وثيقة "حماس" في الميزان

بقلم: بكر أبو بكر

التقديم الطويل الذي قام به خالد مشعل لوثيقة "حماس" الجديدة كان مفهوما لدي، فهو به يحاول أن يخفف من صدمة أو معارضة البعض في "حماس" خاصة لما جاء فيها، لأن الاختلاف بدا كبيرا في الرؤيا الجديدة لـ"حماس" عن تلك المتمثلة بتربيتها العقدية الداخلية الحِدّية التي ما فتأت تسير على خطى "الاخوان المسلمين" التقليديين في فكر رفض الآخر والمحنة والظلم ومدرسة الفسطاطين، و(قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).

التقديم الطويل أو الاستهلال الذي قدم به مشعل الوثيقة عبّر بحق عن تطور فكري وسياسي أخذ وقتا طويلا ليتبلور، ولنقل على الأقل من العام 1988 وإعلان انطلاقة الفصيل بثوب (الميثاق) الذي تمزق عبر الزمن، وها هو مشعل يلبس ثوبا جديدا وإن احتفظ من الثوب القديم ببعض المفاهيم الذائبة أو المنسوجة بشكل خفي في خلطة الميثاق الجديد.

إن ميراث "الأخوان المسلمين" ميراث طويل في فلسطين، فمنذ الاربعينيات من القرن العشرين وضع حسن البنا أقدامه في فلسطين، وفتحت فروع التنظيم الإخواني الذي لطالما اعتبر نفسه (حتى إعلان مشعل الجديد) أنه جزء لا يتجزأ من "الاخوان المسلمين" بنهجهم التقليدي الرسمي رغم تعدد المناهج.

مدرسة الفسطاطين والاستيلاء على الآخر

بدأت مسيرة فصيل (حماس) منذ انطلاقتها بحِدة الرفض للآخر وعدم القدرة على ابتلاعه، باعتبارها البديل الجاهز المغمّس حصريا بروح الإسلام والمعبّر عنه،  فرفضت أن تكون جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية (العلمانية الكافرة)، ومنذ كرست مسارها النضالي المنفصل عبر بياناتها وفعالياتها في الانتفاضة، بعد إدراك متأخر لجدوى الكفاح المسلح، سواء  في الانتفاضة الأولى(1987-1993) أو في الثانية (2000-2004)، فكان فكر أو منهج المعسكرين أو الفسطاطين: فسطاط الحق والباطل، ونحن أو هم، هو النهج القائم في التعامل مع الآخر، وفي التكوين الداخلي للعناصر، واستمر هذا الطور طويلا حتى بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994.

حاولت "حماس" أن تستولي على منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تستطع حتى مع التحالف مع نظام بشار الأسد في سوريا في العام 2011 ثم مع دول أخرى بالمنطقة، وعليه فإنها وجدت من إطار السلطة القائم والجاهز فرصة ذهبية للانقضاض على قيادة السلطة والاستيلاء عليها، والحلول باستبدال معسكر الشيطان و"أوسلو" والخيانة والكفر والاتفاقات الاستسلامية والتنسيق الأمني بمعسكر الرحمان و (الوطنية الإسلامية) والإيمان.

  استمرت هذه المرحلة طويلا (1988-2017) أي ما يقارب من الثلاثين عاما، جرى في النهر مياه كثيرة، وتغير في المعادلات الكثير، لتصبح "حماس" عبر الزمن مؤهلة لطور (الاعتدال والتجدد والتطور والمرونة والواقعية والانفتاح والوسطية) مما عبر عنه خالد مشعل في الاستهلال لكلمته، وهو يعلن وثيقة "حماس" الجديدة من فندق في العاصمة القطرية مساء يوم العمال 1/5/2017 ومترافقا مع إضراب الأسرى بقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، وفي ظل زيارة الرئيس أبو مازن لأمريكا للقاء الرئيس الأمريكي الجديد.

لا شك لدي أن الطور الجديد لحركة "حماس" قد لقي نزاعا وخلافا داخليا حادا بين تيارات التجدد وتيارات التشدد فيها، ولا شك لدى أن العامل الداخلي على أهميته في بناء الوثيقة قد تأثر الى حد كبير بمتغيرات الذات، والمحيط والعالم في 30 عاما، فمن لا يتجدد يتبدد، وهو ما كان من شعار خالد مشعل في استهلاله الطويل.

الانعطافة الفكرية:

من الممكن أن نرجع أسباب تدشين إعلان الانعطافة الفكرية لـ"حماس" أو التجدد النسبي (وقد يراه البعض الظاهري افتراضا لعدم التطبيق) إلى الأمور التالية:

 لأسباب تأثيرات داخلية وإقليمية وعالمية: مثل انقسام العالم العربي لمعسكرات فئوية، واشتعال فكرة الطائفية والقبلية فيها، والصراع العربي الفارسي على النفوذ والمصالح.

 وظهور الاسلامويين المتطرفين كرقم صعب بالمنطقة والعالم، عدا عن اعتبار "حماس" منظمة إرهابية، وسقوط دولة "الاخوان المسلمين" في مصر.

وتطور فكر الغنوشي في تونس، والمطامع التركية والإيرانية بالمنطقة العربية.

 وانهيار جدار الأمة الصلب من حول القضية الفلسطينية انشغالا بقضاياها الداخلية، حيث نرى أنها كلها عوامل تآزرت مع فشل حركة "حماس" في حروب ثلاثة على غزة دمرت الحرث والنسل، متضافرة مع الحصار الظالم وضغوطات الإقليم.

