تموت الامبريالية حين يقرر ملايين الجنود عدم الضغط على الزناد
في نيسان 1917 عندما وصل لينين إلى روسيا من منفاه خاطب العمال والجنود الذين كانوا في استقباله قائلا "أي ثورة منتصرة تتحدثون عنها؟ لقد أطحنا بالقيصر! والثورة الفرنسية أطاحت بالملك في 1792. الرأسماليون لا يزالوا يمتلكون المصانع، والإقطاعيين لا يزالوا يمتلكون الأراضي، والحرب لا تزال مستمرة.. فلتسقط الحكومة المؤقتة.. فلتسقط الحرب.. الأرض والخبر والسلام.. كل السلطة للسوفيتات " وقد كان في استقباله 10 آلاف عامل وجندي أي أن الذين كانوا مع الثورة ليسوا العمال وليست بروليتاريا المصانع التي مجدها ماركس ومن بعده لينين ولا زال الشيوعيين حتى اليوم يتغنون بنفس الاعتقاد ون أن يلتفت احد إلى أولئك الأكثر قهرا من بين طبقات وفئات كل شعوب الأرض وهم الجنود وصغار الضباط والذين تقدر أعدادهم بعشرات الملايين من عسكريين وشبه عسكريين ويكفي القول ان عقود التسلح في العالم بلغت في العالم 2000 فقط حدها الأقصى وكانت بقيمة 42 مليار دولار أمريكي حسب تقارير الكونغرس الأمريكي وقد اشترت الصين مثلا في الفترة ما بين 2001 – 2004 ما قيمته أكثر من عشرة مليارات دولار من الأسلحة واشترت الهند في الفترة نفسها بما بقارب ثمانية مليارات دولار ومصر 6.5 مليار دولار ومن المعروف أن الهند ومصر بلاد تعاني من الفقر والحاجة لمصادر الطعام لشعوبها وإذا أضفنا ما يصرف على الجيوش وتبلغ ميزانية الدفاع في مصر 4.1 مليار دولار سنويا بينما تعاني ميزانية الدولة من عجز يقترب من 20 مليار دولار بينما تنفق دولة الإمارات الدولة العربية الأكثر صغرا أكثر من 15 مليار دولار سنويا على الميزانية العسكرية.
حين كتب ماركس ولينين عن طبقة البروليتاريا كطبقة مستعبدة لوسائل الإنتاج التي يملكها الرأسماليين وحتى حين أضيف الفلاحين إلى العمال على يد لينين لم يعيروا اهتماما كبيرا للفئة الأخطر من بين الفقراء من العمال والفلاحين وهم الجنود وصغار الضباط الذين يستخدمون أدوات موتهم بأيديهم دفاعا عن مصالح أصحابها ليموتوا مقابل بضعة دولارات تنفق على استمرار عيشهم وأسرهم.
لقد كان العامل جزءا من مسننة دولاب الآلة الصناعية الرأسمالية حتى وهو يصنع الطعام والملبس والمسكن لتنمو أرباح الرأسماليين أكثر فأكثر ويزداد بطشهم وفحش ثراءهم على حساب قوت الفقراء ومن خلاله ومع ذلك كان القهر مبنيا على البحث عن وسيلة للعيش ومع تطور الصناعة والثورة الالكترونية بات الحديث عن القهر الواقع على الطبقة الأكثر ثورية وهم عمال الصناعة " البروليتاريين " ضرب من البذخ اللفظي فاليوم تعمل المصانع بجزء بسيط من الطاقة البشرية وبظروف عمل مريحة قوامها الالكترونيات والآلات المدارة بواسطة الكمبيوتر والتقنيات الحديثة وينعم عمال البلاد الصناعية بمردود القهر الواقع على الشعوب الفقيرة من رواتب عالية وتأمينات لا حصر لها وقوانين حماية عصرية لحقوقهم.
