قبل أكثر من 15 سنة عندما كنت أعمل متحدثاً رسمياً لبلدية غزة حدث أن الخط الرئيسي الذي كان ينقل المياه العادمة (مياه الصرف الصحي) من مناطق وأحياء المدينة المختلفة إلى محطة المعالجة المركزية الواقعة جنوبي المدينة تعرض لكسر كبير جراء حفريات قام بها أحد مقاولي البناء دون الرجوع للبلدية، وكان نتيجة هذا الكسر أن تدفقت مياه الصرف الصحي باندفاع كبير جداً وبغزارة رهيبة حيث أن هذا الخط هو خط ضغط وقطر الأنبوب الناقل كبير جداً حتى يتمكن من تمرير المياه بسرعة لمحطة المعالجة، الصعوبة في الموضوع أن هذا النوع من الأنابيب لم يكن متوفراً لدى البلدية أو لدى أي بلدية أو مؤسسة أخرى في قطاع غزة، فقامت البلدية بإجراء اتصالات مكثفة مع الجهات المكلفة بالتواصل والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي ومع عدة جهات ومنظمات دولية عاملة في القطاع في محاولة منها لإدخال الأنابيب المطلوبة لإصلاح الخط بأقصى سرعة لأن المياه العادمة كانت تتدفق بكميات هائلة في شتى الاتجاهات واستمرار الوضع على ما هم عليه ينذر بكارثة بيئية وصحية خطيرة جداً، رفضت السلطات الإسرائيلية رفضاً قاطعاً طلب البلدية بإدخال القطع الأنابيب اللازمة حيث أنها كانت تفرض في تلك الآونة طوقاً شاملاً على القطاع بسبب وقوع عملية فدائية في الداخل المحتل. قررت البلدية تصدير الموضوع إعلامياً فقامت بصياغة خبر صحفي أوضحت فيه أن هذه الحادثة ستؤدي إلى كارثة بيئية ليس لغزة فحسب بل لكل المدن والمناطق المجاورة ومن ضمنها المدن والتجمعات السكانية الإسرائيلية لأن مياه الصرف الصحي التي تتدفق بكميات مهولة إلى البحر ستنتقل عبره إلى كل المناطق المجاورة، وقمنا بإرسال الخبر إلى عدد كبير من وسائل الإعلام الدولية وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية. المفاجأة الكبرى أن الخبر لقي أصداءً واسعة واهتماماً غير طبيعي من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي بدأت تتصل بالبلدية وتسأل حول كل صغيرة وكبيرة في الموضوع! لكن المفاجأة الأكبر أن جهات التنسيق والارتباط لدى السلطة اتصلت بالبلدية لتخبرها عن جهوزية الجانب الإسرائيلي لإدخال كل الأنابيب وقطع الغيار اللازمة فوراً! بل ذهب إلى أبعد من ذلك وطلب قائمة بالمتطلبات وقام بتوفيرها وأرسلها بقاطرات عبر معبر بيت حانون وتم فعلاً إصلاح الخط المعطوب!! الشاهد هنا أن إسرائيل هرعت لإصلاح الخط وتوفير اللوازم المطلوبة عندما شعرت أن هناك خطراً بيئياً وصحياً قد تتعرض له جراء هذه الحادثة.
سقت هذه الواقعة للتأكيد على أن من يعتقد أو تساوره الظنون بأن إسرائيل ستسمح بتوقف شبكة الخدمات الرئيسية في القطاع أو خنق القطاع بشكل كامل فهو مخطئ بل ومخطئ جداً لعدة أسباب جوهرية يأتي في مقدمتها أنها لن تسمح لما تصفه ببرميل المتفجرات(قطاع غزة) أن ينفجر في وجهها ويهدد أمنها، خصوصاً وهي تعلم تماماً أن غزة على شفير الانفجار نتيجة سنوات طويلة من الحصار! إسرائيل ليست معنية في المقام الأول والأخير إلا بأمنها! وبناءً عليه لن يكون لمصالح السلطة الفلسطينية عند تعاملها مع غزة أية قيمة أو وزن أو اعتبار، وكم تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً أن هيئة أركان جيش الاحتلال رفض رسالة السلطة
الفلسطينية بالتوقف عن دفع فاتورة كهرباء غزة التي تزودها بها إسرائيل وأكدت(هيئة الأركان) أنها لن تنفذ الطلب وستواصل تزويد غزة بالكهرباء وخصم ثمنها من أموال الضرائب المترتبة للسلطة. أسئلة كثيرة وعديدة تطرح نفسها في هذا المضمار .. هل ستوافق إسرائيل على توقف كامل لشبكة الخدمات الأساسية في القطاع وتعريض سواحلها ومدنها وتجمعاتها السكانية لمخاطر صحية وبيئية كبيرة؟!! وهل ستوافق إسرائيل على خنق حركة حماس خنقاً كاملاً الأمر من أجل نصرة الرئيس عباس وسلطته في رام الله وهو اوضع الكفيل بتفجير الأوضاع وقد يدفع بحركة حماس لشن حرب كبيرة مستميتة ضد إسرائيل حرب حياة أو موت لإنقاذ حكمها في غزة قد تصيب إسرائيل في مقتل خصوصاً في ظل الإمكانيات العسكرية الكبيرة التي باتت تملكها حركة حماس ؟!! وهل إسرائيل مستعدة لدفع ثمن خطوات الرئيس عباس الذي وصفها بغير المسبوقة ضد غزة ؟! دون أدنى ريب إسرائيل معنية بالتخنييق على حماس وعلى القطاع ولكن ليس لدرجة قتل القطاع وإيصاله إلى الخيار الأوحد(الحياة أو الموت)! بكل تأكيد إسرائيل لن تقبل بأن تدفع ثمناً من أجل أي كان فهي توعدت دائماً أن تأخذ ولا تعطي يضحى من أجلها ولا تضحي من أجل أحد!! أنا أعتقد جازماً أن إسرائيل أكبر المستفيدين على الإطلاق من تواصل الانقسام وتشرذم الصف الفلسطيني .. وهذا لن يستمر إلا إذا بقي حكم الرئيس في رام الله وحكم حماس في غزة ... إذن فاسقاط حكم حماس ليس مصلحة إسرائيلية وإسقاط السلطة ليس مصلحة إسرائيلية إنما المصلحة الإسرائيلية هي بقاء الوضع كما هو عليه لأطول فترة زمنية ممكنة ريثما تتبلور لدى جهات التخطيط السياسي والاستراتيجي الإسرائيلية والأمريكية حلولاً جذرية بالمقاس الإسرائيلي التام.. وعليه فإن خطوات السلطة الموجهة ضد حكم حماس في غزة لن يكتب لها النجاح لأن إسرائيل كما أوضحت لن تسمح بها .
بقلم/ د. ناصر الصوير