تآزرت هذه العوامل مع فشل "حماس" بطرح نموذج يحتذي به في الحكم، وإن عدت هي كل معاركها مع العدو وأسلوبها بالحكم انتصارات، ولكن العبرة بالنتائج فلا نصر ينتج وضعا أسوأ مما سبقه ومعاناة تزداد يوما ولا تنقص، إلا أن كان النصر هو منع أي عدوان جديد، وكما قال مشعل في استهلاله بأنه (لا يريد حربا) ما يعني حُكما التزامه المطلق بالتنسيق الأمني مع الاسرائيليين عبر منع إطلاق أي رصاصة أو حجر على الاحتلال من غزة.

العوامل المتآزرة مما ذكرناها مع تجربة "حماس" الفاشلة أيضا برأينا في ملف الانقلاب/ المصالحة لعشر سنوات، كلها عوامل ساهمت في بلورة فكر جديد يستطيع أن يقدم "حماس" للعالم بحُلّة منمقة تصلح لأن تقدمها فتجلس على طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين مما لم يرفضه مشعل قط، ومما أكد عليه كثيرا فيما سبق وأكد عليه بوضوح هذا اليوم لماذا (لأن الأعداء يتفاوضون) كما قال نصا، وإن كان التفاوض (سياسة قابلة للتغيير) كما أضاف.

مسافة طويلة، لكن مساحة واسعة:

لقد قطعت "حماس" مسافة طويلة هي 64 عاما منذ ظهور أول خلية إخوانية في فلسطين في أربعينيات القرن العشرين، ومنذ 29 عاما على ظهورها أو انطلاقتها، ومنذ 10 أعوام على الانقلاب، و3 سنوات على العدوان الثالث المدمر على غزة، لتقرر أن تغتسل بماء النهر الجاري ليصب في بحر الانسانية التي اعتبرت "حماس" أنه جزء منها، إذ عبر مشعل في خطابه معلنا الوثيقة الجديدة عن كثير من هذه المفاهيم (الإنسانية) بوضوح هام، ولكنه يتناقض كليا مع تعبئة "الإخوان المسلمين" وفكر سيد قطب الاقصائي على الأقل.

إننا نحيي فكر (التطور والتجدد ضد التكلس) كما أشار مشعل له، ونتفق معه على ما قاله من أنه ليس (كل حاجة ثوابت فيتم تقليص مساحة المتغيرات ، فالمجال الطبيعي هو التطور والمرونة، ولسنا أيضا مع توسع المتغيرات ما يؤدي لضياع الثوابت والحقوق وبالتالي التفريط).

إن الاستهلال الذي بدأ به خالد مشعل إعلانه عن الوثيقة الفلسفية والفكرية (والسياسية) الجديدة يستحق أن يدرّس فعلا داخل "حماس" لعلها تنفض عن تربيتها الداخلية إرث الجمود العقلاني، والتيار الكهربي الفكري الصاعق الذي ينزّه فكرها، بل وحامليه وينأى بها عن الآخرين فلا تجد من عدائهم بدا، وهو تجدّد لمشعل وواضعي الورقة يستحق أن يتم التوسع به ليضاف للوثيقة الفكرية عامة لأي تنظيم.

شكلت مقدمة خالد مشعل إضاءة محترمة، وتناولا بديعا لمفاهيم "المرحلية" و"الواقعية السياسية" والعمليانية (البراجماتية) عندما جعل من (الابداع والتجدد والتطور والمرونة والوسطية) بنص حديثة مطلبا لا يعني التخلي عن الثوابت من جهة، ويرفض (تضييق المساحات) مما قال وهو بذلك يقرّ بوعي أو بلا وعي -والاحتمال الأول أقرب لي- بسقوط مدرسة الفسطاطين أو المعسكرين لأنه اعتبر (الابداع والتجدد ...) وسطا بين الافراط والتفريط، أو التشدد والميوعة.

 من المعلوم أن "الوسط" ليس واحدا بل متعدد النظرات حيث تعددية وتشاركية مقبولة، بمعنى أنه ما بين الطرفين البعيدين للشيء أو الفكرة، وهما كما سماهما "التشدد والميوعة" العديد من الوسطيات، ما يعني السقوط المدوي لفكر "الاخوان المسلمين" التقليدي بمنهج سيد قطب ومصطفى مشهور على الأقل القائل بالكفر مقابل الإيمان، والإسلام مقابل المجتمع الجاهلي، أو ما كان قد عبّر عنه مشعل ذاته سابقا عام 2007 أثناء الانقلاب من خلال فكر "الفسطاطين" أو "المعسكرين" في سكرة الانقلاب والنصر،! وسار على دربه معظم نواطق "حماس" والى زمن يوم واحد فقط قبل إعلان الوثيقة.

نحيي بشدة فكر التجدد والإبداع، ونرحب بعقلية المساحات المفتوحة، وبمنطق فهم المتغيرات وفلسفة حالة التجدد عقلانيا بلا خجل وبلا خوف من أن هذا أو ذاك قد يكون مخالفا "للشرع" ما يحتاج لفتوى ومرجعية نصّية!

تبرير كل تجدّد أو إبداع أو إصلاح كان يضطر المبدعين لمواجهة أصحاب الفكر الجامد والمتحجر بشراسة، وقد يدفعون ثمن ذلك حياتهم.

 وكان التجدد -أو الرغبة فيه- يضطر أصحاب الفكر المرتبك للنأي عن المواجهة بالتراجع أو التساوق.

 وكان يضطر أصحاب النظام التسلطي أو غير الشرعي ولكنه الراغب بالتطوير لاستخدام سلاح الفتوى! كما هو الحال بالدولة العثمانية عندما استوردت المطبعة لأول مرة فارتبكت واهتز كيانها واضطرت لأخذ فتوى تجيز استخدام المطبعة وتقول أنها حلال!

  تماما كما اتخذ السلطان العثماني سليم الأول من غزو أو فتح مصر وقتل أهلها وتخريبها وسرقتها حقا له تم التعبير عنه بفتوى أيضا!