لقد غاب كليا عن الصورة أصحاب الياقات الزرقاء ليحل محلهم أصحاب الكاكي من الجنود وصغار الضباط كطبقة حديثة تنطبق عليها مواصفات الطبقة بحسب تعريف ماركس لها بقوله " تجمع من الأشخاص ينجز عملا واحدا في إطار عملية إنتاجية واحدة وتختلف باختلاف وضعها الاقتصادي وموقعها من عملية الإنتاج ومتغيرات نشوء الطبقة برأي ماركس هي الملكية وتقسيم العمل كما عرف لينين الطبقات على أنها " جماعات كبيرة من الناس تتميز من حيث مكانتها في نظام معين تاريخياً للإنتاج الاجتماعي ومن حيث علاقتها بوسائل الإنتاج، (هذه العلاقة مثبتة ومصاغة في القوانين بالقسم الأعظم منها)، كما تتميز من حيث دورها في التنظيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي من حيث أساليب حصولها على الحصة الموضوعة تحت تصرفها من الثروة الإجتماعية ومقادير تلك الحصة".
لقد ظل الثوار يعتبرون الجيوش العدو رقم واحد في طريقهم دون أن يحاولوا الالتفات إلى حقيقة أنهم جاءوا أصلا من أبناء الطبقات الأكثر فقرا وقهرا وان قدرة الرأسماليين على تزييف مشاعرهم عبر التغيير الصوري لمكانتهم الاجتماعية بهيبة القوة الممنوحة لهم إلى جانب تجاهل الثوريين لهم جعلتهم ينحازون كليا إلى مانحيهم القوة دون أن يدرون أن القوة الشكلية تلك لم تمنح لهم إلا لأنهم أصحاب القوة الفعلية لاستعداهم للموت في سبيل المكانة الممنوحة شكلا والتي غلفت ولا زالت تغلف بشعارات القومية والديمقراطية والحرية أو سواها كمتغير هنا وهناك لكن النتيجة الوحيدة الثابتة أننا أمام جموع الملايين من الجنود باختلاف جنسياتهم يقتتلون حتى الموت محققين موتهم وحياة قاتليهم من صناع أدوات الموت والدمار من الأسلحة قديمها وحديثها فكما كان صانع السيوف معنيا بالحرب ليبيع أكثر كذا هو اليوم صانع الطائرات والصواريخ وكل أنواع السلاح الأكثر فتكا فهو سيموت فقط إن توقفت آلة الحرب ان اضرب جنوده عن القتل ببندقيته تماما كما كان سيموت الرأسمالي الصناعي إن توقفت آلته عن الإنتاج حين يقرر العامل فعل ذلك.
المنتجين خلف الماكنة من أبناء الطبقة العاملة كانوا يموتون جوعا وتعبا بينما يواصل صاحب المصنع استبدالهم دون أن يلتفت لهم ولا لأسرهم وحياتهم وإذا انتهت قدرة العامل على العمل كان ملزما على العودة إلى بيته بانتظار الموت ومن هنا جاءت ثورية الطبقة العاملة واستعداها للموت في سبيل حريتها وحلفائها من الفقراء وقد كان الرهان دائما على أن البروليتاريا الصناعية المنظمة هي الأكثر قدرة على إحداث التغيير وهؤلاء اليوم من الذين يعيشون في البلاد الصناعية الأكثر امبريالية في العصر الحديث بقيادة الولايات المتحدة لم يعودوا مهددين بالموت جوعا كما هو الحال مع فقراء العالم الأكثر سحقا وفقرا في إفريقيا واسيا وأمريكا اللاتينية.
لقد كان الخطر الداهم على العمال مسلط على رؤوسهم من الصناعيين وأدواتهم وقد ظل الجنود على مدى كل العصور هم السوط الذي يستخدمه الحكام وأصحاب الثورة ضد مستخدميهم دون أن يملك هؤلاء الجنود أكثر من بنادقهم ولباسهم الميري المملوك للحاكم أصلا ليباهون به ناسهم ويترفعون به عنهم إلى جانب دريهمات الخبز التي يقبضونها مقابل موتهم ليطعموا أطفالهم, واليوم بعد أن خانت الطبقة العاملة الصناعية في أمريكا وأوروبا الثورة ومصالحها الحقيقة وعقدت حلفا غير معلن مع الرأسماليين لصالح تصدير الموت إلى الشعوب الأكثر فقرا بات من الضروري الالتفات إلى الآلة الجديدة القديمة التي لم يجر تثويرها بعد ولم يجر لفت انتباهها إلى حجم المعاناة والقهر التي يعيشها أفرادها وهم الجيوش عبر العالم الذين استخدموا ولا زالوا كأدوات قهر للفقراء والمضطهدين عبر الأرض كلها بينما كانت الحقيقة ولا زالت أن الجندي هو المقهور الأول لتقديمه للموت بديلا عن سيده دافع راتبه ومالك سلاحه.
