مع نشر هذا المقال يكون إضراب "الحرية والكرامة" قد دخل يومه السادس عشر، بالرغم من اتخاذ سلطات الاحتلال إجراءات قمعية فردية وجماعية غير مسبوقة ضد المضربين بهدف كسر إرادتهم. وإسنادًا للإضراب اندلعت هبة شعبية يمكن أن تؤدي إلى اندلاع انتفاضة شعبية قد تغير قواعد اللعبة التي حكمت الصراع منذ فترة طويلة، وذلك إذا لم تتم الاستجابة لمطالب المضربين وإذا التقطت القيادة والقوى والشعب هذه الفرصة الثمينة.
وكلما تصاعد تضامن الشعب الفلسطيني بكل الأشكال الممكنة مع الإضراب، وتكاثر احتمال اندلاع الانتفاضة؛ زاد احتمال تحقيق مطالب أبطال الحرية، لذا لا تستهينوا بأي تحرك ولا أي مبادرة لدعم المضربين، سواء بالاشتباك مع جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين وجعل حياتهم صعبة، وزيادة كلفة الاحتلال، أو إطلاق البالونات، أو تحدي الماء والملح، أو إضاءة الشموع، أو تنظيم إضراب تضامني مع الأسرى، فكل ذلك يدل على حيوية الشعب واستعداده لاستعادة قضيته التي ضاعت في دهاليز البحث عن السلام المفقود وضحية الانقسام الأسود.
كل تحرك مفيد ويساعد على تغيير الاتجاه من التأقلم مع واقع الاحتلال والحقائق التي يوجدها إلى إعادة إحياء القضية الفلسطينية عبر قيام الشعب بأخذ زمام المبادرة، لأنه صاحب القضية والقادر على إنقاذها.
بالوحدة يمكن إحباط "صفقة القرن"
غدًا، سيلتقي الرئيس محمود عباس مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيارة لا تحمل في طياتها أي خير للفلسطينيين، لأنه سيذهب ضعيفًا من دون وحدة وطنية فلسطينية، وتحت ضغط الأوضاع العربية التي لا تسر صديقًا، فكما يقال "المكتوب يقرأ من عنوانه"، فالمطروح على طاولة المباحثات في البيت الأبيض على المدى المباشر إحياء ما تسمى "عملية السلام"، والسعي للتوصل إلى "صفقة القرن".
النجاح في ذلك يتطلب استئناف المفاوضات الثنائية وفق الشروط الإسرائيلية. كما مطلوب من الفلسطينيين أن يوقفوا التحريض الإعلامي وفِي المناهج التعليمية، ووقف دعم عائلات الشهداء والأسرى والجرحى، وتعزيز التنسيق الأمني، ومحاربة "الإرهاب"، مقابل أن تواصل الولايات المتحدة من مساعداتها للسلطة، وتأجيل تنفيذ مخططاتها لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، مع ملاحظة أن ترامب صرح مؤخرًا عن هذا الأمر بأن يُسأل عنه بعد شهر، في إشارة إلى أن الأمر لا يزال مطروحًا.
في المقابل، فإن كل المطلوب من إسرائيل الإقلاع عدم إقامة مستوطنات جديدة، فيكفيها توسيع المستوطنات القائمة باستمرار، و"تنظيم" الاستيطان تحت مسمى "لجمه" خارج القدس والكتل الاستيطانية، واتخاذ إجراءات لتسهيل حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال.
أما على المديين المتوسط والبعيد، سيطرح على الفلسطينيين في أفضل الحالات الموافقة على عقد مؤتمر إقليمي يمكن إعطاؤه بعدًا دوليًا شكليًا يسمح بأن تكون المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المقبلة ثنائية من دون تدخل دولي، ولكنها تجري في إطار إقليمي لتشديد الضغط على الفلسطينيين ليقبلوا ما رفضوه حتى الآن، وبما يسمح لإسرائيل بتطبيع علاقاتها مع الدول العربية، وتشكيل الناتو (الأميركي العربي الإسرائيلي) في مواجهة "الإرهاب" و"الخطر الإيراني"، الأمر الذي سيضع الفلسطينيين في النهاية أمام خطر متزايد لقبول "تسوية" تتضمن الاعتراف بإسرائيل بوصفها دولة يهودية مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية بلا سيادة ومنزوعة السلاح تقام على 50% من مساحة الضفة الغربية (أقل أو أكثر)، وإذا رفضت القيادة الفلسطينية هذا العرض ستتعرض للعزلة والمقاطعة، وسيجري محاولة إيجاد بدائل عنها، ويجري تجهيزها باستمرار، سواء من خلال تعزيز الإدارة المدنية ذراع الاحتلال، أو من خلال تعميق حالة الانقسام والتشظي والشرذمة بين الفلسطينيين، التي لا تقتصر على ما يحدث بين "فتح" و"حماس" والضفة والقطاع، وإنما انتشرت وتهدد بالانتشار أكثر داخل "فتح" والمنظمة، وداخل "حماس"، وداخل الضفة والقطاع وجميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، بما يسمح بتحقيق خطة "الإمارات السبع" التي يروج لها الباحث الصهيوني موشيه كيدار.
