الغرب لديه طول نفس نحن لا نتصوره، بل إن صيد السمك بالصنارة رياضة كان يمارسها جورج بوش الأب الذي كان مسؤول المخابرات يوماً، وختمها برئاسة الولايات المتحدة (ولاية واحدة فقط) يتعلمون منه --الصيد- الصبر والأناة، ويساعدهم على ذلك أن مصالحهم كدول وأفراد لا تتضرر في خططهم طويلة المدى، فأكفهم لا تقبض على جمر، فهم يخططون براحة كبيرة. "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة". ويغادرنا شهر نيسان/أبريل الحامل لذكرى سقوط بغداد التي مرّت كأنها لم تكن، فقد تتابعت بعدها النكبات والآلام والخيبات، وزاد عدد شلالات الدماء.
احتلال العراق غيّر معالم المنطقة، بل العالم كله تغير بعده. نتذكر خططهم طويلة الأمد، فقد سمحوا لصدام باحتلال الكويت، وانتهزوها فرصة كي يدمروا قوته العسكرية ويخرجوه منها، وفرضوا الحصار والتجويع على الشعب العراقي 12 سنة، وظل النظام باطشاً قوياً في الداخل (عدا كردستان التي انتزعت منه بعد 1991) وظل الإعلام الأمريكي يوحي بأن الأميركان سيتفاهمون مع صدام وسيدخل البيت الأبيض آمناً مطمئناً، عبر رؤيتهم التي كان مسؤولون منهم يتحدثون بها (نريد للعراق رئيساً عربياً سنياً وقوياً) ثم ماذا؟
جاءت اللحظة الموعودة وتم سحق النظام، وطورد صدام وسجن وحوكم ثم شنق صبيحة يوم النحر!
لحظة الشنق أرى أن قراراً أتخذ بشأنها منذ أن هدد صدام بحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج بعد نهاية حربه مع إيران، ولكن تنفيذ القرار كان يسير وفق مراحل دموية مزلزلة، فلم يكن الوقت مناسباً لا في 1990 ولا حتى في 2003 لمثل هذا القتل وبهذه الطريقة.
الغرب لديه القدرة على ممارسة التخدير للضحية، عبر السراب الذي يتقن صناعته؛ فقد صدّق صدام أنه سينجو مراهناً على أن البديل عنه هو إيران وميليشياتها، وهو ما يرفضه الغربيون، وهذا صحيح في زمن معين ولكنه ليس دائماً، فإيران أيضاً كان عليها أن تنتظر من سنة 1991 حتى سنة 2004 تقريباً كي تحكم العراق وتسيطر عليه، وتضع صور الملالي بدل صور صدام في ميادين بغداد، وهو ما كان يبدو خيالاً وحلماً قبل 20 أو 15 سنة.
كل هذا طبعاً بمزاج العم سام أميركا ووفق مخططاته، وقد كان صدام عدواً وأداة لوضع إيران عند حدها، فهم أخرجوه من الكويت بمجازر بشعة لجنوده وشعبه، ولكنهم سمحوا له بسحق تمرد أتباع إيران في الجنوب بكل وحشية، لأن الإيرانيين لم يدركوا قواعد اللعبة، فقد سمح الغرب لهم بسرقة طائرات العراق، وسمح لهم بالشروع بالتزود بالأسلحة، من الروس وغيرهم، ولكن في ذلك الوقت أي غداة (عاصفة الصحراء) لم يكن ليسمح بأن تسيطر الميليشيات التابعة لهم على محافظات الجنوب، وتم ضمناً السماح "لحمزة الزبيدي وحسين كامل حسن وعلي حسن المجيد" بالنزول إلى محافظات الجنوب والتعامل معها بالحديد والنار والقهر والإذلال، ووضع حدّ -وفق ترتيبات العم سام- لمطامع إيران، فليس كل شيء مسموح للملالي بعد قصقصة أجنحة صدام.
انتظرت إيران بل أجبرها الأميركان على الانتظار إلى ما بعد العشر الأوائل من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ دامياً كئيباً صاخباً وما زال، وتقاسمت علناً حكم العراق مع الأميركان، وربما ظنّ الملالي أن الأميركان رضخوا لها ولرجالها في العراق الممزق، تماماً مثلما ظن صدام أن نجله قصي سيرث العراق من بعده بناء على خوف الأميركان من إيران، يظن حكام طهران أن الأميركان يخافون من داعش وأخواتها!
مدت إيران أذرعها بشراهة خرقاء إلى لبنان واليمن وبالطبع إلى سوريا، غير مراعية لحساسيات المنطقة المذهبية والقومية، مستغلة ضعف العرب وهوانهم وفساد واهتراء منظومة الحكم لديهم، وهو تمدد كفيل تاريخياً بكسر دول وإمبراطوريات عظمى وكبرى، وأخذتها سكرة ونشوة سهولة الاختراق، وأشغلتها عن الغرق والتورط في رمال متحركة غادرة، وطرق وعرة ملغومة.
بات واضحاً أن الإيرانيين سيدفعون وبمباركة وإشراف أميركي ثمن حماقتهم وطمعهم في العرب الممزقين، وثمن محاولتهم توليد ما هو عقيم أي مشروعهم القومي الطائفي، وما أسهل أن تقطع أوصالهم وأذرعهم الغارقة يميناً وشمالاً.
الغرب هو الرابح، وعجلة اقتصاده التي تمولها صفقات السلاح الضخمة، لا تتوقف، فقد كان رابحاً في حرب العراق مع إيران، ورابحاً في السماح لإيران في ابتلاع ما تيسر لها من بلاد العرب، وسيربح أكثر من السماح للعرب بالقصاص من إيران.
يظل الناس هنا في نزيف دائم، وأنهار بل بحار من الدماء، وفقر وبطالة وتخلف اجتماعي وفساد سياسي، وإسرائيل آمنة مطمئنة، وتضحك في سرّها وهي تقول: لو أن المسلمين من عرب وفرس وترك وكرد أنفقوا معشار ما أنفقوه في قتال بعضهم لجعلي أثراً بعد عين لنجحوا بلا ريب. مكر تزول منه الجبال وكرب عظيم، ولا ملجأ لنا إلا الله.
سري سمّور
فلسطين