لعل المتابع والمراقب لمواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة وألوانها المتعددة، يعرف أن الأغلبية الساحقة مما ينشر عبرها، هو كلام عبثي وخرافات وبطولات كاذبة وأمنيات ليس إلا.
هذه الظاهرة لا تنحصر فقط على المواقع التي يكتب فيها بنات وأبناء الأمة العربية. هذه ظاهرة كونية، تجدها في كل بلد وكل لغة. والفرق فقط هو في نوعية الكُتاب والمروّجين لـ"الأخبار والمعلومات"
في هذا العالم الافتراضي الخفي يصبح الرجل امرأة، ويصبح الجاهل شاعراً ومؤلفاً، ويصبح الطفل شاباً مراهقاً، والفاسق يصبح رجل دين وواعظ، ويصبح متواضع المعرفة خبير في الطب والتكنولوجيا والكيمياء والعسكرة.
اليوم، لم يعد الفن، ولم تعد البطولة من خلال القدرة على نشر نصوص وصور عبر صفحات التواصل الاجتماعي، لأن الفن والحنكة، أصبحا بمعرفة مما ينشر، ما هو " قريب من الصحيح ومن الواقع"، وما هو خرافات ودجل وتلفيق ومزاعم وادعاءات. لأن مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم كل سلبياتها، إلا أنها أصبحت واقع القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن تجاهله ولا حتى القفز عنه.
إن "فيسبوك"، و"تويتر"، وامثالهم أصبحوا مسارح ليس فقط للتعارف والتواصل الاجتماعي الإنساني فقط، بل أضاً آلة ناجحة لتسويق البضائع وتسويق السياسة والأيدولوجيا. لأنه اليوم لا تستطيع شركة ناجحة او سياسي ناجح، ان يستغني عنها ان اراد ان يروج لـ" بضاعته" لدى الجماهير.
بعض الخبراء في هذا المجال، يذهب بعيداً ليقول إن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تتفوق على التلفزيون بتأثيرها على الرأي العام وتصرف الأفراد بكل المجالات. في الدول المتحضرة أصبح من الطبيعي أن يتعامل علوم الاجتماع والنفس الاجتماعي والتسويق والاعلام والصحافة، مع مواقع التواصل الاجتماعي والبحث في تفاعلها الإيجابي والسلبي على المجتمع والافراد وتطوير الأداء بها وعبرها.
في الماضي كانت الحروب تخاض وجهاً الى وجه بالسيف والدرع وتطورت البشرية وتطورت معها رغبتها للوحشية بالفتك وطورت اسلحتها للقتل والدمار وأصبحت لا تطلق النار فقط، بل تقصف بالطائرات وتطلق صواريخ عابرة للقارات وتقذف قنابل " ذكيه" وترسل طائرات بدون طيار لتوصل البطش والدمار والقتل الى كل زاوية. لكن هذا التطور، كله لا يحسم اليوم في عصرنا هذا، معركة ولا يربح حرب دون الاعلام المرافق للحدث.
الاعلام بالصورة والصوت والاعلام بالخبر وتناقله باسرع ما يمكن، اصبح يُعْرف بحرب الاعلام التي لا تقل أهمية عن حروب الأسلحة الفتاكة بتأثيرها على مصير شعوب باكملها. والحرب الاعلاميه بأنواعها وألوانها، اصبحت، اضافة الى كونها احدى اهم الحروب السياسية، واستراتيجية حربية تتبعها وتطورها الدول وجيوشها واجهزتها الامنية.
البارحة أطلقت المانيا العنان لـ"جيشها الإعلامي"، كم وصفته وزيرة الدفاع الالمانية، والذي سيصل تعداده في السنوات القريبة القادمة الى ثلاثة عشر الف جندي، يدعمون بخمسة آلاف خبير غير عسكري.
الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا ودوّل اخرى، تعتمد هذا النوع من الجيوش منذ زمن طويل، وإسرائيل احدى الدول الرائدة في حروبها الاعلامية وحروبها الالكترونية. لأن قوة الصورة والكلمة، أقنعت العالم وأكثرية من العرب بتدمير العراق أرضاً وشعباً ودولة وكياناً وحضارة.
في حرب العالم ضد العراق، قتل مليون ونصف إنسان من اهلة الأبرياء، نتيجة لعرض صور ومعلومات مزورة مفبركة قامت بإعدادها وحدات خاصة بوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، والاجهزة المخابرات، وقام بعرضها على مجلس الأمن الدولي، والعالم آنذاك ووزير خارجية أمريكا وقتها سيئ السيط الجنرال كولن باول. هذه كانت بداية مرعبة مخيفة لتوغل وحشية الحرب الإعلامية ومدى تأثيرها على الجماهير.
