يعتبر ما جاءت عليه وثيقة حركة حماس الجديدة من مضامين سياسية وتوجهات تحكم تفاعلاتها الداخلية للحركة وعلاقاتها مع الآخرين ( داخليا وخارجيا )، انتصارا لنهج الواقعية السياسية الثورية على الساحة الفلسطينية، هذا النهج الذي زكت الحياة مضامينه، والذي لو اعتمد رسميا لمكن شعبنا الفلسطيني وقيادته من تجنب الكثير من الأزمات والخسائر والإرهاق لشعبنا، والتقدم بمسيرته النضالية بخطوات تراكمية مضمونة وآمنة نحو تحقيق أهدافه الوطنية التي تضمنها مشروع الإجماع الوطني المتمثل ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية .
ويمكن القول أن نهج الواقعية السياسية الثورية كان ولا زال في صراع مع نهج المغامرة والتطرف الذي يجلب لمسيرة شعبنا مزيدا من الويلات، وكذلك نهج الواقعية السياسية التي يغلب عليها الطابع الانهزامي، فسبب هذان النهجان فقد تمكنت جبهة الأعداء من اقتناص العديد من الفرص لوضع المزيد من العراقيل والصعوبات في طريق مسيرة شعبنا التحررية . وللأمانة التاريخية، يمكن القول أن هذا النهج الذي اعتمده الشيوعيين الفلسطينيين منذ عشرات السنين في برامجهم السياسية وفي طريقة تعاملهم مع الواقع السياسي والنضالي لشعبنا، قد اثبت فعاليته، وهذا ما يؤكده اتساع رقعة اعتماد هذا النهج، والتطور الذي جرى على العديد من البرامج السياسية للفصائل الفلسطينية، وهنا يجدر القول أن حركة فتح قد طورت منذ سنوات من مفاهيمها السياسية باتجاه هذه الواقعية، ليجد ذلك تعبيراته في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988م، والآن يجد هذا النهج طريقه لحركة حماس، إحدى القوى السياسية الرئيسية على الساحة الفلسطينية، ليضاف رصيدا أخر مهما لهذا النهج، الأمر الذي سيساعد بالتأكيد على تضيق مساحة الاختلاف لصالح تقاطع البرامج والتوجهات، وبالتالي إرساء أساس وواقع لوحدة شعبنا ونظامه السياسي، هذا إذا ما أحسنا جميعا التعامل مع هذه المعطيات، وغادرنا منطق الندية والإحلال والإقصاء الذي ساد العلاقات الوطنية خلال المرحلة الأخيرة .
وقد أتت وثيقة حركة حماس الجديدة على جملة من القضايا المحورية والمفصلية التي تؤكد انتقالها إلى موقع جديد من الفكر والتوجهات السياسية، وهنا يمكن الإشارة إلى الأتي :
عندما تتضمن الوثيقة قبول حركة حماس لإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 67م وعاصمتها القدس، وفي ذات الوقت تخليها عن شعار تدمير دولة إسرائيل، فهذا يعني أنها انتقلت لمساحات جديدة من الفهم السياسي، وإن أشارت في إستراتيجيتها إلى الحق التاريخي لشعبنا في كل فلسطين – وهذا أمر لا خلاف ليه - ، هي تدرك أن الحديث عن ذلك يعني أنها تريد دولة ليست في الهواء، وإنما لها حدودها التي في غالبيتها ستتشارك مع حدود دولة إسرائيل، كما أنها تدرك أن تحقيق هذا الهدف لن يتم من خلال حرب التحرير الشعبية، التي يمكن من خلالها فقط انجاز هدف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 بالقوة، دون الاعتراف بإسرائيل، هي تدرك استحالة ذلك في ظل المعطيات القائمة كافة، وتعي تماما أن تحقيق هدف دولة 67 لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قرارات الشرعية الدولية وكمحصلة لتوافق دولي، هذه الشرعية والتوافق الذي تقر وتعترف وتدعم دولة إسرائيل، وبالتالي فان أي إقامة للدولة الفلسطينية المستقلة فوق الأراضي المحتلة عام 67م هي بالتأكيد ستتضمن اعترافا صريحا وواضحا بدولة إسرائيل، واعتقد أن ما جاءت عليه وثيقة حركة حماس من إشارة لموافقتها على ذلك في إطار التوافق الوطني، هي مسرب ذكي ويساعدها على لانتقال ما بين الفهم السابق وما صار عليه برنامجها الآن، لاسيما وأنها تحتاج إلى مرحلة انتقالية ما بين طرح وفكر سياسي سابق، وما هي عليه الآن، وهنا علينا أن لا نتجاهل بان حركة حماس قد واصلت وعلى مدار عشرات السنين تعبئة قواعدها وجمهورها بأفكار وشعارات سياسية اتسمت بالتشدد، لاسيما الحديث عن تدمير دولة إسرائيل ورفضها لإقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 67م، والآن هي تتحول عمليا عن ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى مخارج او كما يقولون " تدوير بعض الزوايا " للانتقال التدريجي بوعي وقناعات هذه القاعدة العريضة للحركة نحو التوجه الجديد .
