الهوية الوطنية ليست شعاراً وليست تسجيل موقف فقط، بل هي ماضي بجذور وحاضر وبنضال ومستقبل مشروع. فهي، الهوية الوطنية، وليست نقيض الهوية القومية أو تقليص من وزنها، بل تثبيت لها وحجر أساسي في بناء سليم متكامل في أولويات معرفة الذات.
قبل أسابيع شاركت كمحاضر في دورة لتحضير معلمي مدارس ألمان لزيارة إسرائيل وفلسطين. عن الطرف الآخر، الإسرائيلي، شاركت سيدة إسرائيلية يهودية من أصول مغربية درست في ألمانيا ومتزوجة من ألماني ومقيمه في نهاريا وبلد في غرب ألمانيا. أضافت أنها كانت نشيطة لسنوات في ما يسمى " باليسار الصهيوني" وأيضاً في حركة السلام. عندما طلب مني ان اعرف بنفسي قلت الاسم الكامل وأضفت أنني من الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. عندها ابتسمت السيدة بخبث وقالت: تقصد من عرب اسرائيل، وأضافت أنه قبل العام ١٩٤٨ لم يكن احد يعرف نفسه كفلسطيني، بل كعربي فقط وكنية فلسطيني إبداع جديد.
إن الطبقة السياسية التي تمثلكم تسمي نفسها عربية ويقولون عن نفسهم عرب إسرائيل الخ. فابتسمت بخبث وشكرتها على سذاجتها وقلت لها إنك فتحتي الآن باب لم أود أصلاً ولوجه والدخول فيه بل وفي هذه الدورة، كي لا أحرجك، لكن بما انك من طرقت وفتحتي هذا الباب، فلن أخذلك!
فوراً، استحضرت لها أمثلة تمحورت حول إستراتيجية الحركة الصهيونية المدروسة لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية.
رغم هذا كله يجب أن نعرف أن هذه السيدة جزء من مصنع أيدولوجي يعمل بتقنية عالية وما زال يتقن لعبة وفن الرقص على الحبال، فيجب أيضاً أن اعترف بان البلبلة المقصودة المبرمجة لهوية الأهل الأصليين في فلسطين، قد نجحت وما زال مفعول هذا المصل يؤثر علينا حتى الآن. وما زلنا نعيش داخل ما اسميه "بدوامة الهوية" بكل ما فيها من تأثير على تطور الانتماء الوطني والقومي الصحيحين والتفاعل السياسي والانخراط الفعلي به وفيه.
إن مشروع القانون الذي قدمته القائمة المشتركة للكنيست الإسرائيلي الأسبوع الماضي للاعتراف بنا كأقلية قومية عربية، هو جزء من هذه البلبلة، دليل على أن القيادات السياسية ما زالت تراوح مكانها في هذا الموضوع بالتحديد ولم تستطع أو تتجرأ أن تخطو خطوة واحدة نحو الأمام في تثبيت الهوية الوطنية الفلسطينية وعادت تكرر خطاب أسلافها.
وعودة بنا إلى السؤال حول الانتماء والهوية، لابد أن انوه مرة أخرى إلى أن الحركة الصهيونية ومنذ بداياتها عمدت على نفي الهوية الوطنية الفلسطينية للسكان الأصليين ومنعتهم من استعمالها، لكنها سمحت ودعمت استعمال وتداول الهوية القومية العربية، دون أن تعترف قانونياً بأهل البلاد الأصليين كأقلية قوميه، لكنها سمحت بالتعبير عن القومية تقريباً دون قيد أو شرط.
هنا الأمثلة عديدة على هذه الإستراتيجية:
أولاً: استعمل الصهاينة الأوائل ثلاث مصطلحات: المسألة العربية (وليس الفلسطينية) والمشكلة العربية و"الترانسفير"، مصطلحات بنت العمود الفقري للإستراتيجية الصهيونية للتنقية العرقية والتهجير في فلسطين التاريخية وطمس الهوية الوطنية لأهل البلاد الأصليين لكي يسهل " نقلهم" من ارض عربية إلى أرض عربية أخرى دون أن يحدث هذا الأمر زوبعة بالعالم من جهةـ ومن جهة أخرى "ليريح ضمير" المتشككين من اليهود الذين بدءوا بالتشكيك بالنوعية الاستعمارية للصهيونية. "لمن يريد أن يتوسع بالموضوع انصحه بكتب الدكتور المؤرخ نور الدين مصالحه: فكر الترانسفير وأرض أكثر وعرب اقل".