بعد هذا العدوان الامريكي الغاشم على شعب العراق وأرضه وما نتج عنه من دمار وقتل لم تتعلم البشرية شيء، حتى بعد ان كشف علماء وخبراء البدعة والكذبة الامريكية حول وجود أسلحة دمار شامل بالعراق، وحتى بعد ان اعترف باول نفسه بالكذبة والخدعة، بقي آلاف مؤلفه من العرب وعدد من الانظمة وعدد كبير من أشباه الخبراء مقتنعون بان ما حصل في العراق واهله كان صحيحاً وعقاباً في مكانه.
إن العبرة الصحيحة التي كان يجب استنتاجها من قتل مليون ونصف إنسان بريء، كانت يجب ان تكون بأنه ليس كل ما ينشر في الاعلام امر مسلم به. وعلينا ان لا نحكم على الامور بهذه البساطة وان نثق بمن هم اصلاً لا ثقة لهم.
قال النبي محمد عليه السلام في حديث فيما معناه، إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. للأسف عرب الماضي لم تعرفوا مدى السطحية التي تطغى على عرب العصر الحاضر! فتكررت الكذبة وتكرر الاعلام المضلل واثبتت مرة اخرى حرب وماكينة الاعلام، قدرتها على اللعب في عقل ملايين البشر كما حصل في "الحرب على الإرهاب" في أفغانستان، وما حصل في عدوان اسرائيل على لبنان سنة 2006، والعدوان المستمر على الشعب الفلسطيني المستند الى تلفيقات إعلام المخابرات الاسرائيلية، وها نحن الآن نشهد سيناريو مشابه بالحرب على سوريا وعلى شعبها.
إن موت العشرات من ابناء الشعب السوري الأبرياء البارحة، بعد استنشاقهم لغاز سام، كما اجزم العديد من الخبراء، آثار سيل من الاتهامات ضد النظام السوري على مواقع التواصل الاجتماعي، استعملت خلالها كل عبارات التحقير والإساءة والادانة، واجزم هؤلاء على ان "النظام المجرم"، بحسب تعبيرهم، هو من قام بهذا العمل المشين.
ذكرتني تغريدات هؤلاء بكلام عديد سمعته وقرأته وشاهدته قبل العدوان الغاشم على العراق، وقبل تدمير العراق، وقتل مليون ونصف من أبنائه على ايدي قوات الاحتلال الامريكية- الغربية المدعومة عربياً. تكاد تكون بعض التغريدات نسخة اصلية عما قرأنه في الماضي.
الم يتعلم هؤلاء من الماضي؟، كل ما يستند اليه هؤلاء الشاتمون، هي معلومات تم نشرها في الإعلام من الطرف المعادي لسوريا شعباً وحكومةً، من ارهابيين وانظمة عربية، وإسرائيل وبعض الدول الغربية.
انا لا أقوم بضحض ادعاءات هؤلاء، لاني لا املك براهين قاطعة على ان الجيش السوري لم يقم بهذا العمل الاجرامي. لكني استخلصت من تجربة العدوان الغاشم على العراق، ومن خبرة الماضي ان لا اتسرع في الحكم على مثل هذه الاحداث حتى تنجلي سحابة "البروباغاندا" وتثبت التهمه بالبرهان والادلة على المتهم. وأود هنا ان اثير بعض الأسئلة التي برأيي واجب ان يطرحها كل من هو معني بإظهار الحقيقة الكاملة، وكل من يهمه الحق ويحترم الإنسانية:
أولاً: في البحث عن الحقيقة، على الانسان العاقل ان يسأل عن مصداقية الناشر ومنبع المعلومات المنشورة. الخبر نشرته مواقع تربطها صلة قوية بالارهابيين في سوريا، ومدعومة من المخابرات البريطانية والفرنسية، وهذا لم يعد سراً على احد.
اسرائيل وبلسان رئيس وزرائها كان اول من روج للخبر وذرف دموع التماسيح على أطفال سورية ولحقت به اجهزة المخابرات والإعلام الامريكية والإعلام الأصفر العربي الذي ما زال ينعت داعش بالارهابية بـ"الدولة الاسلامية"، وجبهة النصرة الارهابيه " بالمقاومة المسلحة في سوريا".