    الفهم المرتبك أو السلطوي أو المتردد نتيجة الخوف يجعل من الاستناد لحائط الفتوى حتى في المصالح الظاهرة تعبيرا عن شرعية مفقودة يعمل السلطان أو التنظيم أو الحزب على اعتصارها رغما عن أنف "الشرع" وبأداته ذاتها.

فتوى أو شرعية الفكرة أو الموقف السياسي تحتاج من التنظيمات الفكرانية (الايديولوجية) لتأهيل واستهلال وتهيئة مناخ للعناصر لديها، مستندة للنصوص الدينية التي تبيح ما لا يُباح، فتقدس الفكرة أو الحدث وشخوصه حتى لو فسقوا وفجروا، أو فجّروا الناس في الشوارع، كما سالت الدماء الطاهرة في الانقلاب على غزة عام 2007 الذي لم يُشِر له مشعل في وثيقته الجديدة، وكأن مئات الأنفس التي قضت في الانقلاب ليست من المسلمين، أوليست من الفلسطينيين لتُذكر، فيقوم بالاعتذار عن الفتوى وعن التطبيق، وكلاهما جريمة استهللنا بذكرها الآن، كما استهلال مشعل هذه الورقة الذي نسيها، ولربما أطلنا كما أطال، ويستحق الاستهلال ذلك.

"المنهجية المتوازنة"

عموما لم يستند مشعل للنص المقدس أو الفتوى بل للعقل والمنطق والفلسفة في استهلاله وهذا تطور محمود، على عكس وثيقة "حماس" الأولى أي الميثاق وهي الوثيقة التي لم تجرؤ أن تتحدث في بنودها إلا مدعمة ما تطرح بآية قرآنية أو حديث وبالتفسير الذي يفهمونه.

لقد أسمى مشعل فكره أو فكر "حماس" الجديد ب"المنهجية المتوازنة"، وحسنا فعل ف"الوسطية" و"الميزان" يفترضان "العقلانية"، والثلاثي يقترض إزالة كل الخرافات والخزعبلات التي علقت سواء بفكر "الإخوان المسلمين" التقليدي أو "حماس" ، بل وبفكر الأمة الذي أدى بنا لوادٍ سحيق، مع التفسير والفهم الخرافي للقرآن والأحاديث من قبل التيارات المتطرفة التي نأى مشعل بتنظيمه عنها وحسنا فعل.

  لقد أراد مشعل ب"منهجيته المتوازنة" أن يجمع ولا يفرق بين أمور ثلاثة هي الفكر الوسطي المعتدل (وليس ما يقدمه المتشددون كما قال)، وبين العقل السياسي المنفتح، وبين المقاومة الصلبة، وحسنا فعل نكررها ثانية.

 إذ جعل مشعل من هذا المنهج المتوازن –والى جواره عشرات المناهج الوسطية الأخرى للعلم– يربط بين التطور والتجدد والانفتاح وبين الثوابت والأصالة، فيما أشار له من مفاهيم تعبوية وطنية تربوية صلبة، نتفق معه بها، حيث التأكيد على الحقوق الوطنية الفلسطينية العادلة، وأن لا تنازل ولا تفريط.

   دعوني أشير لفكر الأصالة (الوطني) التي اعتبرها مشعل من الأجزاء الثابتة في (المنهجية المتوازنة) ل"حماس" فهي:

-  أرض فلسطين الكاملة أرضنا.

- قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين لا يلغي حقنا بها.

-  لا تنازل ولا تفريط بالقدس ، والأقصى حقنا.

- حق العودة لا عودة عنه، و ضد التوطين أو الوطن البديل .

- المشروع الصهيوني عنصري احتلالي إحلالي .

- نعم لاتباع كافة أساليب المقاومة (وفي القلب منها المقاومة المسلحة-النص )

-  الدولة الفلسطينية الحقيقية ثمرة التحرير .

-رفض وعد بلفور وما نشأ عنه .

  وهل نجد فلسطينيا واحدا (أو عربيا حرا) يرفض هذه المبادئ الوطنية العامة؟ لا اعتقد ذلك، وهي إن تطورت في فكر "حماس"، وقد كانت متجذرة في فكر من سبقوا "حماس" ممن لم يتجرأ للإشارة لهم خشية الاتهام بأنه يسير على دربهم، وإن كان قد جوبه بمثل هذا السؤال بوضوح، أي أنكم تسيرون على درب حركة فتح.

حركة تحرير و مقاومة "وطنية" "اسلامية"

    في إطار تعاملنا مع الاستهلال والوثيقة، دعونا نناقش البند الأول، من 42 بندا شكلت الوثيقة الجديدة، مما تعرض له مشعل في الاستهلال أيضا، والذي يقول أن "حماس" (حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها).

أن تكون "حماس" حركة تحرّر فهذا تعريف كل الثورات ضد المحتل والاستعمار والظلم، وأن يضاف لها كلمتا "الوطني الفلسطيني" فهذه حركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني– فتح)، ولا يعني إضافة النكهة "الإسلامية" للتعريف إلا تمسكا بالتمييز، لأن (المقاومة الوطنية الإسلامية) كما سماها مشعل لا تكون (وطنية) و(إسلامية) بالفهم المستنير دون أن تكون (وطنية) و (مسيحية) أيضا، لأن مفاهيم "المواطن والوطن والوطنية" الحقيقية تضم كافة الأعراق والأديان والمذاهب داخل الوطن التي عبرت الوثيقة عن احترامها ومساواتها في فلسطين، وعليه تصبح السِمة "الاسلامية" اللاحقة "للوطنية" بلا معنى حقيقي إلا احتفاظا بموروث قديم، أو نقع في تناقض المصطلحات.

