سكان بلا دولة… ما العمل؟

بقلم: جواد بولس

استنكرت الكتلة البرلمانية للقائمة المشتركة، تبنّي اللجنة الوزارية للتشريع "قانون القومية" الذي بادر إليه، قبل أربع سنوات، رئيس الشاباك الأسبق وعضو الكنيست الليكودي الحالي آفي ديختر. وُصف البيان القانون المذكور على أنه من "أخطر القوانين التي جرى طرحها في العقود الأخيرة"، وذلك لكونه نسخة عن قوانين (الأبرتهايد) التي سادت في جنوب أفريقيا، فمجيئه يهدف إلى تقنين سياسة الحكومة المعلنة والممارَسة منذ سنوات، والتي تسعى لجعل دولة إسرائيل والبلاد ملكًا للشعب اليهودي، وله وحده فقط، على ما يستدعيه هذا المبنى التشريعي من تبعات على المواطنين العرب تحديدًا وغير اليهود.
ربما أصابت القائمة المشتركة بنعتها هذا القانون "بالأخطر"، وذلك ليس لمضامينه الخطيرة فقط، بل لتعريفه كقانون أساس ذي المكانة الدستورية الأعلى المميزة وتفوقه على أي قانون عادي، هذا علاوة على تتويجه لسلسلة طويلة من التشريعات العنصرية التي سنتها الكنيست على مدار السنوات الماضية مواكَبة مع عملية تداخلت وتكاملت فيها التغيّرات الاجتماعية الجارية مع الإفرازات السياسية الجديدة داخل المجتمع الإسرائيلي، وأفضت، في الواقع، إلى تشكل منظومة حزبية سياسية "سُكّت" من معادن مغايرة عمّا ألفناه في الماضي، وأتاحت لركائزها وسفرائها التمكن من مفاصل الحكم بسلطاته المختلفة، وأهمها في الكنيست، "أم السلطات"، التي هيمن اليمين الجديد عليها بصورة مطلقة، مما أكسبه قوة قادرة على تمرير ما يحلو له من قوانين، وفرصًا لتوثيق سيطرته على السلطة التنفيذية، من أعلاها وحتى قواعدها العريضة، وهيأت له، كذلك، سهولة التغلغل في أحشاء الجهاز القضائي، وهي مهمة بات تحقيقها بالكامل قاب مواجهة أو أكثر، لكنها مضمونة الخواتيم، كما صرّحت بذلك وزيرة العدل التي لا تخفي مآربها، بل تتعمد إشهارها في كل مناسبة عن قناعة بقدرة معسكرها على إطباق أنياره فوق رقاب من سيبقون خارج ساحات الملك ولا يسحجون بعِصيّه.
لقد تزامن هذا النشاط التشريعي مع موجة اعتداءات ميدانية قامت بها مجموعات يهودية ضد أهداف عربية، فسوائب عصابات "تدفيع الثمن" أغارت على ممتلكات في حي شعفاط شمالي القدس، وتسببت بأضرار جسيمة لعدد من المركبات، وبالتوقيع نفسه اعتدوا على ممتلكات في قرية الناعورة القريبة من مدينة الناصرة، وسبق ذلك كشف أجهزة الأمن الإسرائيلية عن اعتقال ستة أعضاء في خلية يهودية بشبهة تعرّضهم للمواطنين العرب بهجمات تسلحوا فيها بالسكاكين والهراوات والعتلات.
القائمة طويلة ومؤلمة، فتاريخ هذه الجرائم المتواصلة يمتد إلى سنوات عدة مضت، وتنفيذها تزامن دومًا، كما في هذه الأيام، مع حملات تحريض أرعن يشنها قادة اليمين ضد المواطنين العرب وضد قياداتهم ومؤسساتهم التمثيلية ويصحبها، كذلك، تمرير قوانين تشكل في الحقيقة مظلة رسمية تسوغ تلك الأفعال الإجرامية وتحمي منفذيها من معاقبة القضاء.
