على الرغم من نفي كل من صائب عريقات ومحمود العالول وأحمد مجدلاني والسفير الفلسطيني في القاهرة، وتأكيدهم أن مشروع القرار حول فلسطين الذي ستناقشه القمه العربية أرسل منذ أسبوعين على الأقل، عاد أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربية، ليؤكد أن الرئيس محمود عباس سيطرح على "قمة البحر الميّت" مبادرة سياسية جديدة دون أن يوضح معالمها، ما أدى إلى قيام مسؤول فلسطيني لم يكشف هويته بنفي ما جاء على لسان أبو الغيط جملة وتفصيلًا، واعتبر ذلك الحديث يندرج في سياق محاولة "أبو الغيط" ودوّلٍ متحكمةٍ في القمة التلاعب في القرارات الخاصة بفلسطين إرضاء لأميركا وإسرائيل، وبهدف الضغط وابتزاز القيادة الفلسطينية من بعض دول الجوار في تسويق نفسها لدى الإدارة الأميركية الجديدة.
وأضاف المسؤول أن الهدف من كل ذلك إرضاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، منوهًا إلى أن هذه الجهات تُمارس ألاعيبَ مكشوفةً على القيادة الفلسطينية لتقديم أفكار تتماشى وتنسجم مع أفكار نتنياهو الداعية إلى حل إقليمي للقضية الفلسطينية.
بالتأكيد، لا يمكن نجاح هذه المحاولات لتعديل "مبادرة السلام العربية" بما يفتح الباب للحل الإقليمي إلا إذا حصلت على الغطاء الفلسطيني، ومثل هذا الغطاء غير متوفر، على الأقل حتى الآن، لأن ما يهم القيادة الفلسطينية أن تتحرك عجلة المسيرة السياسية على أرضية الاعتراف بالشريك الفلسطيني، كون هذا الاعتراف يؤمّن لها البقاء ولعب دور سياسي، ولكنها لا تبدو مستعدة لقبول شروط الحل الإسرائيلي الذي لا تستطيع تسويقه أصلًا، لا سيما أنه يتضمن الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهودية"، والتخلي عمليًا عن القدس وحق العودة، ويعلن عن نفسه بالضم الزاحف الذي تستعد
إسرائيل لجعله ضمًّا قانونيًا، تحت غطاء عملية سياسية يمكن أن تأخذ شكل الإعلان عن دولة فلسطينية مؤقتة على أقل أو أكثر قليلًا من نصف مساحة الضفة، أو أي شكل آخر يغطي على ما يجري عمليًا على أرض الواقع من فرض المعازل والبانتوستانات كحل نهائي، حتى لو تم تقديمه كحل انتقالي جديد. فالكل يعرف بعد تجربة "أوسلو" أن أي حل يُزعَم أنه انتقالي هو حل نهائي، فلا مجال الآن للخداع والوقوع في أوهام جديدة.
إذا كانت الدولة "الناقصة" كما يطرحها نتنياهو تُبقي إسرائيل تسيطر حتى بعد قيامها على مجمل المنطقة من النهر إلى البحر هي الحل النهائي، فما المدخل الذي يمكن أن يوصل إلى هذه الكارثة الجديدة! المدخل هو استئناف المفاوضات بلا شروط مسبقة، باستثناء ما تفرضه إسرائيل من شروط، من خلال مراكمة الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية على الأرض، والتركيز على ما يسمى "التحريض" الفلسطيني، ووقف الدعم لعائلات الشهداء والأسرى والأسيرات، وعدم الالتزام بمرجعية واضحة وملزمة للمفاوضات تتضمن الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ما يعني أنها ستكون مفاوضات من أجل المفاوضات يتحكم فيها الطرف القوي بالطرف الضعيف دون تدخل من أحد، كما قال ترامب أكثر من مرة.
الطُعم الذي سيقدم للفلسطيني لاستدراجه إلى هذه المصيدة الأخطر من سابقاتها هو محاولة الإدارة الأميركية إقناع حكومة نتنياهو بتقليل الاستيطان، أو تقييده، أو تحديده، بما لا يمس به كثيرًا في القدس وما تسمى "الكتل الاستيطانية".
