في تاريخ الصراع السياسي البشري يكون اندلاع الحروب مسألة وقت. وإذا كانت الحرب تبدو في ظاهرها محاولة لحسم الصراع إلا أنها في الواقع رغبة أحد أطراف الصراع في تحسين شروط المفاوضات لحصد نتائج لمصلحته بعد الحرب.
في حالتنا الفلسطينية يخالف الصراع مع إسرائيل هذا النهج، فبنظرة تاريخية على محطات الصراع، منذ انتفاضة البراق مروراً بانتفاضة الحجارة والأقصى، لم يستطع أي طرف حسم الصراع، ولم نحصل كفلسطينيين إلا على الفُتات، في مقابل تنازلات قُدمت أحياناً كثيرة بسبب ضغوط دولية على صاحب القرار، أو بسبب الصراعات الداخلية في البيت الفلسطيني للحصول على مكاسب حزبية أو فئوية. ولو بدأنا باتفاقية أوسلو التي كانت محاولة تكتيكية من الرئيس الراحل ياسر عرفات لإدارة الصراع نحو تحسين فرص الفلسطينيين في تسوية مستقبلية، فإن إسرائيل حولتها مع مرور الزمن إلى حل دائم، مستفيدة من الخلافات الفلسطينية والدعم الأميركي لها والتراجع العربي اضافة الى المتغيرات الإقليمية والدولية. واتفاقية أوسلو التي اعتبرها معارضوها مسألة تصل إلى حد الخيانة، يحكم اليوم قسم كبير من هؤلاء المعارضين غزة بموجبها. لكن الأهم هنا أن إسرائيل تمكنت بموجب هذا الوضع السياسي المترهل من تحييد ما يزيد على ثلثي مساحة فلسطين التاريخية، علاوة على ما يقارب ثلثي الشعب الفلسطينى في داخل الخط الأخضر والشتات من أي أجندة فعلية في الصراع، وهو أهم مكسب استراتيجي حصلت عليه إسرائيل.
اليوم نجد أنفسنا أمام الاستراتيجية الإسرائيلية نفسها في تفكيك الصراع بتحييد الخصوم، فبعدما حيّدت إسرائيل العديد من الدول العربية بعد الربيع العربي ومعهم تلثا فلسطين التاريخية بسكانها، مع فلسطينيي الشتات، تبدأ اليوم مرحلة جديدة بتحييد قطاع غزة والقدس، بعدما حيدت غزة بالانسحاب منها عام 2005. ولعلها بلغت أوجها في غزة بعد سيطرة حركة "حماس" عسكرياً عليها واستمرار الانقسام الفلسطيني بين شقي الوطن، الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي تحول إلى انفصال غير مُعلن مع مرور الوقت، وبفعل ثلاث حروب طاحنة تحول فيها القطاع إلى أكوام من الدمار واليأس والفقر والمعابر المغلقة، اي الى سجن كبير تتحكم إسرائيل ببواباته.
المؤسف ان حكام غزة الجدد لم يدركوا حتى الآن أنهم خرجوا فعلياً من دائرة التأثير في الصراع بفعل سياسة الردع ومعادلاته التي حولت قطاع غزه مُتلقى للضربات غير قادر على المبادرة، لعلمهم المسبق بأن المبادرة ستكلفهم كل شيء جنوه بحكمهم لقطاع غزة المحاصر. فغزة أصبحت غارقة في مشكلاتها اليومية التى لن تُحل إلا بتنازلات استراتيجية أكثر إيلاماً من تلك التي تضمنتها بنود اتفاق أوسلو الذي رفضوه في السابق ونعتوا من قام بتوقعيه بالخيانة والعمالة. ولن يفلح تغيير نهج سياسي أو حتى ميثاق في هذا الصدد. وعلى العكس ستفتح شهية إسرائيل لمزيد من التنازلات الاستراتيجية. وقد يحقق حكام غزة مكاسب تنظيمية واقتصادية نحو ترسيخ حكمهم، إلا أنها ستزول مع الوقت إذا لم تشكل دافعاً لهم للحفاظ عليها ضمن معادلة الردع التي تحكم علاقة غزة بإسرائيل والتي ستستغرق عقوداً للتغيير نحو علاقة طبيعية بين كيانين غير محكومين بمحددات الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي التاريخية.
أما في ما يخص القدس الشرقية فإجراءات تهويد المدينة التي تمارسها إسرائيل في شكل يومي والمخطط الاستيطاني الذي سيبلغ ذروته بضم معاليه أدوميم ونقل السفارة الأميركية إليها سيحول الفلسطينيين سكان المدينة الأصلية إلى أقلية لا حول لها ولا قوة، وستذهب إسرائيل بسياسة تفكيك الصراع وبتحييد الخصوم في بقية مناطق الضفة شيئاً فشيئاً بواسطة السياسة نفسها التي جرت في غزة، ولن تمانع إسرائيل في مرحلة مقبلة من عقد اتفاقات مع رؤساء بلديات أو حتى مخاتير عائلات إن استطاعت من خلال استراتيجية تفكيك الصراع الناجحة وبمحددات تتناسب مع كل منطقة، لكنها لا تمت بصلة الى محددات الصراع التاريخية.
اليوم لم نعد نشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل التي أصبح هاجسها إيران، وهي تحشد كل خصوم طهران في محاولة لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلى. وربما لم نعد نشكل حتى خطراً أمنياً على اسرائيل بفعل سياسة الردع وقسوة الرد العسكري على أي صاروخ ينطلق من غزة، وهذا ما أوصلنا إليه الانقسام السياسي والصراعات الداخلية في ما بيننا. وفي المقابل لم نحقق أي نصر استراتيجي عملي على مدار سبع عقود، خلاف الانتصارات الديبلوماسية والقرارات الدولية التي ترفضها إسرائيل. تلك هي الحقيقة باستثناء تفوقنا الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل بسياسة الاستيطان والعزل والتهجير.
عبير عبدالرحمن ثابت