفعها العرب في وجه «إسرائيل» سرعان ما تراجعوا عنها بحكم الموقف العربي المتغير والمتحرك اللاثابت والمتراجع أمام التصلّب «الإسرائيلي» والموقف الثابت «لإسرائيل» التي رفعت في وجه كل العرب لاءاتها التي تتمسك بها وبكل قوة: لا لعودة القدس إلى وضعها السابق وهي العاصمة الأبدية «لإسرائيل». لا لعودة اللاجئين، لا لإزالة المستوطنات. لا لعودة الضفة الغربية بكاملها للفلسطينيين. لا لدولة فلسطينية موحدة الأرض والشعب، لا لوقف الاستيطان والتوطين. لأن «إسرائيل» تعرف مسبقاً مع من تتعاطى ومع من تتفاوض ومدى معدن وصدقية الذين يفاوضونها في العلن والسرّ.
قمة البحر الميت التي تعقد بعد غد في البحر الميت في الأردن،في ظل غياب دمشق عاصمة عربية مؤسسة،وحجر زاوية في المشروع القومي الوطني العربي،تؤشر الى ما ستكون عليه قرارات هذه القمة،وبالذات المتعلقة بالقضية الفلسطينية،حيث نرى هجمة كبيرة على حقوق شعبنا وقضيته،هجمة تريد دفع القيادة الفلسطينية لتقديم المزيد من التنازلات،تنازلات خطرة اخشى ما اخشاه،ان يكون ضحيتها في هذه القمة شطب حق العودة لشعبنا،والإعتراف بيهودية الدولة.
بقلم/ راسم عبيدات