التعريف الذي يجعل "الوطنية" و"الإسلامية" قابلين للتعانق، ورغم ما يتضمنه من جدل كبير إلا أننا نقبل به لحركة "حماس" التي تحرص على تاريخها و تميّزها، ولكن وجب أن تعي بوضوح ما نعيد التأكيد عليه أنه في الوطنية تتساوى الاسلامية والمسيحية  في الوطن الواحد، وتتساوى "الوطنية" ضمن مساحات التعددية بالفكر والرأي والموقف في تنظيمات الفلسطينيين كافة، فلا احتكار للوطنية كما لا احتكار للدين.

بالتعريف الجديد لـ"حماس" بالبند الأول من الوثيقة الجديدة أنها (حركة تحرر ومقاومة وطنية إسلامية)، وان كان هذا قد يتضارب مع الاسم الرسمي للفصيل الذي هو (حركة المقاومة الإسلامية) والذي لا يذكر السمة الوطنية والفلسطينية، إلا أننا و رغم الخلط المفاهيمي نرى ذلك يمثل نقلة جديدة بالفهم.

لـ"حماس" أن تقول أن مرجعيتها "إسلامية"، وان كان ذلك يحتاج لأحبار كثيرة، إلا أن "حماس" حين تقيد نفسها ب"إسلامية" (المنطلقات والأهداف) في التعريف ذاته قد يكون هذا مقبولا من الزاوية المفاهيمية، أما أن تجعل لنفسها مرجعية إسلامية أيضا في (الوسائل) حسب التعريف، فان في ذلك تقييد شديد للحركة الى حد التحجر، الذي حذر منه مشعل نفسه بمعنى أنها جعلت من أي مناورة أو تكتيك سياسي عرضة للاستخدام أو التبرير الديني ما يعود بالضرر الشديد على "حماس" و حراكها الجديد بل وعلى تعبئتها الجديدة، وعلى ثابت الدين.

نضيف إلى ما سبق أن "حماس" في هذه الزاوية -أي زاوية ما تسميه المرجعية الاسلامية- لم تستطع أن تتخلص إلى الآن من الربط "الاخواني" التقليدي بين الدعوي العقدي وبين الحزبي السياسي فمازال الربط قائما ومختلطا، ولم لا! وهو مازال مجال الاستقطاب الخصب الذي لم تصل "حماس" فيه إلى درجة ما فعل د.راشد الغنوشي الذي قال في مؤتمر حزب النهضة الاسلاموي التونسي العاشر عام 2016 (نميز السياسي عن بقية المجالات المجتمعية كتتويج لمسار تاريخي حيث تمايز السياسي عن المجتمعي والثقافي والدعوي في حركتنا) فأسقط الربط بين السياسي والديني الدعوي الذي رسخه حسن البنا وسيد قطب من بعده وغالب الأخوان المشارقة لانتفاء التوفيق بينهما دون أن يتم استغلال الدين لمصلحة الحزبي السياسي كما أشار بتجرده من المصالح الحزبية في مقابل الوطن.

        بل وأضاف الغنوشي في خطابه -ما لم تطبقه حماس في غزة مطلقا حتى الآن- قائلا: (اننا (حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية ، والنأي بالمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي ...).

خمسة حقول

لنبدأ بتحليل الوثيقة في ظل خمسة حقول هي 1-التطور أو التجدد الفكري، و 2-مصيدة أو حفرة المصطلحات، و 3-الثبات التعبوي الوطني مقابل المتغير السياسي، ثم 4-نتعرض للمتناقصات رابعا، 5-وصولا للأسئلة السكوت عن الإجابة عليها.

       بعد الاستهلال لخالد مشعل قام باستعراض عشوائي لعدد من بنود (وثيقة المبادئ والسياسات العامة)، و التي اشتملت على مقدمة من صفحة واحدة و 42 بندا ابتدأت بأقسام التعريف، ثم بقسم أرض فلسطين، وتلاه قسم شعب فلسطين، ثم الإسلام وفلسطين، فالقدس، وانتهت بالقسم المتعلق بالجانب الإنساني والدولي في 6 صفحات شكلت الوثيقة القصيرة لكنها الهامة، وبناء عليه سنعرض للحقول الخمسة التي اشرنا لها:-

الحقل الأول: التطور  الفكري والسياسي والانتصار

لقد عبرت وثيقة "حماس" بحق عن قفزات نوعية وتطور مشهود في المفاهيم، وربما بزمن معقول، وان كان يراه البعض طويلا ، مما لا شك به أن "حماس" رغم ما فعلته من خطايا فإن لها من المزايا والقدرة على المواجهة المشهود لها بها، والتي جعلتها رغم كل الضغوط تستطيع أن تحصل على قصبة التنفس فتنجو من الغرق الذي دفعت نفسها إليه أودفعها الآخرون إليه أو الاثنين معا، فسارت على درب التغيير، وإن كان المركب الذي استقلته هو مركب حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، ومركب الوطنية الفلسطينية والثورة الفلسطينية المعاصرة بلا جدال، ما يمثل انتصارا مزدوجا للحركتين، وانتصارا للفكرة ولفلسطين.

نجد أن "حماس" صعدت إلى مركب حركة التحرير الوطني الفلسطيني- "فتح"، أو إلى مركب "الوطنية الفلسطينية الوحدوية"، وأنا هنا لا يهمني أن تعترف "حماس" أو حركة "فتح" بمنطق من الأسبق ممّن، ومن تأثر بمن، ما قد  يدخل في باب المناكفات الحزبية.

           وإنما ما يهمني أن المركب الوطني قد يسير بقوة -إن أُحسنت إدارة دفته– إلى بر الأمان، وعليه نجد انتصار الفكر الوطني الفلسطيني في وثيقة "حماس" على الأقل في 10 نقاط كالتالي:

1. في تعريف الصهيونية والمشروع الصهيوني، والتخلص من إرث فكرة الحرب الدينية (بند14).

2. في بند الواقعية السياسية في التعامل مع النظام السياسي الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية و الجانب الإنساني.

