لقد كشفت حقيقة التطورات السيئة التي يحياها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من أقصاه إلى أدناه، والتي فاقت كل الحدود، أن القيادة الفلسطينية كانت في واد، والناس في واد آخر، وأن السنوات العجاف التي عاشها أهالي قطاع غزة من أشد السنوات قسوة على النفس والمصير، إذ كانت حافلة بالأحداث الجسام، تهزهم هزاً عنيفاً، وفي مقدمة هذه الأحداث مجزرة الرواتب لموظفي قطاع غزة.
ولم يعد عجيباً وأنت تختلط بالناس، وتتطلع بعيون شاخصة وقلوب مفتوحة وآذان واعية، أن ترى وتسمع حديث التذمر والريبة والخوف الذي شمل الجميع تقريباً جراء الواقع المؤلم والأوضاع البائسة لمستوى حياة المواطنين على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم، وشعورهم الجارف بالحرقة لفقدان النصير في ظل استقطاع ما يزيد عن 30% من رواتب الموظفين في قطاع غزة دون إخوانهم في الضفة الغربية.
ولعلَّ أغرب ما في الحالة الفلسطينية التي نعيشها اليوم حالة اللامبالاة التي اجتاحت القيادة الفلسطينية على وجه التحديد تجاه الأزمات والمشاكل التي تعصف بالمواطنين في قطاع غزة، وباعتقادي أنه، ما لم يتوفر للمواطن المحروم الحد الأدنى من مستلزمات العيش الكريم، فلا يمكن أن يثق بقادته وفصائله، أو أن يشعر بروابط مادية تشده إلى وطنه، ليدافع عنه وينهض به.
لقد أضحت فلسطين فريسة الاختلاف، واختزلت قضيتها العادلة التي تهدف إلى التحرير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى عدة قضايا ثانوية تشغل بال الناس، وأبعدتهم عن قضيتهم المركزية، كمجزرة الرواتب الأخيرة بحق أبناء قطاع غزة.
وكان لهذه المجزرة أصداؤها عند الناس؛ بعد أن أضحت غزة، بل قطاعها، سجناً كبيراً يضم أكثر من مليون وثمانمائة ألف إنسان، أغلبهم ناقمون على تدهور الأوضاع المعيشية خلال فترة حالكة من تاريخهم ساد فيها الظلام، ولسان حالهم يقول: ما بال القائمين بالحكم أصبحوا غير قادرين على القيام بواجبهم خير قيام؟ ويتمنون أن أي حكومة عليها أن تكون أمينة على أحلام وتطلعات الناس، وتسعى لتلبيتها، كما راجت بذلك الأقوال والروايات المتعددة.
ولعلَّ من الشواهد التي ساقها الأديب أحمد حسن الزيات في مجلته (الرسالة) يوم 6 يناير 1939 قوله للملك: (يا صاحب السعادة لِمَ تَرْضَى أن أكون صاحب الشقاء؟ وأنا وأنت نَبْتَتَان مِنْ أيكة آدم نَمَتا في ثرى النيل، ولكن مغرسك لحسن حظك كان أقرب إلى الماء، ومغرسي لسوء حظي كان أقرب إلى الصحراء، فشبعت أنت وارتويت، على قدر ما هزلت أنا وذويت).
وأضاف "الزيات": (هيهات أن يكون في الأرض إيمان ما دام في الأرض فقر).
كما نبه الزيات ولاة الأمر في ذلك العهد إلى خطورة المشكلة بالنسبة إلى النظام الاجتماعي كله قائلاً: (كل ثورة في تاريخ الأمم، وكل جريمة في حياة الأفراد إنما تَمُتُ، بسبب قريب أو بعيد إلى، الجوع).
كم كنت أتمنى أن تحمل حكومة الوفاق الوطني على أكتافها حملاً ثقيلاً من موروث الماضي، وهو ما ينوء أولو العزم من القادة على حمله لإصلاح الأوضاع التي سادت بعد أحداث عام 2007م، وهذا يتطلب مجهوداً جباراً متواصلاً، حيث علق أبناء الشعب الفلسطيني على تلك الحكومة الكثير من الآمال، وتوسموا فيها الخير، لتكون قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه الحكم، وحيث اقتضى ذلك تحميلها المسؤولية الكاملة عن الشعب بكل طبقاته واتجاهاته، ومن أقصى الوطن إلى أدناه، وتوفير كل مستلزمات الحياة الكريمة والسهلة للمتعبين في الأرض الذين يتصبب منهم العرق والشقاء، وذلك بالتخفيف عن آلامهم، والمساهمة بقسط وافر في إصلاح الأوضاع.
إنَّ النضال الفلسطيني يمرّ بساعة من أخطر ساعات الأزمة، وإنَّ النجاة رهن بالعودة إلى التضامن بين الفلسطينيين، والعدول عن هذا القرار الذي أثار الريبة، وترك انعكاسات خطيرة مست النسيج الاجتماعي والوظيفي دون التمعن في معاناة موظفي غزة المتراكمة جراء هذا القرار الذي أعاد نكأ الجرح، وأنذر بحالة انفجار جماهيري إن لم تسارع الحكومة بمعالجة الموقف بحكمة، وإدراك حقيقة الخطر الذي بات يتهدد الجميع.
بقلم/ نعمان فيصل