مبدأ الأغلبية يحمي المسيرة الفلسطينية

بقلم: عماد شقور

تعلّمت مؤخرا حكمة افريقية تقول: "اذا اردت الوصول بسرعة، سِر لوحدك؛ اما اذا اردت الوصول بعيدا، فسيروا معاً".
هذه حقيقة معروفة. لكن صياغتها على هذا النحو تظهر جمالها الكامن في الاختزال والاستغناء عن الشرح المطوّل، وتوصل المعنى بيُسر وسلاسة. واهميتها كامنة في انها تصلح (تقريبا) لكل قضية، ولكل زمان، ولكل مكان، حتى ولو كان ما نحن بصدده هو القضية الاكثر تعقيدا في زماننا على مدى القرنين: الماضي والحالي، وهي قضية فلسطين، القضية الوطنية وكذلك العربية والاقليمية والدولية على حد سواء.
هي حكمة يجدر بالرئيس الفلسطيني ابو مازن ان يعرفها، واهم من ذلك ان يعتمدها واحدا من المبادئ الاساسية التي تحكم سياسته وتصرفاته، مع شعبه الفلسطيني، بكل مكوناته، ومع امته العربية، بكل مكوناتها ايضا، ومع العالم.
صحيح ان في السير والتقدم منفردا متعة الحرية في تحديد الاتجاه والسرعة، وتحديد مكان الاستراحة ومدة التوقف وغير ذلك، لكن الانحياز والتمترس عند متعة حرية التحرك والتصرف، خاصة عندما يتعلق الامر بالعمل في الحقل العام، وفي العمل السياسي تحديدا، يصبح كارثة على الفرد المتقدم وعلى المجتمع باسره، بل ويمكن له ان يجعل ذلك الفرد هدفا للطعن من منافسيه وخصومه واعدائه، ويحوله الى عنصر معرّض للضغط، وقابل للابتزاز.
السير منفردا يعني التقدم بالسرعة التي تريد، او التي تستطيع. لكن السير في قافلة يفرض التقدم بموجب سرعة الاكثر بُطأ من بين مكونات القافلة. لا الخيار الاول مثمر، ولا الخيار الثاني مفيد. والحل، كما هو الحال دائماً، في الوسط. والوسط هنا هو الخروج من دائرتَي البديلين: بديل الفردية والتفرد، وبديل الاجماع، شبه المستحيل، والاقرب الى الشَّلل، الى دائرة بديل ثالث ممكن وميسور، هو اعتماد مبدأ الاغلبية والاقلية كمبدأٍ يحمي المسيرة من شطط الفردية، من جهة، ومن خطل التقدم بسرعة هي اشبه بالقُعود، من جهة ثانية.
من هذا الشرح النظري والايحائي العام، ننتقل الى الكلام المباشر الصريح ونصل الى التفاصيل:
منذ حزيران/يونيو 2007، شهر الانقلاب الدموي في غزة، انكشف الحجم الهائل للسوء في الوضع الفلسطيني امام الجميع، وانكسرت صخرة الوحدة الوطنية، وتعرضت خيمة منظمة التحرير الفلسطينية الى عاصفة قوية كادت تطيح بها.
لم تكن تلك المحنة الدموية اول محاولة لتمزيق نسيج المجتمع الفلسطيني المتماسك تحت عباءة م.ت.ف.. سبقتها محاولات اسرائيلية عديدة، من جهود بذلها موشي ديان، وزير الدفاع الاسرائيلي في حينه، لاستمالة رموز فلسطينية في نابلس بداية، (الشاعرة الفلسطينية الكبيرة الراحلة فدوى طوقان، مثالا، والتي رفضت اغراءات ديان)، الى جهود بذلها الجنرال شارون وغيره من واضعي السياسة في اسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، والرامية الى الغاء صفة منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، باختراعه "روابط القرى" من الخليل ومحيطها بداية، مصطفى دودين، مثالا، والذي فشل تماما في خلق جسم فلسطيني جدّي ينافس منظمة التحرير، وصولا الى اجراء انتخابات بلدية، على امل تشكيل اطار قيادي محلي بديل عن المنظمة، وكانت المفاجأة الصادمة لاسرائيل عندما وضع جميع اعضاء هذا الاطار المنتخب انفسهم تحت قيادة منظمة التحرير، وانتقمت اسرائيل منهم باغتيال بعضهم وابعاد بعضهم الآخر. وغير هذه المحاولات الاسرائيلية الثلاث محاولات عديدة اخرى اقل اهمية، انتهت جميعا الى مربّع الفشل الكامل.