حين يغادر الجندي معسكره ويخلع بزته الرسمية ويرتدي ملابسه المدنية ويعود إلى كوخه وفقره ليحرث الأمتار القليلة باب بيته أو ليحلب البقرة الوحيدة التي يملكها لتساعده على شظف العيش سيكتشف انه الحقيقي هنا والمزيف هناك وان من يقتله أثناء خدمته هو ذاته ومن شابهه وانه المقهور الأول وهو لا يقهر سوى ناسه منشغلا عن قاهريه وقاهري ناسه بواسطته وان القهر الواقع على الفقراء والبسطاء والشعوب المظلومة على يديه هو نفس القهر الواقع عليه, وعلى قوى الثورة اليوم أن تضع أمام عينيها حقيقة انه أي " الجندي " هو الأقدر على استعادة فوهة بندقيته وإلقاءها على الأرض ودعوة صانعيها لاستخدامها ضد بعضهم لا ضد البشر كل البشر سواهم حينها فقط سيتحرر والى الأبد كل جندي وضابط في جيوش الطبقات الحاكمة من كونه أداة موت ليصبح محررا للبشرية من الظلم فقط بالتوقف عن القيام بدور القاتل المأجور المهدد بالقتل كغيره فهو قاتل قد يقتل ومقهور يقهر غيره كل ما في الأمر أن بإمكانهم إن توحدت إرادتهم أن يمنعوا الموت لصالح الحياة وان يحولوا كل أنواع الأسلحة إلى قطع من المعدن الخردة لا أكثر ولا اقل يمكن للبشرية أن تعيد سكها كطناجر للطبخ وأدوات للحراثة والخير.
الناظر من الخارج سيجد الجندي خارج التعريف الماركسي للطبقة وانه خارج العملية الإنتاجية بمفهومها التكنيكي الجامد لكن الإمعان الحقيقي بذلك سيجد نفسه أمام طبقة من نوع مختلف ولم يتم قراءتها بعد بما تستحق ولم يجري الالتفات إليها والى قدراتها المسروقة من قبل أعداء الشعوب وما يمكن أن تفعله من تحقيق للنصر لكل الفقراء إن قرر الجنود كل الجنود على وجه الأرض الاتحاد وإلقاء بنادقهم وخلع بزاتهم العسكرية والعودة إلى أكواخهم يصنعون الخبز بالتنور البيتي فهم قطعا سيدفنون بيوم واحد الامبريالية وأصحابها إن توقفت أصابعهم فقط من الضغط على زناد موتهم وموت ناسهم لصالح قاتليهم من صانعي وتجار السلاح وأتباعهم.
الجنود إذن هم طبقة الإنتاج كله فهي حامية أصحاب السلعة وطريق السلعة وأسواق السلعة وما نشهده اليوم في ليبيا على سبيل المثال وكيف يموت شباب ليبيا دفاعا عن مصالح أصحاب النفط ومشتريه وطرقه وما يدور على ارض حلب من حرب على طريق الغاز وكيف تسرق الدول أسواق وخيرات ومنتجات وممرات بعضها في سبيل أغنياءها فنحن لا نجد إلا جهة واحدة يتكرر حضورها في كل مراحل مشهد السلعة بدءا من قدرة الصانع على الحصول على موادها الخام وبالتالي الحاجة للسيطرة العسكرية على هذه المصادر ثم طرق نقلها وكذا تنظيم إنتاجها ثم إعادة تسويقها وما يشهده ذلك من صراع عنيف وصامت على الأسواق العالمية وطرق التوزيع والبيع والسيطرة على المستهلك نفسه بشتى السبل.