ثانياً: إنكار الهوية الوطنية الفلسطينية لأهل البلد الأصليين تداوله قادة الدولة الصهيونية منذ البداية وحتى هذا اليوم. غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية الأسبق صرحت "لم يكن الأمر هكذا وكأن في فلسطين كان هناك شعب فلسطيني. وأتينا نحن وطردناهم وأخذنا أرضهم بالقوة. مثل هذا الشعب لم يكن موجود أصلاً". (اقتباس من كتاب اوري افنيري ؛ Israel without Zionism; نيويورك 1971, ص. 262) هذا الافتراء وتزوير التاريخ أعاده نتانياهو في زيارته الرسمية للنمسا سنة 1997 وصرح أيضاً: أن أعداداً هائلة من العرب هاجرت إلى فلسطين للعمل بعد أن بدأت الحركة الصهيونية في بداية القرن العشرين في بناء الدولة وفتحت لهم إمكانيات كسب العيش وكرر في نفس اللقاء الصحفي مقولة الأيدولوجي الصهيوني إسرائيل تسانغڤل Israel Zangwill "شعب بلا ارض على ارض بلا شعب" وأسهب وقاحتاً بقوله: اليوم أصبحت الأرض القاحلة بدون شعب ارض خصبة وبلد عامر وهنا الاقتباس من صحيفة Süddeutsche Zeitung الألمانية بتاريخ 23-9-1997) وكررت الكلام نفسه حبيبة العرب: الحمامة الإسرائيلية " تسبني ليفني أمام مؤتمر اللوبي الصهيوني في واشنطن وتبعها نفتالي بنت بعرضه " لحل الصراع الإسرائيلي العربي" في محاضرة بفندق بالقدس المحتلة عام 2012).
ثالثاً: إن الحكومات الإسرائيلية بألوانها المختلفة لم تعارض التعليم باللغة العربية وتدريس اللغة وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام، طبعاً وفق رؤيتهم هم وحدودهم هم، لكنها سمحت بكل هذا ولم تحدد من استعمال اللغة والشعارات القومية العربية، واعتمدت في إذاعتها حيز للبث باللغة العربية.
إن الحكومات الإسرائيلية غذت الهوية القومية على حساب الهوية الاوطنية للأسباب التي ذكرتها سابقاً.
هذه الإستراتيجية المبنية على طمس الهوية الوطنية لفلسطيني الداخل وتسميتهم كعرب هي التي حملتهم لاعتماد اللغة العربية كلغة ثانية لدولتهم إلى جانب اللغة العبرية، ليظهروا بمظهر الديمقراطيين ويسهل عليهم تسويق ما فعلوه من إجرام إنساني بحق الشعب الفلسطيني.
إن مشروع القانون المقدم من القائمة المشتركة للاعتراف بنا كأقلية قومية عربية داخل إسرائيل هو رغم أهميته المبدئية، إلا انه مشروع أعرج ناقص، وهو محاولة للتأقلم مع الوضع القائم منذ سبعين عاماً ونيف وهو محاولة لتثبيت " دوامة الهوية".
إن هذه الدوامة وهذا التخبط يتجلى في التسميات التي تستعملها القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج وتتبناها وسائل الإعلام دون استثناء لأبناء شعبنا الفلسطيني بالداخل؛ عرب الداخل، عرب إسرائيل، الأقلية العربية في إسرائيل، عرب ٤٨، الخ من مشتقات وتركيبات تلتف بقصد أو بدون قصد، على الهوية الوطنية.
إن النقلة النوعية تكون بان تتجاوب القيادات السياسية في الداخل الفلسطيني مع التزايد الكبير لإظهار وإشهار الهوية الوطنية الفلسطينية لأبناء شعبنا في الداخل. وأن تكون طليعية وتقود الجماهير، لا أن تمشي خطوات بعيدة وراءها.
