انتفاضة الأسرى والنخوة الموءودة للسياسة العربية

بقلم: محمد عبد الحكم دياب

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ارتبطت المقاومة الفلسطينية بوجود فعلي لكيان فلسطيني مواز على أرض لبنان، وجاء ذلك في وقت تصاعد فيه الكفاح الإيرلندي المسلح ضد بريطانيا، وأخذ "الجيش الجمهوري الإيرلندي"، بخيار الإضراب المفتوح عن الطعام، وبدأ بأبرز قادته وأشهرهم؛ "بوبي ساندز". واعتمد التكتيك الإيرلندي على ألا يُضرِب السجناء عن الطعام في وقت واحد، ويلتحقون بالإضراب تباعا واحدا بعد آخر؛ بفارق زمني متفق عليه، وكان الهدف هو إطالة أمد الإضراب، حتى لو توفي واحد أو أكثر من المضربين.
وحين توفي أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني قرر رفاق "ساندز" ترشيحه في الانتخابات التكميلية. ونجح بالفعل، ومعه زاد الاهتمام العالمي بـ"الجيش الجمهوري الإيرلندي" ومتابعة حالة "ساندز"، وأصرت "مارغريت ثاتشر" على موقفها واعتبرته مجرمًا، ومنعت معاملته معاملة المعتقلين السياسيين، ولم تستجب لمطالبه ولا لمطالب رفاقه، وأعلنت أن ما يقوم به انتحار، وهي لا تتدخل في خياره هذا. ونتج عن تعنتها وعنادها أن لقي "ساندز" حتفه في الخامس من أيار/مايو 1981؛ في اليوم السادس والستين من إضرابه المفتوح عن الطعام، وحتى الثالث من تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام لحق به تسعة من رفاقه الآخرين، من بينهم من واصل الإضراب لمدة 73 يومًا، وتوقِف الإضراب بتأثير ضغوط أسر المضربين وذويهم وتدخل القادة السياسيين لـ"الشين فين" (الظهير الحزبي والسياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي)، وقامت السلطات البريطانية بعد موت "ساندز" بثلاثة أيام بتلبية مطالب السجناء؛ بصمت ودون إعلان.
تحققت كثير من مطالب شمال إيرلندا، وسلك حزب "الشين فين" والجمهوريون الطريق البرلماني لتحقيق ما يطمحون إليه، وبعد أن كانوا "إرهابيين" صاروا "شركاء سياسيين" في الإدارة والحكم، وأصبح لهم ممثلون في المجلس التشريعي.
وسبق لـ"مهاتما غاندي" أن سلك أسلوبا شبيها؛ عاش على الكفاف، وتخلى عن زيه الأوروبي، وكان يرتديه كمحام زمن إقامته بجنوب افريقيا؛ استبدل الزي الأوربي بإزار هندي يدوي بسيط يغزله لنفسه، وأقام في كوخ متواضع، ومعه عنزة يقتات من حليبها، وبذلك المسلك قاد أكبر مقاطعة في التاريخ للمنتجات والبضائع البريطانية، وكان ذلك طريقه لتحرير شبه القارة الهندية، وأصبح مضرب المثل بين سير رواد وأبطال المقاومة السلمية، بينما جاره الزعيم التاريخي للصين؛ ماو تسي تونغ اعتمد المقاومة المسلحة للفلاحين‫.‬ ونيلسون مانديلا؛ استمر في سجون نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا لسبعة وعشرين عاما، وبعد إطلاق سراحه انتُخب أول رئيس افريقي لجنوب أفريقيا.
وليس معنى ضرب هذه الأمثلة من خارج "القارة العربية" وبعيدا عن إقليم الشرق الأوسط؛ ليس معناه إهمال موجات المقاومة والمقاطعة العربية المستمرة حتى سبعينيات القرن الماضي، وكانت فترة شبه معقمة من الاقتتال الطائفي، ومن التكفير الديني والمذهبي، وخلو من الانقسام القبلي والعشائري والانعزالي، وهو ما أدى إلى إجلاء الانكليز عن وادي النيل، وخروج الفرنسيين من الشام وشمال افريقيا، فضلا عن تحرير عدن و"الجنوب المحتل" ومحميات الخليج، وكان القرن العشرين قد شهد أطول إضراب في التاريخ عام 1936 في فلسطين‫؛‬ كانت البوصلة الفلسطينية هادية في ذلك الزمن الغابر‫.‬ وهل يعيدها هذا الإضراب إلى سابق عهدها وإلى ما كانت عليه؛ بوصلة هادية وقضية جامعة؛ قبل أن تصبح غريبة بين عرب تغيرت أحوالهم واندفعوا بسرعة البرق نحو حتفهم؛ يقتلون بعضهم بعضا، ويدمرون بلادهم بأيديهم، وملايينهم تهرب إلى التيه؟‫!‬
