عاد الرئيس محمود عباس رغم الحفاوة التي استقبله بها الرئيس دونالد ترامب أقل قلقًا مما كان عليه قبل القمة، وذلك لأن الإدارة الأميركية لا تزال في مرحلة الاستكشاف والاستماع، ولم تبلور موقفًا أو خطة بعد، ما يترك مساحة ما للتأثير عليها، وخاصة أنّها برئيسها وطواقمه جاؤوا من خارج المنظومة السياسية التقليدية، وبالتالي هي ليست محكومة، بالضرورة، بالمقاربات السابقة، رغم أنها لا تستطيع أن تشذ عنها كثيرًا.
السحيجة الفلسطينيون والعرب بالغوا كثيرًا في أهمية الزيارة ونتائجها، لدرجة وصل مسح الجوخ عند أحدهم إلى حد القول إن ترامب يحتاج أبو مازن أكثر ما يحتاجه أبو مازن، ولا يتوقف هؤلاء السحيجة أمام المؤشرات السلبية، ويركزون فقط على حفاوة الاستقبال ورفع العلم الفلسطيني واستخدام ترامب كلمة "الرئيس" عند مخاطبته أبو مازن، ويتجاهلون تركيز ترامب وأركان إداراته على الدور الأمني للرئيس وللسلطة، ومطالبته للفلسطينيين بتوحيد كلمتهم ضد "الإرهاب". كما أكد الناطق باسم البيت الأبيض أن المباحثات تناولت التحريض الفلسطيني في الإعلام والمناهج الدراسية، ووقف دفع رواتب عائلات الشهداء والأسرى والجرحى.
والأخطر من كل ذلك – والذي لم يجد الاهتمام المطلوب - عدم تطرق ترامب إلى الموقف من إقامة الدولة الفلسطينية، ما يعني أن حديثه السابق عن عدم اعتماد حل الدولة الواحدة أو الدولتين ليس صدفة، مع أنه أكد مجددًا بأنه سيقوم بالوساطة بين الطرفين دون فرض حل عليهما، وسيقبل ما يتوصلان إليه.
صحيح أن ترامب اعترف بشرعية الرئيس وأشاد به، بما يعزز الدور الفلسطيني ويدفع إلى الوراء شبح الوصاية العربية على الفلسطينيين التي أطلت برأسها مؤخرًا، خصوصًا في الأيام الأولى لتولي ترامب سدة الرئاسة، فيما اعتبر أنه تجاهل للدور الفلسطيني وتغليب لما سمي "الحل الإقليمي"، ولكننا نحذر من أن نلدغ مرة أخرى من جحر إعطاء الأولوية للاعتراف بالقيادة ودورها على حساب الحقوق الفلسطينية، الذي نعاني منه منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.
ما يزيد الطين بلة أن الرئيس عباس لم يتطرق في كلمته إلى الكثير من النقاط المهمة، وخصوصًا فيما يتعلق بما يقوم به الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، وتوسيع الاستعمار الاستيطاني بمعدلات كبيرة (ولم يكرر مطلبه القديم بوقفه كشرط لاستئناف المفاوضات)، وهدم المنازل، والاعتقالات اليومية، وسحب الهوية من المقدسيين، وتفريغ مناطق (ج) من سكانها تمهيدًا لضمها، لدرجة أنه أكد أنه جاهز لإرسال وفده، وأنه يعتمد على الله ومن ثم على الرئيس الأميركي في محاولة للعب على حب ترامب للمديح، على أمل أن يترك ذلك تأثيرًا كبيرًا عليه.
وحتى إضراب المعتقلين الذي وصل إلى 17 يومًا أثناء قمة واشنطن لم يتطرق إليه عباس في المؤتمر الصحافي، مع أنه أشار إليه في المباحثات بينهما، واعتبره موضوعًا متفجرًا يتعلق بقضايا إنسانية سبق أن حصل عليها الأسرى المضربون في السابق وارتدت عليها إدارة السجون الإسرائيلية.
بناء على ما سبق، هناك خشية من الاستمرار في سياسة الارتهان للإدارة الأميركية وإهمال الدول الأخرى، التي دفعنا ثمنها غاليًا، كما يدل التغير السلبي في تصويت الدول لصالح فلسطين في الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، فهناك ترحيب مبالغ فيه بقرار اليونسكو الأخير بخصوص القدس دون التفات للتناقص في عدد المصوتين لصالحنا، وإلى أن دول أوروبا ما عدا السويد قد صوتت ضدنا أو امتنعت عن التصويت، وأنّ دولًا كانت من أقرب أصدقاء القضية الفلسطينية مثل الهند صارت تمتنع عن التصويت.