كما قلت، إن الهوية القومية العربية لم تكن ليوم واحد منذ اغتصاب فلسطين في خطر، بل على العكس كما أوضحت أعلاه. إن الهوية الوطنية الفلسطينية والانتماء العضوي للشعب العربي الفلسطيني كانتا وما زالتا في خطر.
حتى عام 1994 كان محظور علينا أن نسمي أنفسنا فلسطينيين او أن نستعمل شعارات تدل على هويتنا الوطنية مثل العلم والخارطة الخ.
إن ما هو مسموح به الآن من مظاهر تدل على الهوية الوطنية الفلسطينية لأهل الديار الأصليين، حصل فيه خطأ وقعت فيه القيادات الصهيونية عندما تبادلت الاعتراف مع "م ت ف" ولم تستطع المؤسسة الإسرائيلية من تجاوز هذا الخطأوالحد من تزايد العنفوان والإقبال على استعمال الهوية الوطنية وشعاراتهاوانتشار الشعور، وخصوصاً عند الأجيال الشابة، بفخر الانتماء لهذه الهوية الوطنية.
إن القيادات السياسية لفلسطيني الداخل تتخبط في هويتها الوطنية والقومية أيضاً، وتصرفاتها تتعارض مع أقوالها ومطالبها. وهي بتصرفاتها وبخاطبها لم تتطور، إلا قليلاً عن أسلافها من القيادات السياسية.
هنا أعطي مثالاً واحداً على ذلك يوضح لكم التناقض التي تعيشه القيادات السياسية الفلسطينية في الداخل.
قبل أشهر قام أعضاء من أحزاب يهودية صهيونية بتقديم اقتراح للكنيست الإسرائيلي لإلغاء ميزة اللغة العربية كلغة رسمية للدولة. وقامت حفيظة القيادات السياسية الفلسطينية بحق على هذا التصرف العنصري ولكنها لم تضع العلامات والإشارات الصحيحة لمواجهة هذا الخطر الذي بدأ قبل سنوات بكتابة أسماء المدن والقرى والمؤسسات الرسمية بلغة عربية ركيكة وأخطاء إملائية مقصودة.
إن النواب الفلسطينيون في الكنيست الإسرائيلي دافعوا عن اللغة العربية، رمز الهوية القومية، كما قالوا، باللغة العبرية!. وهم يتنافسوا فيما بينهم حول من هو المتمكن الأفضل باللغة العبرية وتراهم يخطبون في الكنيست باللغة العبرية، رغم أن اللغة العربية لغة رسميه للدولة!. هذا يسمى في علم النفس انفصام شخصية.
لماذا إذاً التنازل عن تقدم قُدِمٓ لك على طبق من ذهب وما عليك إلا أن تطوره وتعمل على تجذيره في الذهن والعقل؟.
هذا سؤال اطرحه على القيادات السياسية لشعبنا الفلسطيني في الداخل. انا أدرك حجم الضغط الذي يقع على كاهل الأخوات والأخوة في القائمة المشتركة، وعلى كل من يعمل مباشراً في الحقل السياسي لفلسطيني الداخل، وأنا على يقين أن هجرهم بدعم الهوية الوطنية والمطالبة بالاعتراف بنا كأقلية وطنية صعب ولا يلقى حتى استحسان بعض القيادات الفلسطينية في "م ت ف" التي تتفادى أية مواجهة مع قادة إسرائيل، لكني أيضا أدرك ان التاريخ لا يرحم وان سيرورة الأحداث لتطور شعب يمكن لك أن تبطئها أو تحرف قليلاً من مسارها لكنك لا يمكن أن توقفها تماما أو
أن تغير طريقها.
إن أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني وخصوصاً الشباب منهم يقولها علناً إنه لا بديل عن هويتنا الوطنية الفلسطينية وهو يشدد على هذا المطلب، ويؤكد على هذا المسار في كل مناسبة، ومن يتابع صفحات التواصل الاجتماعي لهذه الفئة من أبناء شعبنا في الداخل سيصل حتماً إلى نتيجة مفادها أن الشعب قد سبق قيادته السياسة وسيرورة التاريخ والحدث اليومي توضح لنا ابتعاد الجماهير عن هذه القيادات وهذا بحد ذاته ناقوس خطر علينا سماعه وتحليله بهدوء.
//انتهى//
الكاتب والمحلل والباحث السياسي رائف حسين- المانيا