وها هم الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الصهيوني، وقد بدأوا إضرابا مفتوحا عن الطعام، منذ السابع عشر من هذا الشهر، وهو من الوسائل التي ما زالت باقية لمواجهة الاحتلال وصلفه وعنصريته، وهو الذي حرمهم من أبسط الحقوق القانونية والإنسانية والمعيشية والصحية، وفرض عليهم الحبس الانفرادي، وطبق عليهم إجراءات الاعتقال الإداري، ومنع عنهم هذه الحقوق العادلة والمشروعة، باحتلال دموي وإذلال عنصري لا يقيم وزنا لشيء‫.‬ وهذا الإضراب يشارك فيه أكثر من 1500 أسير؛ في أكثر من سجن ومعتقل‫.‬
وضمن المجهودات الداعمة دعت "اللجنة الوطنية لمساندة إضراب الأَسْرى" إلى مقاطعة شاملة للبضائع والسلع الصهيونية طيلة فترة الإضراب. وتستمر ما استمر تعنت الاحتلال في خطابه وسلوكه وإجراءاته القمعية ضد الأسرى، ويخوض الفلسطينيون ملحمة، ويظهرون إصراراً وثباتاً قل نظيره، وجاءت دعوة المقاطعة الشاملة لدعم صمود المضربين وشد أزرهم في معركتهم البطولية، وناشدت اللجنة جالبي وموردي البضائع والسلع الصهيونية التوقف فوراً عن جلبها إلى الأسواق، أو توريدها لمراكز التوزيع ومنافذ البيع الفلسطينية، وطالبت المواطنين بالتوقف كلياً عن شراء البضائع الصهيونية، التي ما زالت معروضة في الأسواق، ومنع أى سيارة أو شاحنة تحمل بضائع صهيونية من دخول الأراضي الفلسطينية‫.‬
واعتبرت "اللجنة الوطنية لمساندة إضراب الأسرى" ان ما يقوم به المواطن، وامتناعه عن شراء السلع والبضائع الصهيونية هو دعم ومساندة للإضراب. وحسم للمعركة لصالح الأسرى الصامدين في سجون الاحتلال‫.‬ هذا بالإضافة إلى إضراب شامل؛ أقرب إلى "العصيان المدني"؛ تم الإعلان عنه أمس الأول ‫(‬الخميس 27/04‫)‬، ليشمل كل مجالات الحياة التجارية والتعليمية والخدمية والحكومية والأهلية والقطاع الخاص والمدارس والجامعات باستثناء طلاب الثانوية العامة.
وأكدت "هيئة شؤون الأسرى والمُحَرَّرين" أن عددا من المضربين عن الطعام نقلوا إلى مستشفيات وعيادات السجون الصهيونية، وتدهورت أحوالهم الصحية، وبينهم مرضى أصروا على المشاركة في الإضراب.. وأوردت تقارير عن أحوال المضربين بأن أوزانهم نقصت مع بداية الأسبوع الثاني للإضراب، وبدأت معاناتهم من أثر الامتناع عن تناول الطعام، وتتضاعف معاناتهم مع استمرار سلطات الاحتلال في إجراءاتها العقابية والتعسفية بحقهم ومنعهم من التعامل مع أطباء وعيادات السجون، وحرمانهم من إجراء الفحوصات الطبية والرعاية الصحية اللازمة‫.‬
ومع استمرار أَسْر آلاف الفلسطينيين وتصاعد حملات التحريض العنصرية ضدهم ودعوات جنرالات الاحتلال المحمومة لقتلهم، وهذا يتطلب استعادة النخوة الموءودة للسياسات العربية، ورفع الوصاية عن النشاط الأهلي والشعبي الخيري التطوعي؛ لو رفعت الوصاية ما تُرك المضربون وحدهم؛ يراهنون على "المجتمع الدولي"، وإذا كان الظهير العربي والإسلامي والافريقي غائبا، فهذا مطلوب لإحداث فراغ يملأه العنف المسلح و"عسكرة" النشاط الأهلي الخيري التطوعي، والتعويل على "المجتمع الدولي" غير مجد فهو لا يعترف بغير الأقوياء ويقف سندا للأغنياء، وحتى تعود النخوة الموءودة إلى السياسات العربية فعلى المواطن الفرد تقديم ما يستطيع، وسيكتشف سكان "القارة العربية" أن قضية الأسرى قضية عربية وحقوقية وإنسانية قبل أن تكون مسألة فلسطينية، فالدولة الصهيونية التي وجدت تحالفا دوليا يمكنها من اغتصاب فلسطين كان وما زال يستهدف الوجود العربي‫.‬ لهذا فإن الانتصار لأسرى فلسطين قبل أن يكون انتصارا للعرب، فهو انتصار لقيم الحق والعدل والمساواة والسلام، رغم ظروف مأساوية حلت بالعرب، وجعلت من أغلب ساستهم رديفا للاستيطان الصهيوني، وأكثر اعتمادا على الإدارة الأمريكية وطوع بنانها‫!.‬

محمد عبد الحكم دياب

٭ كاتب من مصر