3. في اتباع "المرحلية" (الاعتراف بالدولة على حدود 1997 دون الاعتراف بالكيان الصهيوني)، والاعتراف بالسلطة الوطنية (من البند 27-30).

4. الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع، وان ظل البند مبهما إذ لم تقل (الممثل الشرعي والوحيد).

5. التجدد في المفاهيم–رغم شُبهة الخلط – وذلك حين القول (وطنيون إسلاميون).

6. القول أن التحرير واجب الفلسطيني، وواجب الأمة، والإنسانية بدوائر متكاملة (البند 23).

7. القول بتنوع وسائل المقاومة "بالوسائل والأساليب كافة"، "وفي القلب منها المقاومة المسلحة التي تعد الخيار الاستراتيجي" نصا (البند 25).

8. إن قضية فلسطين قضية أرض وشعب (أي ليست قضية المقدسات ووقف إسلامي ...) (البند 12) وإنها قضية مركزية للأمة.

9.  الفصل الواضح بين اليهود أواليهودية كديانة وبين الحركة الصهيونية (البند 15،16،17 )، و ظهور الأبعاد الإنسانية الجامعة.

10. القول بعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية، والقول بوحدة الأمة للانفتاح العالمي والعلاقات المتوازنة (بند 36،37).

لربما تكون هذه أبرز النقاط التي عبّرت عن التطور الملحوظ في البناء "الفكري الفلسفي" كما أسماه مشعل، وبالتالي في منهج التعبئة والتربية الداخلية الجديدة الذي يجب أن يسود "حماس" أيضا كما قال.

       وهي نقاط تتبعت فيها "حماس" خطى من سبقوها كما قلنا، و على رأسها حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح ما يحسب لحركة "فتح" أنها المبدعة و المتجددة و السباقة، ويُحسب لحركة "حماس" أنها صوبت المسار في هذه الحقل على الأقل، ونظريا حتى الآن، إن شاءت أن تفهم انعطافتها بشكل صحيح.

المفاجأة!

لربما لا يعلم الكثيرون أن عددا من نقاط الوثيقة الجديدة هذه قد نسخت نصا مما قاله خالد مشعل في ندوة له عام 2012 تحت عنوان (الفكر السياسي عند "حماس" ورؤية الحركة لمتغيرات الربيع العربي)، وفيها طرح 19 نقطة فقط، ما يعني حصول حوارات عديدة وتجدد كبير أيضا.

وهذه الورقة عام 2012 ألقاها خالد مشعل،رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في مؤتمر "الإسلاميون في العالم العربي والقضية الفلسطينية في ضوء التغيرات والثورات العربية"، والذي عقده مركز الزيتونة بين 28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012. ولكم أن تقارنوا بين النصوص على سبيل المثال فيما يتعلق بتعريف اليهودية والصهيونية والدولة والمبادرات السياسية...الخ.

دولة فلسطينية والاعتراف (باسرائيل)

وفي ذات السياق الذي سيأخذ جدلا سياسيا واسعا في "حماس"، والعالم الغربي الموجهة له الرسالة تحديدا، كما حصل مع حركة فتح أي الاعتراف بضرورة قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 كـ(صيغة وطنية توافقية مشتركة) حسب الوثيقة، دون الاعتراف (باسرائيل)، من الممكن أن نقول أن فكر المرحلية والبراجماتية "لحماس" هنا تفوق كثيرا على فكر التصلب العقدي حتى أن فكرة عدم الاعتراف ب(إسرائيل) ستصبح لاحقا منعدمة باعتقادي، إن أخذنا بالاعتبار إشارات خالد مشعل كما الحال في لقائه عام 2016 مع صحيفة (دنا انديا).

قال مشعل في لقائه مع الصحيفة الهندية مؤهلا المسرح لما سيأتي ومقدما نفسه وحزبه للعالم أن المشكلة ليست بالاعتراف ب(اسرائيل)، وانما الاعتراف بحقوقنا، وأعلن الاستعداد في مرحلة ما للاعتراف بدولة (اسرائيل)، والقضية مرتبطة بموافقة الشعب ضمن استفتاء، كما أعلن إمكانية التفاوض مع العدو، بينما الأهم فيما قاله هو موافقته "المتكررة" كما قرأنا بوضوح حينها على دولة في حدود 1967، ونصا كان قد قال: (المشكلة ليست حول الاعتراف بـ"اسرائيل". فلا توجد طرق مختصرة في الصراع. والسبب الرئيسي هو احتلال "إسرائيل" ورفضها الاعتراف بحقوق الشعب.)

وبعد أن يشيد خالد مشعل بمواقف حركة "فتح" والفصائل، ويتغطى بهذه المواقف مع التمايز يوضح بالقول: (عندما نتخلص من الاحتلال، سنحدد شكل علاقاتنا مع "إسرائيل".) بمعنى آخر أن المبدأ مقبول، ولكنه يرتبط بثمن وظرف وآلية، ومن الأثمان المطلوبة اتفاق سلام واضح على حدود 1967.

الحقل الثاني : حقل الثابت التعبوي

في هذا الجانب أي التعبوي السياسي يُحسب لحماس وضوحها خاصة فيما يتعلق بتعريف (أرض فلسطين) وملكيتها وحقنا بها، ورفضها لإعلان بلفور المشؤوم، وما نشأ عنه (البند 18-19).

وفي تعريفها كما أسلفنا للمشروع الصهيوني (لا اليهودي) الاستعماري (العنصري الإحلالي التوسعي الغاصب) (بند 14).

وفي التمسك بحق العودة للاجئين لكل فلسطين بند (19)، وفي التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني وهويته (الوطنية) (بند 4-5)، وبعدم التنازل عن أي جزء من فلسطين (البند 20).

