لا يبدو أن العجز العربي المقيم، يفرّق بين نظام وحزب أو تنظيم، فالتراجعات التي شهدتها بلادنا ومنطقتنا أمام تحديات التنمية ومواجهة موانع التقدم والتنوير والحداثة، وأسبابها المختلفة ومن ضمنها وجود كيان استعمار استيطاني، طوال ما يقرب من سبعين عاماً. ولأن لكل هذا أسباباً حضارية، ومسببات ونتائج لا تختلف في مآلاتها حتى النهائية، لن يكون في الإمكان رؤية سرديات الأنظمة والتنظيمات والأحزاب في الفضاء العربي، إلا عبر شاشة ضخمة، ترينا ما لا ولن نرى، من الإنجازات التي لم تتم، والإخفاقات الناجزة، والتردي والنكوص الدائمين جيلاً بعد جيل.
وحتى لو استعملنا مقاييس معيارية متقدمة أو متأخرة، فلن نجد نتائج مختلفة عما اعتدنا على معايشته من وقائع ومعطيات تصفع وجوهنا صفعاً، ونحن نرى أن النزوع السلطوي والمنازع الاستبدادية، هي القيم العليا والمعطى الدائم، لمن يرى في ذاته سلطة لا تبارى، السلطة البطريركية التي تقارب سلطة "المقدس". ولا يختلف في هذا الدنيوي عن الديني، ونماذج الاستبداد التي نعايشها في بعض بلداننا، لا تختلف عن تلك النماذج التي نعايشها في بعض أحزابنا وحركاتنا وتجمعاتنا وأنشطتنا المدنية والدينية، حيث الكل سواء في نشدان السلطة، وما ترتجيه في مرحلة لاحقة من نصب مكامنها، وجعلها الكماشة التي تحاول أن تكمش وتحيط بما لها وما ليس لها، وما لا يجب أن يكون لها، وهذا نوع من الاستحواذ القسري والاستملاك القهري لسلطان الأمر الواقع، أي الإمساك بالسلطة والهيمنة عليها لتنفيذ برامج ومآرب أخرى غير المعلنة.
هذه هي حال السلطة في بلادنا، حتى تلك التي تنسب نفسها إلى مجال التحرر الوطني، كالسلطة الفلسطينية التي انتقلت إلى مجال آخر من مجالات الحكم الاستبدادي الفردي، ولا يختلف عنها تلك السلطة الناشئة في قطاع غزة، وهي تنتقل اليوم إلى مجال من هستيريا سلطة، لا تريد أن ترى غير ذاتها في مرآة التسلط الأبوي، باسم أيديولوجيا تحاول التأقلم على غير ما كانته منذ انطلاقتها، لتجد من الصعوبة، بل من الاستحالة أن تنتقل انتقالاً سلساً، من البراغماتية العدمية إلى نوع من براغماتية أشد عدمية، ليس من السهولة تسويقها في عالم يدرك أكثر مما أدركت "حماس" بمفاهيمها، أن برنامجاً سياسياً يستعصي على التطبيق، لن يكون في الإمكان تبريره أو تبليعه لأحد، وتجربة السلطة قبلها أسطع برهان ودليل على أن الواقع والوقائع هي الدروب المثلى للتغيير وتحقيق البرامج السياسية، وليس تسويق الأوهام والأماني والرغبات، إلا إذا وجدت إسنادها الحقيقي والفاعل من جملة مواقف تنتمي إلى مقاومة صلبة وعنيدة، أكثر من تلك التي تمّ استعمالها وتوظيفها واستثمارها للوصول إلى السلطة، وقد اتضح بالملموس أن هذا هو الهدف الذي ابتغاه "حزب الله" في لبنان، كما حركة "حماس" في فلسطين.
إن تكرار واجترار تجربة السلطة الفلسطينية، لدى "حماس"، للبدء من نقطة صفرية للوصول إلى دولة على حدود 1967، وهم آخر سيكلف الحركة الوطنية الفلسطينية أثماناً مضاعفة، أكبر من تلك التي دفعت منذ بدء تطبيق اتفاق أوسلو وحتى اللحظة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك واقع الانقسام السياسي والجغرافي الذي لا يني يتعمق يوماً بعد يوم، نكون في مواجهة كارثة حقيقية، هي نكبة أخرى ما عاد في الإمكان مواجهتها إلا بألفاظ شعارية، وحماسات "حمساوية" تحاول تجريب ما كان، إن لم يكن تخريب ما قد يكون في المستقبل. وفي النهاية ليس الفلسطينيون فئران تجارب، لمن لا يملكون الحد الأدنى من قدرة تجاوز ما جرّب من قبل، ولم يفض إلا إلى الخراب والمجهول.
الفلسطينيون أصحاب مشروع وطني يقف بالمرصاد للمشروع الصهيوني، وليسوا أصحاب سلطة هنا أو هناك، فلسطين هي المشروع المستقبلي لكل الفلسطينيين أينما كانوا، وليست موضوعاً للاستعمال والاستثمار المنفعي والزبائني، أو محاجّة للمشاريع السلطوية.
ماجد الشيخ
* كاتب فلسطيني