قبل مائة وواحد وعشرون عاماً إنتفض عمال شيكاغو في ثورة عارمة ضد الظلم والإضطهاد والإستغلال و"التغول" و"التوحش" الرأسمالي،ومنذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة الراهنة لم ينتهي هذا الظلم و"التوحش" و"التغول،بل نرى بأن كل هذه المظاهر الإستغلالية تزداد ضراوة وقساوة في ظل عولمة الرأسمال الذي يكشر عن انيابه بشراسة وشراهة،حيث تتنامي مفاهيم الإستغلال والنهب والجشع والإنقضاض على حقوق العمال والمكتسبات والمنجزات التي عمدت بنضالاتهم وتضحياتهم عبر سنوات طويلة من الكفاح والنضال،وكذلك نرى بأن الفوارق الطبقية تزداد حدة والثروات الإجتماعية تتكدس في أيدي حفنة من اصحاب الإحتكارات الكبرى على حساب زيادة معدلات الفقر والبطالة وعدم العدالة في توزيع الثروات،ونحن شهدنا في الآونة الأخيرة توظيف منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة في انتاج وتصنيع الأسلحة واستخدامها في قتل وتدمير الشعوب،مما زاد من مأساة الكثير من الشعوب ورفع معدلات البطالة والفقر والعوز الى معدلات غير مسبوقة،وفاقم ذلك من القمع والإضطهاد والفساد بكل اشكاله حتى وصلت الأمور حد "التسليع" البشر وانتشار تجارة البغاء وبيع النساء في أسواق النخاسة،كما جرى مع النساء في اكثر من قطر عربي تشهد حروب مذهبية وطائفية وعدوان عليها،وشهدنا ونشهد ذلك في العراق وسوريا وليبيا والعديد من دول الفقيرة،وكذلك نحن نشهد عودة للإستعمار بشكله المباشر وإحتلال البلدان واستعمارها.
إن النظام الرأسمالي بصيغته المعولمة والمتوحشة لا يمكن أن يشكل في يوم من الإيام نظاماً خادماً للبشرية أو منصفاً لشعوبها وطبقتها العاملة،فهو نظام يقوم على الإضطهاد والإستغلال وتكثيف هذا الإستغلال بأبشع صوره ومضامينه وتجلياته.
الشعارات التي رفعها قادة الثورات الإجتماعية الإشتراكية من سبارتاكوس وأبا ذر الغفاري وانجلز وماركس ولينين وغيرهم من القادة الثوريين وقادة الطبقة العاملة ومنظريها،بالثورة على الظلم والإضطهاد والجوع ودعوة العمال للتوحد "يا عمال العالم إتحدوا"،ما زالت بعيدة المنال في أرض الواقع،بل ما نشهده اليوم في الواقع العربي،ليس فقد ضعف وتراجع أوضاع الطبقة العاملة العربية،بل زيادة اضطهادها وافقارها وبؤسها وشقاؤها وتفتتها وتشظيها على أسس مذهبية وطائفية،وحواملها التنظيمية والنقابية والحزبية تزداد ضعفاً وتلاشياً،والأنكى من ذلك انه بعد ما يسمى ب"ثورات الربيع العربي" لم تعد هناك وحده عمالية وعنوان جامع وموحد لعمال الدولة القطرية الواحدة،حيث جرى ويجري تغليب المذهبية والطائفية على المصالح المشتركة والنضال المشترك،وكذلك بفعل الحروب الداخلية المذهبية والطائفية والصراعات،تحول جزء ليس بالقليل من أبناء الطبقة العاملة العربية الى جيش عاطل عن العمل يعيش على الإعانات والمساعدات،وبما يترتب على ذلك من فقر مدقع وجوع وجهل وتجهيل وامراض اجتماعية وأسرية،وإرتفاع في نسبة البطالة،وزيادة في الإستغلال والإضطهاد من قبل أصحاب الرأسمال،لجهة تخفيض الأجرة وزيادة ساعات العمل والحرمان من الحقوق العمالية المشروعة كالحق في الإجازات السنوية والمرضية والحقوق الاجتماعية كالتقاعد والتعويض والضمان الإجتماعي والتأمينات الصحية وغيرها.
اما على صعيد الطبقة العاملة الفلسطينية،فنحن نرى بان أوضاعها تزداد تدهوراً وبؤساً،حيث الإحتلال بإجراءاته وممارساته العنصرية والقمعية وفرضه للكثير من القيود على عمالنا من حيث المنع من العمل او حرية التنقل والإعتقال والحصار والإغلاق والإذلال على حواجز العبور،حيث العمال في سبيل تحصيل لقمة عيشهم، يضطرون للإنتظار في طوابير الذل من ساعات الفجر الأولى ومزاجية جنود الحواجز،هي من تتحكم في السماح لهم بالعبور او عدمه،ومن يثور منهم على الوضع قد تطلق عليها النار بحجة محاول الطعن ويستشهد،او يعتقل،او يمزق تصريحه وغيرها من العقوبات الجماعية والتي تصب في زيادة الفقر والبطالة بين صفوف طبقتنا العاملة،وتراجع معدلات أجورها والتي أصبحت لا تفي حتى بتامين متطلبات حياتهم الأساسية،وكذلك في المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية وفي قطاع غزة المحاصر،نرى أنه لا وجود لخطط تنموية أو اقتصادية حقيقية تساهم في التخفيف من حدة البطالة والفقر،بل نرى بأن الإقتصاد الإغاثي المعتمد على سياسة "الشحدة" و"التسول" هي السائدة، ويتجلى ذلك بشكل اوضح في قطاع غزة بعد عدوان تموز/2014،وما خلفه من تداعيات ومشاكل اجتماعية واقتصادية،حيث دمرت الكثير من وسائل الإنتاج وفقد العمال ممتلكاتهم ووسائل انتاجهم،ولم يعودوا قادرين على تأمين وسائل ومتطلبات حياتهم اليومية،ولتبلغ معدلات البطالة أرقاماً تقترب من 80%،ناهيك عن فقدان أي مصدر من مصادر الدخل بفعل الحصار واغلاق المعابر وعدم دوران عجلة الإعمار،وضعف المؤسسيات الإقتصادية وعائليتها وعشائريتها،طبقة عاملة تتحول الى العيش على الإعانات والمساعدات الخارجية،ولتصبح أقرب الى البروليتاريا الرثة.