هذا الوضوح التعبوي/التربوي الهام هو ذات المفهوم الذي يؤمن فيه الفلسطيني عامة بين جوانحه، فهو وإن رأى في الدولة العبرية كيانا سياسيا وجب التعامل معه، كما ستفعل "حماس" قطعا، فهو كيان سياسي غاصب وقائم على أرضنا نحن، أي على أرض فلسطين.

الحقل الثالث : حفرة المصطلحات المضللة

 في حقل أو حفرة المصطلحات نجد 5 من المفاهيم المتعارضة أوالخطرة.ففي البند 4 ينص (الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون في فلسطين حتى سنة 1947 سواء من أخرج منها أم من بقي فيها .... ).

فإن فهمنا هذا البند وفق التطور والتجدد في فكر "حماس" الذي لا يعادي اليهود أبدا، والذي يؤمن بالوطنية والإنسانية، وحسب نصوص الوثيقة الجديدة فإن الدولة الفلسطينية التي تسعى لها "حماس" على كامل أرض فلسطين تشمل على الأقل (المواطنين العرب) من "اليهود" الذين كانوا في فلسطين قبل 1947، وفي هذا تطور كبير في قبول "اليهود العرب" الذين هجّرتهم الصهيونية لبلادنا، وهو مفتاح لقبول الآخرين جميعا ضمن مفهوم التجدد والوطنية والإنسانية الذي تم تغليبه على فكر "حماس" الجديد.

أما النقطة الثانية فهي القول بعدم الاعتراف بـ"شرعية الكيان" وليس عدم الاعتراف (بإسرائيل) ما يجر لفكرة الاعترافات الثلاثة، أي الاعتراف الواقعي والسياسي والقانوني، ما كان سليم الزعنون أبو الأديب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح قد كتبه في كتاب له فترة تعامل حركة "فتح" و(م.ت.ف) مع القرار 242 و 338 ما يعني أن الاعتراف السياسي قادم بينما الواقعي قائم أما القانوني فغير لازم.

وقعت الوثيقة الجديدة في خطأ كبير باعتقادي من الزاوية التاريخية، فهي حين تقرر أنه في ثرى فلسطين (رُفات الآلاف من الأنبياء والصحابة والمجاهدين ... ) في البند 7 لا تقول حقا، إذ لا دليل علمي البتة على وجود رُفات الأنبياء هنا (إذ استثنينا حكمة الإسراء والمعراج وميلاد المسيح).

وفي الإصرار على منطق وجود (الأنبياء) إشارة واضحة لأنبياء بني إسرائيل العرب اليمنيين المنقرضين، وهم أنبياؤنا الذين ينسبهم (الإسرائيليون) اليوم لهم حصريا، إذ لا صلة جينية أو قومية أو قبلية لهم بهم، ولا يوجد ديانة في العالم تورّث أرضا لأصحاب ديانة ما.

إذ أن هذا البند يفتح الباب للتمسك الصهيوني بما يدعونه "حقهم الديني-القومي" هنا، بدلالة حجة وجود (رُفات الأنبياء) وهم كما يدعون انبياؤهم أو ملوكهم، وبالتالي ممالكهم (هي إمارات بني إسرائيل العرب القدماء المنقرضين) كما يتوهمون استنادا لخرافات التوراة، فلِمَ نفتح نحن هذا الباب، أم أن ذلك مقصود؟

النقطة الخطرة الأخرى التي عرّجت عليها الوثيقة بما يتعلق بالمصطلح هي ورود كلمة (اللاسامية)، وإن كان ورودها بسياق مقبول (البند 17) إلا أن مجرد الاعتراف باللفظة المخترعة إضرار بالتاريخ الحقيقي، وتساوق مع مفاهيم مخترعة حديثا، إذ لا يوجد أصلا بالتاريخ ما يثبت وجود سام أو ما يثبت والرواية المرتبطة بذلك، فكيف تصبح "اللاسامية"؟

إن استخدام مصطلح "اللاسامية"، وان جاء عرضا، خاصة حالما اقترن بـمصطلح (رفات الأنبياء) ومصطلح (العرب الفلسطينيون)،أي بما فيهم اليهود من سكان فلسطين عام 1947، وفي ظل أننا ك"حماس" حسب الوثيقة نرفض (اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي – البند 17 أيضا)، فإن ذلك يعني تساوقا غير مفهوم مع الرواية الإسرائيلية التاريخية الخُرافية، والتي يشعلها "نتنياهو" واليمين حاليا، وفي نفس الوقت تقديم سياسي للوجه الجديد ل"حماس" الذي يقبل بوجود اليهود بلا شك.

إن نقطة (رفض الانتقاص من حقوق أي إنسان) التي سبق الإشارة لها بالوثيقة مع تأييدنا لها، هي مما ينقض الأفكار الاسلاموية الإخوانية التقليدية التي تفهم الآخر كـ"أهل ذمة" و"أهل عهد" عليهم الجزية لا كمواطنين بحقوق متساوية.

هذه النقطة التجديدية أيضا تناقض ذات الأفكار التقليدية المشرّبة بالوثيقة، خاصة في قسم الإسلام وفلسطين، حيث يظهر تناقضها مع الفهم الإخواني الصريح لمعنى "الدولة الإسلامية"، والوارد في البند 8 من الوثيقة حيث يقول البند: أنه في ظل الإسلام -"أي ما يفهم أنه في ظل الدولة الإسلامية المهيمن بها الاسلامويون أو المسلمون لا دولة كل مواطنيها"- (يعيش أتباع الشرائع والأديان في أمن وأمان) بمعنى تضارب مفهوم الوطنية والحقوق لكل الأديان مع هيمنة دين واحد يمثله بالضرورة أتباعه أو حزب محدد على الوطن.