الا ان اسرائيل لم تستسلم، ولم توقف محاولاتها التخلص من منظمة التحرير والغاء دورها، كمقدمة لالغاء وجودها ذاته، قبل ان تحقق الهدف الوطني المرسوم لها. وهكذا، (حسب مصادر اسرائيلية)، بادرت اسرائيل الى محاولة ضرب "الوطنية الفلسطينية" بـ"الاسلام السياسي الفلسطيني"، ممثلا بالذراع الفلسطيني لجماعة الاخوان المسلمين ("العابرة للدول والقارات"، كما يحلو للصديق الكاتب حمادة فراعنة تكرار وصفها). وهكذا شجعت اسرائيل، واسحق رابين تحديدا، عندما كان وزيرا للدفاع في حكومة اسحق شامير عام 1987، ذراع الاخوان المسلمين في فلسطين، وفي غزة على وجه الخصوص، وبعد انطلاق الانتفاضة الاولى في ذلك العام، للمبادرة الى ممارسة النشاط السياسي والتنظيمي، لتشكيل بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، ووضع العقيدة الدينية في مواجهة الوطنية الفلسطينية.
احرزت هذه الخطوة الاسرائيلية قسطا وافرا من النجاح. وكل زج للدين، أي دين كان، في العمل السياسي يحظى بنقطة انطلاق متقدمة جدا في أي تنافس سياسي، حيث يستند هذا الى موروث ايماني راسخ لدى قطاعات واسعة جدا من الشعب، واكثر من ذلك انه يدخل المنافسة متمتعا بتوفر مراكز دينية ومعابد، تحيطها وتحميها هالة من التقديس والحرمة، وتشكل قواعد ومراكز تنظيمية راسخة اكثر من قواعد أي حزب او تنظيم سياسي آخر. ويكفي هنا التذكير بمثال واحد، هو مقارنة ما انتهت اليه حركتا ظاهر العمر في فلسطين، والمعنّيين في لبنان، وحركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، علما ان تلك الحركات الثلاث انطلقت، متزامنة، في القرن الثامن عشر، وها هي حركة ابن عبد الوهاب، "الوهّابية"، ما زالت قائمة وفاعلة حتى يومنا هذا، في حين ان الحركتين الأُخريين، لا تكادان تحتلان اكثر من فقرة قصيرة في احد فصول كتب تاريخ المنطقة.
منعا للاطالة في هذا الموضوع، نقفز الى المحطة اللاحقة الاهم، وهي الانقلاب الدموي في غزة صيف العام 2007، الذي شكل انسحاب الاستعمار الاسرائيلي من غزة، دون أي تنسيق مع الشرعية الفلسطينية استدراجا وتشجيعا لذلك الانقلاب، وما ترتب عليه من انقسام وفصل بين شطري ارض دولة فلسطين، والذي لم تفلح كل الجهود الفلسطينية والعربية في وضع نهاية له حتى يومنا.
خلال هذا العقد الحزين في تاريخ فلسطين، تفاقم الامر وازداد سوءاً،بسبب تبني الشرعية الفلسطينية وممارستها سياسة التهميش والإبعاد والطرد، التي طالت العديد من الفصائل الفلسطينية، والافراد ايضا، في "فتح" وبين صفوف المستقلين، وبات تمثيل "الشرعية الفلسطينية" لمجمل المجتمع الفلسطيني محل شك وتشكيك من قبل نسبة كبيرة من الفلسطينيين انفسهم، ومن قبل اعداء الفلسطينيين طبعا، واولهم اسرائيل وحكومتها اليمينية العنصرية، واصبح التعامل مع وفود "الشرعية الفلسطينية"، سواء للمفاوضات او غيرها، خاضعا للتشكيك في حقيقة تمثيلها للشعب الفلسطيني.
من هنا تأتي اهمية النظر الى "وثيقة حركة المقاومة الاسلامية حماس"، التي اصدرتها مطلع الشهر، قبل ثلاثة ايام من اللقاء الاول الذي جمع ابو مازن وترامب في البيت الابيض.
هذه الوثيقة، (ولنا ملاحظات كثيرة جدا عليها، قد تأتي مستقبلا مناسبة لعرضها)، تضمنت اعترافا مُضمراً من "حماس" بفشل تشكيلها بديلا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورغبة منها في ان تنضوي في اطارها، وهذا يعني فتح باب عودة المنظمة الى زخم "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني".
تستدعي المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، في اعتقادي، ضرورة ان يقتنص الرئيس ابو مازن هذه الفرصة، ويعطي لاعادة لملمة الوضع الفلسطيني الداخلي الاهمية التي يستحقها، على الصعيد التنظيمي (فتح)، وعلى الصعيد الوطني (منظمة التحرير الفلسطينية). ونعود للتذكير بـ"اذا اردت الوصول سريعا، سِر لوحدك؛ اما اذا اردت الوصول بعيدا، (في تحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية)، فسيروا معاً".

٭ كاتب فلسطيني