هل اصبحت اسرائيل و"البنتاغون" وفضائيتي الجزيرة والعربية، معقل الدفاع عن حقوق الانسان والانسانية في العالم؟.
ما مصداقية هؤلاء بعد كل ما روجوه من ادعاءات وأكاذيب حول العراق وليبيا واليمن والبحرين وفلسطين؟. هل نسينا دوافع هؤلاء ونسينا مخططاتهم للقضاء على القضية الفلسطينية، وعلى كل من يرفع ويتبنى شعار الحرية لفلسطين؟.
ثانياًً حتى في هذه الدول وخصوصاً في أوروبا، قام خبراء سياسيون وعسكريون بالتشكيك في المعلومات حول ان النظام السوري هو من نفذ بهذه الجريمة.
البارحة اسهب احد مستشاري وزارة الخارجية الالمانية الدكتور ميشائيل لودرز، وهو خبير في شؤون الشرق الاوسط، في تحليل الاكاذيب حول مسؤولية النظام السوري عن الحدث. وأوضح ان من يدعي بان بشار الأسد ومستشاريه بهذه السذاجة وهذه العبطية للقيام بمثل هذا العمل، وفي مثل هذا الوقت بالتحديد، هو لا يعرف شيء لا عن سوريا ولا عن الأسد ولا يفقه في السياسة شيئاً. فكيف اذا تصدقون ادعاءات نتنياهو وعملاء الموساد واجهزة المخابرات الامريكية والإعلام القطري، ولا نصدق خبير ألماني يعمل لصالح الحكومة الالمانية؟.
ثالثاً: البارحة قدم خبراء عسكريون روس براهين على ان الغاز السام كان متواجداً على الارض والأرجح انه في إحدى غارات الجيش السوري، تم إصابة مستودع للغاز السام الذي احضرته جبهة النصرة قبل أسابيع من تركيا، وكانت الحكومة السورية والروس، قد اخبروا الجهات التركية والجهات المختصة بالاسلحة الكيماوية في الامم المتحدة بهذا الامر، وزودوهم بالمعلومات حول الامر.
الحقيقة ان الذين ماتوا من جراء استنشاق هذا الغاز تواجدوا في بقعة قريبه من المكان لا يتجاوز محيطها مئات الامتار ولو كان الامر كما يدعي إعلام الارهابيون بان طائرات سورية هي التي قصفت بصواريخ محملة بهذا الغاز او انها رشت الغاز السام، لكانت بقعة الارض التي اصابها التلوث اضعافاً مضاعفة لما هو الحال بمكان الحادث.
رابعاً:ً قبل وقوع الحادث نشرت تغريدات على "تويتر" لشخصيات من صفوف الإرهابيين تحرض جماهيرهم وسحيجتهم ليكونوا جاهزين بعد ساعات لنشر خبر وقوع إصابات بغاز سام من قبل الجيش السوري.
البارحة قدم علوش، احد زعماء لواء ارهابي مرتبط بالقاعدة، معلومات دقيقه حول نوعية الغاز المستعمل وتركيبته الكيميائية، تفاصيل عجز حتى الخبراء في الدول الغربية وفي أمريكا واجهزة مخابراتهم المتواجدة على الارض من جمع مثل هذه المعلومات. الا يحق ان نسأل من اين لكم هذا الكم من المعلومات عن العملية ونوعيتها وتوقيتها والسلاح المستعمل؟ >
خامساً: حرب الصور والصور المزورة، اصبحت احدى ميزات الحرب في سوريا.
في السنوات الست الماضية وزعت صور تداولتها وسائل الاعلام الغربية والعربية الصفراء، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي سرعان ما تبين انها من " اخراج" ستوديوهات الأعداء لسوريا وشعبها.
ما هو اليقين بان كل الصور التي شاهدناها من عملية الغاز الاجرامية هي صور من الواقع؟.
اطرح هذه الأسئلة لا للقول انني املك الحقيقة، لكني اناشد الجميع من العقلاء وضع الحقد والكراهية جانباً لنحترم إنسانية وروح من راحوا ضحية هذا العمل المشين من ابناء الشعب السوري، وكفى رقصاً على جثث الأطفال للشماتة وتبرير الكراهية لجهة ما.
أخيراً أقول إن من قام باستعمال هذا السلاح الكيماوي، كان من كان، هو مجرم حرب ومجرم بحق الإنسانية ويستحق العقاب.
//انتهى//
الكاتب والمحلل والباحث السياسي الدكتور رائف حسين- المانيا