الحقل الرابع : حقل التناقضات  

إن إمكانية ايجاد الربط بين المفاهيم التي تبدو متناقضة (أو هي فعلا متناقضة، أو تم التعبئة بها على أنها كذلك) يحتاج لجهد فكري وتربوي مكثف ينتقل بالمفهوم من إطاره الأول ليصبح في حُلّة جديدة استنادا للتطور الفكري من جهة، واستنادا للتجارب من جهة أخرى.

حصل التطور الفكري في استيعاب "الإخوان المسلمين" لمفاهيم الوطنية والديمقراطية بل العلمانية، وهي مفاهيم كانت منبوذة ومحتقرة، وتعتبر في إطار فكرة أو منهج المعسكرين أنها ضد الإسلام، إلا أنها اليوم تصبح مقبولة، بل ولا تتعارض مع فهم الإسلام "الإخواني" الوسطي والمتجدد والواقعي الذي يطرحه مشعل فكرا جديدا لـ"حماس".

إن قبول فكرة الوطنية، وإنها ليست ضد الإسلام، كان سبقا للإخوان المسلمين المصريين والفلسطينيين والتوانسة نعم، وفهم الديمقراطية في الفكر الإخواني جاء بعد مرحلة مخاض عسير من الرفض والاشتراط ثم التقبل، ثم جاء القبول بالعلمانية أو العلمانية المؤمنة أو الجزئية أو المدنية.

 نرى القبول لفكرة العلمانية في فكر المفكرين الاسلاميين د.محمد عمارة و د.راشد الغنوشي وعبد الوهاب المسيري، وأيضا لدى خالد الحسن من قيادات حركة فتح، بل وفي فكر الرئيس أردوغان الذي عبر عن ذلك علنا وفكر إسلاميين آخرين كُثُر، وهو أي (الفكر العلماني) -و لنقل (المدني) حذَرا- قد تسلل بقوة لوثيقة "حماس" الجديدة شاءت "حماس" أم أبت، اعترفت به كمصطلح أم رفضته، والعبرة بالنصوص لا بورود الكلمة المحددة.

   تُسقِط وثيقة "حماس" كليّا التعريف الحِدّي وغير المقبول الذي يرى العلمانية فكرة ضد الدين (كما رأى فكر الاخوان ذلك سابقا بالوطنية والقومية والديمقراطية والاشتراكية) أو أنها تعني التعريف الأوحد المقدس: فصل الدين عن السياسة أو الدولة.

   إن الوثيقة تـُعرّف العلمانية دون أن تسجل اللفظة حرفيا (ولنقل المدنيّة) بالشكل التالي: أنها الشراكة في القرار والوطن، وأن الدولة لكل مواطنيها بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني او الطائفي ... الخ، ما ورد في وثيقة حماس وهذا تطور مفهوم.

   يصطدم المفهوم "المدني" في الوثيقة، وسيصطدم في الميدان، مع مفاهيم أخرى في ذات الوثيقة من مخلفات فكر "الاخوان المسلمين" التقليدي أي الذي لم يتطور، حيث نرى عكس هذا المفهوم "المدني أو العلماني" حين الحديث بالوثيقة عن الإسلام وفلسطين، وكأن الإسلام يحتاج لمن يقدمه لفلسطين عبر حزب بالشكل الذي ثم تقديمه، وما هو ربط بين العقدي والحزبي.

 يبدو (الإسلام) في البند الوارد بالوثيقة السياسية كأنه دين مُصاغ بفهم حزب محدد وبشكل محدد ويُلقي على كل الناس بهذا الفهم سواء أكان هذا الفهم صحيحا أم قابلا للتطوير، ما هو نقيض فكرة الوسطية الوطنية، ونقيض فكرة الديمقراطية، ونقيض فكرة العلمانية أو المدنية حيث تقف الدولة على مسافة واحدة من كافة المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية أو القومية أو المذهبية، وأن الدولة هي أداة لتنظيم علاقات الناس الذين هم متساوون أمام القانون، ما يتناقض مع النص بوثيقة "حماس" على فهم محدد لمعنى الإسلام.

   يتناقص فكر الوطنية الجامعة وفكر "المدنية" الذي تغشّى الورقة ل"حماس" مع القول تحديدا أنه في ظل الإسلام حسب البند 8 (يعيش أتباع الشرائع و الأديان في أمن وأمان) ما هو فهم اخواني، بل وفهم اسلامي قديم كان يمثل فتحا كبيرا في مرحلة من المراحل بالتاريخ الإنساني، لكن تم تطوره و تجدده، و نحن في سياق تطور وتجدد الفكر في "حماس" ليصل لفكرة المواطنة المتساوية للجميع بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم أو مذهبهم.

 السؤال الذي يتوجب على "حماس" الإجابة عليه لاحقا هو إلى أي المفهومين تنتمي حركة "حماس" اليوم؟ هل إلى مفهوم الدولة الوطنية والمواطنة والمدنية (أو العلمانية المؤمنة) والشراكة والديمقراطية؟ أم إلى مفهوم "الدولة الإسلامية" التقليدي؟ الذي عبرت عنه بهيمنة الحكم الإسلامي وفهم السلطان الإسلامي على الطوائف الأخرى، كما هو نص العبارة بالوثيقة (يعيش أتباع الشرائع والأديان في أمن وأمان)، فان كانت الثانية فهذا نكوص كبير عن كل مضامين تطور الفكر الاسلامي، ونكوص كبير عن حقيقة التطور عامة.

إن تناقص فكرة الوطنية والمدنية والديمقراطية الواردة بالوثيقة بوضوح مع الفهم الإخواني التقليدي وغير المستنير لمعنى "الدولة الإسلامية" المهيمن هو تناقص واضح حيث تجد المعنيين وإن بإشارات، بمعنى أنه تناقض يجب حلّه.