وفي إطار المناكفات والصراع الداخلي بين حركتي حماس وفتح،اتخذت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مؤخراً،قرارات عقابية بحق قطاع غزة،تتمثل في فرض خصومات على رواتب موظفي السلطة العاملين في القطاع تصل الى 30% ومرشحة للزيادة بشكل اكبر،بالإضافة الى توقف السلطة عن دفع ثمن فاتورة الكهرباء للقطاع،مما سيفاقم من الأزمة المعيشية والإنسانية بشكل كبير،وهذا ينذر بتفجر الأوضاع على نحو أوسع،ويعمق من حالة الإنقسام المدمرة،وما يشكله ذلك من مخاطر جدية وحقيقية على قضيتنا ومشروعنا الوطني من تصفية وتفكك وضياع.
إن ارتفاع معدلات البطالة والهجرة وانعدام فرص العمل وزيادة الضرائب وتنامي سياسة الهدر للمال العام،وتفشي ثقافة الفساد المالي والاداري،ورائحة الصفقات المشبوهة والمحاصصة بين اطراف قوى السلطة في الضفة وقطاع غزة،يزيد من معاناة طبقتنا العاملة الفلسطينية التي تشكل الطبقة الأوسع والأكبر في مجتمعنا الفلسطيني،والتي كانت وما زالت زاد الثورة ووقودها والأكثر تضحوية والأقل مشاركة في القيادة والقرار.
في ظل كل هذه الظروف نجد أن التعبيرات النقابية للعمال من اتحادات عمالية ونقابات،تمتاز بالضعف وتعاني من سطوة وسيطرة الأجهزة الأمنية عليها،والقوى والكتل النقابية يتراجع ويتلاشى دورها،وهي في إطار إثبات الذات،تنشط قبل أسبوع من عيد العمال،وتقوم بعمل سلسلة من الأنشطة والفعاليات الإستعراضية من مهرجانات ومسيرات وإحتفالات ولقاءات إعلامية وإصدار بيانات لكي تؤكد على دورها وحضورها، وهذه الأنشطة والاحتفالات والمهرجانات والبيانات التي تعود عليها عمالنا من مختلف الكتل النقابية بمختلف ألوان طيفها السياسي،يدركون أنها مجرد شعارات "وهوبرات" إعلامية"فيها الكثير من الوعود ويغيب عنها التنفيذ والفعل فلا انتخابات ديمقراطية وحقيقية تجري في هيئات الإتحاد ومؤسساته ونقاباته ولا وحدة تحققت على أسس ديمقراطية بين عناوينها ومرجعياتها المختلفة، ولا سنت وطبقت التشريعات والقوانين التي تحمي وتصون حقوق العامل وكرامته، فالحد الأدنى من الأجور للعمال (1450)شيكل،لا يفي بمتطلبات الحياة الأساسية للعامل، وكذلك تغيب وتطبق على نحو ضيق جداً تشريعات الصحة والسلامة للعمال، ولا مؤسسات ومصانع توفر فرص عمل لهم، ولا آليات وخطط تنموية حقيقية تحد من البطالة والفقر التي لا تقل عن 30 % في الضفة الغربية،ولترتفع في القطاع الى %70.
ومن هنا نجد ضرورة التأكيد على مهمتين أساسيتين:- النضال الدؤوب والمستمر لربط دعم الاستثمار والقطاع الخاص بدعم العمل والعمال وحماية حقوقهم من خلال وضع سياسات وآليات حقيقية لمعالجة البطالة والفقر وانتهاج سياسة متوازنة في توزيع مصادر الدخل وتأسيس صندوق للحماية والتكافل الاجتماعي يراعي حقوق العمال والعاملين وينصفهم،ويجعلهم شريك أساسي في إدارة هذا الصندوق والإشراف عليه،وليس السيطرة عليه من قبل الحكومة والقطاع الخاص،ووضع حد أدنى للأجور منصف، وإنصاف للعاملين عبر تطبيق عادل ومتساو للأنظمة والقوانين. ضرورة العمل على إعادة صياغة وبناء الحركة النقابية وفق أسس وثوابت وطنية وديمقراطية تبدأ بتأكيد الهوية الوطنية للحركة النقابية وتمسكها بأهداف وثوابت شعبنا الوطنية ودورها المتقدم في مناهضة كل أشكال التطبيع والمساهمة الفعالة في حملات مقاطعة دولة الاحتلال العنصرية وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها،مروراً بالتأكيد على بناء الاتحادات والنقابات العمالية على أسس الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة وضمان مشاركة القواعد العمالية في إدارة وقيادة العمل النقابي بعيداً عن عقلية الاستئثار والمحاصصة والتفرد وغيرها،كذلك نؤكد على رفض التدخلات السياسية في أوضاع الطبقة العاملة واتحاداتها ومؤسساتها النقابية.
بقلم/ راسم عبيدات