إن ما يجري واضح وضوح الشمس ولا يجري الاعتراض الفلسطيني والعربي عليه خشية إغضاب إدارة ترامب، وهو محاولات أميركية حثيثة للاتفاق مع إسرائيل على الاستيطان، والسعي الثنائي المشترك بعد ذلك لفرضه على الفلسطينيين، وأكرر لفرضه وليس التفاوض حوله.
كان يجب أن يكون الموقف الفلسطيني واضحًا ومدويًا ورافضًا للسعي للاتفاق الأميركي الإسرائيلي أولًا، لأنه يحسم قضايا التفاوض دون وجود الطرف الفلسطيني.
أمر آخر يجب الانتباه إليه، وهو السعي من جديد لتجاوز مبادرة السلام العربية، التي على علاتها وما تدل عليه من عجز عربي لم تُقبل من إسرائيل، إذ يراد للقمة أن تقوم بتعديلها تحت مسمى "اختصارها" أو "تطويرها" أو "إعادة صياغتها" للتخفيف مما هو وارد حول قضية اللاجئين، ولقلب أولوياتها ليكون التطبيع أولًا قبل الانسحاب الإسرائيلي الذي لن يحدث في هذه الحالة أبدًا، أو على الأقل إذا لم تُعدّل السماح بتجاوزها بعد القمة، من خلال توفير غطاء عربي للانخراط في المفاوضات التي تستهدف هذه المرة فرض الحل الإسرائيلي تحت مسمى "الحل الإقليمي"، الذي أعاد نتنياهو اختراعه، ويروّج له ليلًا نهارًا، ويقوم على استبدال الإطار الدولي للتفاوض وحل القضية الفلسطينية الذي يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، أو يبقى على الأقل على علاقة بهما، بإطار إقليمي يتجاوز القيود الدولية، ويركز على محاربة الإرهاب والتصدي لما يسمى الخطر الإيراني، والتركيز على البعد الاقتصادي وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإشراك العرب أو من يرضى منهم في رعاية المفاوضات لتوفير الغطاء العربي للجانب الفلسطيني، أو الأصح للضغط عليهم، لقبول الدخول في مفاوضات ضمن الشروط الإسرائيلية، التي تستهدف إنجاز الحل الإسرائيلي وقيام تحالف (عربي إسرائيلي أميركي).
رغم خطورة ما سبق، وحجم القوى التي تعمل من أجله، لا يجب الاستسلام له، أو الاعتقاد أن الطريق معبدة أمامه. فلو كان الأمر كذلك لما اضطروا للعودة إلى إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بعد أن روجوا أن القضية لم تعد مركزية، وأن العرب أقاموا أفضل وأعمق العلاقات السرية، وأحيانًا العلنية مع إسرائيل. وتدل عودتهم لتحريك الملف الفلسطيني على إدراكهم أن العرب لن يتحالفوا مع إسرائيل كما تطالبهم دون غطاء فلسطيني يدعي أن هناك حلًا عادلًا أو مقبولًا أو متاحًا للقضية الفلسطينية.
إن السياسة الفلسطينية التي تعطي الأولوية للاعتراف بالقيادة باعتبارها شريكًا وليس بالحقوق الفلسطينية لا تحقق الوحدة لمواجهة الاحتلال ومشروعه الواضح والحاسم والتوسعي أكثر من أي فترة سابقة، ولن تستطيع أن تصمد طويلًا أمام الضغوط المتنوعة التي تتعرض لها؛ لذا فهي إما ستخضع
للضغوط والإملاءات كليًا أو جزئيًا، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو تواجه العزلة مع تزايد القدرة على تجاوزها في ظل حالة الشرذمة التي تمر بها الساحة الفلسطينية.
كان ولا يزال على القيادة طرح مبادرة جديدة ليس لتقديم تنازلات جديدة، بل لشق مسار جديد قادر على استنهاض كفاءات وطاقات وقوى وأفراد الشعب الفلسطيني وتوحيده وتوظيف عناصر القوة العربية والإسلامية والدولية لصالح تحقيق القضية الفلسطينية.
ما كان ينفع سابقًا لم يعد ينفع اليوم، وما أدى إلى كوارث سابقًا لا يمكن إعادة تسويقه حاليًا، من خلال العودة لدوامة المفاوضات العبثية التي لا يقتصر خطرها على خسارة الوقت وعدم تحقيق أي شيء، بل إنها تستخدم للتغطية على ضياع كل شيء.
بقلم/ هاني المصري