حل التناقض الأول واجب كما الحال في التناقص الثاني حيث نرى قبول الدخول في لعبة السلطة مع رفض "حماس" الاتفاقيات التي أنشأتها كليا؟

إن رفض الاتفاقيات عامة يؤدي لرفض النتائج، ومنها وجوب رفض الكيان الناشئ عنها، وإلا وقعنا في التناقض.

وان كان الفكرة لدى الوثيقة بما يتعلق بالسلطة تتجه نحو رفض "التنسيق الأمني" أساسا الذي تعبر الوثيقة عن رفضه، فهو رفض يدخل في تناقض سياسي فاضح آخر حيث يؤكد مشعل من البداية أننا لا نريد حربا ما يعني تمسكه الأبدي بالهدنة أو وقف إطلاق النار ما يمثل "تنسيقا أمنيا" معاش يوميا على الحدود مع غزة.

إن اكتفينا بهذين التناقضين الواضحين في الوثيقة، فان تناقضها مع التطبيق الواقع على الأرض هو الذي يراه المواطن في غزة ويلمسه ويعيشه، ما لا تنفع معه الاشادة والمديح من خالد مشعل بشعبنا في غزة مرارا وتكرارا.

وفي الإطار نرى النقيض لفكر التجدد النظري ل"حماس" بما يجري على الأرض في قطاع غزة من خلال رفض المصالحة بأشكال متعددة، ومن خلال كل مسارات التكفير والتخوين والشتائم المتجددة، والتي كان آخرها في النصف الثاني من شهر 4/7/20 وبشكل لاذع ومقذع ومؤذي بل وبشكل خارج عن القيم الاسلامية و المسيحية وتلك الانسانية التي تصفق لها "حماس" في الوثيقة، بل والاعتقالات التي تلت إعلان الوثيقة!

الحقل الخامس : حقل الأسئلة المسكوت عنها

الأسئلة المسكوت عنها في الوثيقة كثيرة، ومنها العلاقة الخاصة مع مصر والأردن، والعلاقة مع فلسطينيي 48 ، وفكرة و طبيعة الدولة الواحدة، وهل اليهود مواطنين فيها، وقضية تبادل الأراضي بين الضفة وأراضي فلسطين الـ 48، والولاية العربية على القدس، وتسليم غزة إلى السلطة الوطنية ، وكيفية الدخول بوضوح للمجلس الوطني الفلسطيني.

لم تجب الوثيقة على سؤال أو تعريف من هو اليهودي أو الاسرائيلي والفروقات الصارخة بينهما، كما لم تجب الوثيقة عن كثير من التفاصيل المتعلقة بإدارة الدولة القادمة أو دستورها وقانونها وطريقة الربط بين قطاع غزة والضفة الفلسطينية.

وهكذا من الممكن أن تجد عديد الأسئلة الفرعية الكثيرة، التي يراها البعض أساسية، كما هو الحال بعدم النص على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمواطنة (انظر البند العام المتعلق بالمرأة رقم34).

خاتمة:

إن الوثيقة الجديدة ل"حماس" على ما فيها من تطور وتجديد في بعض المفاصل السياسية والمفاهيمية، لم تُشر للعلاقة مع "الاخوان المسلمين" رغم أن خالد مشعل أكدها في حديثة ردا على أحد الأسئلة قائلا أن "حماس" من مدرسة الاخوان المسلمين.

   تبنت الوثيقة فكرة الوطنية، وإن ألحقتها بالاسلامية، واقتربت الوثيقة من فكرة (المدنية) أو العلمانية والإنسانية الشاملة إلى حد التبني، رغم التعارض البيّن مع البعض البنود الأخرى.

  الوثيقة إذ تطرح فكرا سياسيا متقدما أو مُقدّما ومبشرا العالم ب"حماس" الجديدة، فإن ذلك ما كان ليقع إلا لضغوطات المحيط ووقع التجربة المريرة التي مرت بها "حماس".

 إن الواقعية السياسية، والتغيير في فكر "حماس" على الشكل الذي جاءت به الوثيقة التي احتوت وميض ايجابي مع بعض التناقضات، ما كان ليقع إلا لتفك "حماس" عزلتها مع المحيط والعالم بثوبها القشيب الجديد.

 وما كان ذلك إلا لتنزع "حماس" جُبّة التهم الثقيلة المحيطة بها والتي تلوح كلما تم الحديث عن تسلمها مفتاح حل القضية على اعتبار ربطها بالتشدد والإرهاب والعنصرية و(اللاسامية) والمعاداة لليهود.

  مع الوثيقة الجديدة ذات الفكر المعتدل الجديد بايجابياته وسلبياته، وحيث تحللت "حماس" من بعض الأعباء الفكرانية (الأيديولوجية)، يسدل الستار على الميثاق القديم لـ"حماس"، فيما تسعى قيادتها بوضوح لتقدم نفسها للأمة وللعالم أنها القيادة الجديدة للشعب الفلسطيني-رغم أن الميدان لا يبشر بخير من أفعال "حماس" السلبية في غزة التي ترافقت مع الاعلان-ولتجلس "حماس" الأنيقة الجديدة على طاولة المفاوضات، من بوابة الأمريكان، حيث التفاوض مع العدو جائز، أو كما قال خالد مشعل نصا (الأعداء يتفاوضون).

مع الوثيقة الجديدة فإن "حماس" تطالب وطنيا بالشراكة بالحكم والقرار وبالسلطة، بل و"تقاتل" بحرفية الكلمة كما وردت على لسان مشعل من أجل هذه "الشراكة"، ما قد يعني أنها تستبدل مفهوم البديل بمفهوم الشريك، إن لم يكن في ذلك تكتيكا يشكك الكثيرون به، وإن بدا هذا الشريك شرسا ومشاكسا منذ البداية فهو يريد مفتاح السلطة والقضية والأفق العالمي معا.

انتهى

بقلم: بكر أبو بكر

www.bakerabubaker.info

https://www.facebook.com/baker.abubaker/