إن الرهان على إدارة ترامب خاسر، مع أهمية التعامل معها والسعي للتأثير عليها وتقليل الخسائر والأضرار، وتوظيف أي فرصة متاحة، ولكن على أساس قناعة أنه لن يكون أحسن من 14 رئيسًا سبقوه كانوا منحازين لإسرائيل لأسباب ودوافع مختلفة، ولا يوجد في الوضع الفلسطيني والعربي ما يستدعي تغيير هذا الانحياز، وهو بلا نقاش سيكون أسوأ منهم نظرًا لما يمثله وكما تدل المائة يوم الأولى والفريق الذي شكله، خصوصًا المعنيين منهم بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
مصدر التفاؤل عند البعض الفلسطيني يرجع إلى إعلان ترامب عن عزمه على التوصل إلى حل وبسرعة، واعتقاده بأن هذا الحل أسهل مما كان يتصوّر، بدليل سرعة اتصاله واستقباله لعباس، ووضعه للملف على الطاولة، ومخططه لزيارة قريبة، وعزمه على تغيير السياسة الأميركية المعتادة بخصوص المفاوضات، وطرق وكيفية التوصل إلى اتفاق بنسخ خبرته باعتباره رجل أعمال يتقن إنجاز الصفقات.
إذا سلمنا بصحة ذلك، وهذا من المبكر الحسم به، فهو يستدعي الحذر أكثر، لأن المقاربة التي سيطرحها ترامب من حيث المضمون والأهداف وإن اختلفت عن مقاربة أسلافه من حيث الشكل، فهي لن تختلف جوهريًا عن الرؤية الإسرائيلية. ويكفي للتأكيد على ذلك أنه يستبعد تمامًا القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وأن يكون الحل في إطار دولي فاعل.
في ضوء ما سبق، هناك سيناريوهات محتملة عدة:
السيناريو الأول: إبقاء الوضع على ما هو عليه، مع استئناف المفاوضات دون تجميد حقيقي للاستيطان، أو من دون استئنافها، على أساس الاستمرار بسياسة إدارة الصراع لا حله، وهذا يفضله الجانب الفلسطيني لأنه يمثل السيناريو الأقل سوءًا.
السيناريو الثاني: استئناف المفاوضات في إطار حل إقليمي (وهو المفضل إسرائيليًا حاليًا)، ويمكن أن يبدأ بعقد مؤتمر إقليمي على أن يتم فيه تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية أولًا، واستخدام العرب للضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات جديدة تسمح بإنجاح الخطة الأميركية لإقامة "ناتو" عربي أميركي إسرائيلي.
السيناريو الثالث (وهو الأسوأ): محاولة ترامب تجريب حظه في النجاح فيما فشل فيه أسلافه، وأن يعمل على إنجاز "صفقة القرن"، من خلال تقديم رؤيته للحل بعد استكمال استكشاف آراء ومواقف الطرفين، وما يمكن أن يقبلوه أو يرفضوه، بحيث يطرح الاتفاق للقبول أو الرفض دون فتح باب مفاوضات لا تنتهي. وهذا السيناريو تفضله إدارة ترامب.
وأخيرًا، من الملفت للنظر أن خالد مشعل رئيس "حماس" السابق الذي حذّر من خطورة إجراء المفاوضات المباشرة مع إسرائيل في الفترة الحالية كونها غير مجدية ومخاطرة كبيرة؛ قال في مقابلة قبل تنحيه عن رئاسة "حماس" أن ترامب يملك مقاربة مختلفة، وأنه أجرأ من سابقيه، وعليه أن يحقق السلام، ما يعكس أن الرهان الخاسر (مع الاختلاف في الدوافع والأسباب) ليس حكرًا على فريق فلسطيني، بل يشترك فيه الفريقان الرئيسيان المتنازعان، ما يؤجج التنافس والصراع بينهما، ويجعله أكثر وأكثر صراعًا على القيادة والتمثيل والسلطة، رغم أنها سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، وليس صراعًا حول كيفية وبرامج إنهاء الاحتلال وتجسيد الحقوق الوطنية.
تحتاج القضية الفلسطينية إلى مقاربة جديدة تراهن أولًا وأساسًا على الشعب، وتستنهض عناصر القوة، وإصراره على الصمود، والدفاع عن حقوقه وعلى عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، وعلى أنها جوهر الصراع في المنطقة، إذ إن جميع الأطراف تستغلها من الحكام والدول والحركات على اختلافها، بما فيها التكفيرية والإرهابية، ما يجعل القضية الفلسطينية عامل عدم استقرار يستوجب الاهتمام به لاحتوائه وتخفيف تداعياته، إن لم يمكن ممكنًا إيقافه كليًا، وهذه كلها أوراق قوة يمكن أن تستخدمها القيادة والأطراف الفلسطينية ضمن قناعة راسخة بأن اللاعب الفلسطيني سيبقى لاعبًا مهمًا، يمكن أن يتقدم أو يتراجع دوره في ضوء التطورات والظروف، ولكن لا يمكن تجاهله مهما تراجعت القضية الفلسطينية على سلم الأولويات العربية والإقليمية والدولية.
بقلم/ هاني المصري