تعذيب غزة لا يستعيدها وإنما يبعدها
في هذا السياق، نضع الإجراءات التي اتخذتها السلطة لتطبيق خطتها الرامية لإعادة سيطرتها على قطاع غزة بالكامل أو لتتحمل "حماس" المسؤولية عنه بالكامل، وأنه إذا لم يتم التراجع عن هذه الخطة بسرعة ستؤدي إلى انفصال القطاع عن الضفة. ونأمل أن تكون مجرد تكتيك يستهدف الضغط عليها لإقناعها بإبداء المرونة لاستعادة الوحدة عن طريق استغلال أزمة "حماس" التي تفاقمت مؤخرًا بعد غضب قطري عليها، يظهر من خلال وقف العديد من المشاريع وعدم زيارة محمد العمادي منذ فترة، والسعي للظهور بموقف قوي أمام ترامب، لأن المضي بها يسرع تحول الانقسام إلى انفصال ولا يساعد على استعادة الوحدة.
طريق الوحدة لا يمكن أن يمر بتعذيب شعبنا في القطاع، فالذي سيدفع الثمن ويعاني أكثر من هذه الإجراءات هو المواطن الغزي، وهو لن يتمرد بالضرورة على "حماس" لإسقاط سلطتها، بل قد يغضب أكثر على من اتخذ هذه الإجراءات، وهذا لا يبرئ "حماس" من مسؤولياتها عما يجري، فعليها أن تنهي سيطرتها على غزة، فهي تحكمها وتجبي الضرائب والرسوم وتطلب من غيرها أن يتحمل المسؤولية معها!
إن شعبنا في القطاع لن يتحرك ضد سلطة "حماس" لأسباب عديدة، منها أنه لا يرى بديلًا أفضل منها جاهزًا ليحل محلها، وذلك في ظل الخلافات الفتحاوية الواضحة جدًا في غزة، وعمق سيطرة "حماس" على كل الوزارات والأجهزة، وعلى الكثير من مفاتيح القوة في مختلف المجالات الاقتصادية وغيرها، ما يعني أن الاحتمال الأرجح أن تقود هذه الإجراءات إذا استمرت إلى الفوضى والفلتان الأمني والانفجار، ما يقوي من الجماعات المتطرفة والتكفيرية ودفع "حماس" لأحضانها، أو لفتح جبهة الحرب مع إسرائيل، أو لعقد اتفاق معها.
المتابع لردة الفعل الإسرائيلية على إجراءات السلطة يجد من جهة ثناءً وتشجيعًا للسلطة، ومن جهة أخرى حذّر وزير إسرائيلي من الاستجابة لطلب السلطة بوقف تمويل حصتها بسد نفقات الكهرباء، وشهدنا مطالبات إسرائيلية لعمل ما من شأنه عدم دفع القطاع إلى الانفجار، لأنه يمكن أن ينفجر في وجه إسرائيل أكثر من احتمال انفجاره في وجه "حماس"، واحتمال أن تمد إسرائيل طوق النجاة لـ"حماس" وارد، لأنها بذلك تنفذ سياسة مزدوجة تشجع السلطة على تنفيذ خطتها من جهة وتضمن تعميق الانقسام، ومن جهة أخرى تقدم معروفًا لـ"حماس" يساعد على نجاح مساعيها لترويضها وفقًا لما صرح به وزير الحرب أفيغدور ليبرمان "إذا أوقفت "حماس" بناء الأنفاق وتطوير سلاحها ستحصل على ميناء وتسهيلات كثيرة".
بدلًا من التهور والمغامرة التي تدل عليها خطة السلطة، والعناد والمكابرة التي تظهر بردة فعل "حماس"، هناك طريق أسهل وأقل كلفة ومضمون، وهو طريق الحوار الوطني الشامل للاتفاق على برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة المحتمل أكثر بعد وثيقة "حماس" السياسية، بعيدًا عن مطالبة كل طرف بإلحاق الطرف الآخر به وببرنامجه أو إقصائه، وذلك رغم أن لا أحد يستطيع الادعاء بأن برنامجه أثبت صحته، فبرنامج أوسلو والمفاوضات إلى الأبد أوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها، وكذلك برنامج المقاومة الأحادية أوصلنا إلى الهدنة المفتوحة مع الاحتلال، وتحويل المقاومة كأداة لحماية سلطة أحادية قمعية محاصرة وتحويل القطاع إلى أكبر وأسوأ سجن عبر التاريخ.
بقلم/ هاني المصري