الرأسماليين هم مالكي الآلة والعمال هم مشغليها والتجار من الكمبرادور وغيرهم هم من الموزعين مع طبقة كبيرة من الموزعين وتجار المفرق وغيرهم وما يلي ذلك من بيروقراطيين في شتى المراحل لتنظيم مسيرة السلعة من الألف إلى الياء لكن الثابت الوحيد الواقف أبدا على أهبة الاستعداد هم الجنود الذين تصدرهم الطبقة المالكة من امبرياليي أمريكا وأوروبا إلى العراق وأفغانستان وغيرهما للموت في سبيل حماية مراحل السلعة إلى حد تسليع البشر أنفسهم وفي مقدمتهم الجنود وصغار الضباط كقاهرين لغيرهم لصالح الرأسمال مقهورين أكثر من غيرهم من نفس أصحاب المال لكونهم مدفوعين بالأجر إلى أتون الموت علنا بشعارات لا تغني ولا تسمن من جوع ولن تسد النياشين رمق أطفالهم ولن تدفئ أسرة زوجاتهم بعد رحيلهم مهما تغنوا بالبطولة الفارغة من كل شيء إلا من كم الدراهم التي دخلت لجيوب أصحاب السلع وأغنياء الحروب من اللصوص والجبناء.
أبدا لا يجوز لنا أن نهمل التجارب الكثيرة حاضرا وماضيا عن قدرة الجنود على حسم أي معركة بصمتهم فلقد كان ذلك جليا في موقف الجنود في ثورة أكتوبر الاشتراكية وكان واضحا كيف حسمت الأمور في تونس ومصر إبان ثورات الربيع العربي وسقطت الأنظمة بسهولة حين قرر الجنود الانضمام إلى الشعب واعتبار سلاحهم للشعب لا للسلطة ذاك ما يمكن أن يكون إن اتحدت كل اكف الجنود في جيوش العالم كله على نفس القرار.
بالتأكيد لم يمت بعد شعار الثورة العمالية القائل بان إرادة الثورة تكمن في قبضة العامل فالعامل نفسه هذا لا زال ينتج بكفه أسلحة الموت والدمار لصالح قاتلي الفقراء خارج بيته وهو إن استمر بفعل ذلك معتقدا أن الموت بعيد عنه وقابلا بالرشوة الممنوحة له من بحبوحة كاذبة للعيش دون أن يدرك أن هذه البحبوحة جاءته أصلا على نهر من دماء الفقراء والشعوب المضطهدة وانه سيظل مشاركا حقيقيا بالجريمة إن لم يصحو من غفوته ويكف يده عن الضغط على كبسة أي ماكنة تصنع أي سلاح للموت والحرب وبالتالي فان الدوران يمكن لهما أن يكملا بعضهما مرة أخرى ومن جديد وما قام به عمال وجنود روسيا في الحرب الاستعمارية الأولى لا زال نموذجا حيا للفعل الثوري في العصر الحديث وان كان الجنود اليوم هم الأكثر قهرا في البلدان الامبريالية لأنهم قبل غيرهم من يرسلون للموت في لهيب الحرب بعيدا عن بيوتهم وأسرهم لا إلى صالات المصانع المكيفة ولا إلى واجهات الإعلام الامبريالي.
إن ذلك يقودنا بالضرورة إلى الدور الخطير الذي يقوم به بعض المثقفين ورجال الإعلام من تعمية على عيون العامة بتاليه الحرب وأهدافها دون نبش الهدف الحقيقي للامبريالية من هذه الحرب وبالتالي فان الخيانة الأخطر تكمن في هذا الدور المشبوه من المثقفين المنظرين لأهداف الامبرياليين ممن يصوغون أحيانا هذه الأهداف ويقدموا لها التبريرات ويقولبونها في هالة من القداسة حتى لا يجرؤ احد على محاربتها بما في ذلك بعض الفقهاء المأجورين ورجال الإعلام والسياسة صانعي مبررات الحرب مدافعين عن صانعيها ومبدعي الأهداف السامية للموت في سبيل شعارات صاغوها بأنفسهم كالشعارات الأكثر زيفا في التاريخ تلك التي سوقتها أمريكا لتبرير حربها القذرة على العراق وسوريا عن إشاعة الحريات وحماية الديمقراطية من بطش الأنظمة وديكتاتوريتها.
بقلم
عدنان الصباح