كما علينا أن نرى ذلك في سياق انتقال مهم للفكر السياسي الحمساوي، والذي بات يعتبر أن صراعه مع الكيان الصهيوني والاحتلال بوصفه قوة معادية، وليس صراعه مع اليهود كدين وبشر، إن هذا التحول ليس بالسهل على حركة أمضت عقود سابقة وهي ترفع شعار القضاء على اليهود، وبان صراعهم ابدي معهم، وقد امتلأت أدبياتهم وخطبهم وأغانيهم وشعاراتهم بهذه المضامين.. إن هذا التحول أيضا ليس سهلا على حركة ارتبطت عضويا بجماعة الإخوان المسلمين، وبايعتها كما بايعت مرشدها العام خلال المرحلة السابقة، وهي الآن تعلن بوضوح تنصلها من ذلك تنظيميا، لتقترب أكثر من واقعها الفلسطيني، وتوطين وجهة ومفاعيل الحركة، واعتقد من الموضوعي الفصل هنا بين توجهها الجديد المعلن بانفصالها التنظيمي عن حركة الإخوان المسلمين، وبين حسن علاقتها مهم، فهذا أمر مشروع في اعتقادي، كما هو مشروع لها وكما الأحزاب التي تمتلك أيدلوجيات أخرى، أن تقتضي بفكر هذه الحركة العالمية " الإخوان المسلمين " برغم اختلافي مع العديد من منطلقاتهم الفكرية .
علينا ن نلمس أيضا تضمن الوثيقة لمفاهيم الشراكة والتغيير الديمقراطي، وحسم موقف الحركة من منظمة التحرير الفلسطينية بأنها البيت الجامع للكل الفلسطيني، فبرغم أن هذا الموقف لم يرتقي لمستوى التأكيد على شرعية ووحدانية تمثيل هذه المؤسسة لشعبنا الفلسطيني، إلا أن موقف الحركة جاء حاسما بأنه لا بديل عن هذا البيت الجامع الذي يحتاج لتطوير ومشاركة الكل الفلسطينية فيه .
اعتقد وفي كل الأحوال، ما جاءت عليه وثيقة حركة حماس يعتبر نقلة هامة في مسيرة الحركة يجب النظر إليها بايجابية، والابتعاد ن منطق المزايدة أو الشماتة او الانتقاص، فأي تطو في الفكر السياسي لأي حزب او حركة سياسية فلسطينية باتجاه نهج الواقعية السياسية الثورية هو إضافة نوعية لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز لقوة نضالها ومفاعيله على الساحات كافة، وهو رصيد إضافي يمكن شعبنا وقيادته من حشر إسرائيل وسياستها العدوانية في الزاوية، وإلحاق الهزائم بنهجها الإحتلالي الاستيطاني العنصري والتصفوي .
هناك طريق ليس بالهين أمام حركة حماس لتطوير مواقفها على الأرض انسجاما مع هذه التحولات، وبما يقنع الآخرين فلسطينيا وعربيا ودوليا بأنها أحدثت تغييرا جديا في سياساتها، كما أن عليها بذل جهود كبيرة لتحويل وعي كوادرها وقواعدها وجمهورها نحو هذه الانطلاقات الهامة، والتي إن وجدت طريقها لوعي أعضائها وأنصارها ستُحدث تغيرا في نمط وعيهم وسلوكهم، الأمر الذي سيرخي بظلاله الايجابية على الحالة الفلسطينية، بما في ذلك اتجاه طبيعة إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وأشكال ومتطلبات ذلك، وأيضا على مستوى الانحياز الجاد للوطنية الفلسطينية، وعلى مستوى التفاعلات الداخلية، وفي مقدمة ذلك إنهاء حالة الانقسام الكارثية، والتوجه المشترك لصياغة إستراتيجية وطنية واحدة وموحدة، لاسيما وان التباينات السياسية لم تعد واسعة بين البرامج السياسية للفصائل الفلسطينية برغم بعض الشعارات المتناثرة هنا او هناك .
بقلم/ نافذ غنيم