استرسلت قيادات الجماهير العربية وكل من شجب مثلهم "قانون القومية"، في تعدادهم لمثالبه ولانعكاساته التطبيقية الكارثية على مستقبل الجماهير العربية في البلاد، حتى أن القائمة المشتركة عدّت في بيانها المذكور دعم الحكومة للقانون بمثابة "إعلان حرب على المواطنين العرب وعلى مكانتهم وحقوقهم الأساسية" لأنه في الواقع يشرعن التفرقة العنصرية، ويكرس وجود نوعين من المواطنة، ويضفي على ذلك حالة دستورية فاضحة، فاليهود سيصبحون أسيادًا بحكم القانون، والمواطنون العرب سيبقون، بحكمه أيضًا، على هامش الدولة وأرصفتها العارية، أو كما أكد عضو الكنيست د. يوسف جبارين: "فإن القانون يتنكر لحقنا الأساسي بمواطنة متساوية في وطننا وبحقوقنا الجماعية، ويضعنا في خانة الغرباء في أرضنا.. بل يجعلنا سكانًا بلا دولة.." .
كلام صحيح وتشخيص سليم، لكنها خطوة متوقعة ونهاية "طبيعية"- أو قل حتمية لما سبقها من ممارسات عنصرية رسمية استشعر بعضنا، منذ سنوات، ما تنذر به، ولما سبقها. فقد سبقتها كذلك اعتداءات شعبية سافرة حذرنا من خطورة تفشيها الطوفاني، ومن إغفال مؤسساتي صارخ لها عرّى سقوط السدود وانهيار منظومة القيم وصمامات الأمان التقليدية، ولأجل ذلك كله كانت صرختي منذ سنوات: احذروا، إنه منزلق خطر، وإذا ما أعددنا العدّة له فلسوف نصحو ونحن في داخل الجبّ أو قد نصير حطبًا لنار تلك الحرائق.
لقد قلنا وكررنا مرارًا، قبل تشكيل القائمة المشتركة وبعدها، إننا نشهد عملية منظمة لسحقنا وللقضاء على وجودنا الجمعي وسلب حقوقنا الفردية، فأمام أعيننا كانت تولد نخب سياسية عنصرية مطعمة بجينات خبيثة مشبعة بالحقد والعنصرية، وكانت هذه تهيئ أجواءً مخمرة بشهوة الصياد للانقضاض على فرائسه، وتبني بكثير من الإمعان والرعونة حاضنات مجهزة لتفقيس فراخ الشر الجديدة التي كانت بدورها تنتج مخلوقات تطارد العرب وتعتاش على كراهيتهم وبغضهم، وتتكاثر بانشطارات متسارعة مكوّنة، بدورها، قيادات مطورة وأخطر في خصومتها وخصوبتها؛ لقد حدث ذلك ونحن، المواطنين العرب في الدولة، عاجزون عن ابتكار وسائل الوقاية الكافية، بينما كانت أعين بعض قادتنا شاخصة نحو ضفاف بعيدة، ومنهم من انهمك، كل لدوافعه، في استرضاء "آيدوله"، فهذا يمجد "بَـشّاره" ويدعو له بالنصر أسدًا، وذاك يستمطر رضا أردوغان وينتظر بعثه سلطانًا، وآخر يتمسح بعباءة الشيخ وينتشي ببخوره ومرّه ولبانه، وأخوه يبكي على نيل وعلى فرس ضاعت وضاعت قبلها "ساحة البلد"، وبين سيسي ومرسي سقطت قلاعنا وتهشمت "الكرسي".
هكذا بدت أحوالنا حين حسبنا لوهلة "هُنانا" هناك، فأفقنا اليوم على بيان يفيدنا أن دولتنا تعلن الحرب علينا!
فما العمل إذًا وكيف تكون نجاتنا وخلاصنا والنصر؟
لو عدنا إلى بيان القائمة المشتركة لقرأنا تأكيدًا على أنها "بصدد إطلاق حملة للتصدي للقانون برلمانيًا وشعبيًا ودوليًا .." هكذا من دون أن يزودونا بتفاصيل عن طبيعة تلك الحملة ولا عن آليات إقلاعها، بل أنهم اكتفوا باقفال بيانهم بدعوة عشوائية "إلى تشكيل أوسع تحالف في الكنيست وخارجها لإفشال القانون" من غير تحديد معالم ذلك التحالف ولا من سيكون ضمنه أو نوعية أصماغه السياسية.
إغفال التطرق إلى هذه العناصر يجعل بيان القائمة المشتركة مجرد تصريح إعلامي محشو بشعارات فضفاضة لن تتحول إلى مجهود نضالي حقيقي من شأنه أن يرتقي إلى مستوى الخطر ولا أن يشكل بداية تحدّ له، وقد يكون الحرب بعينها!
من جهة أخرى قرأنا في بيان صادر عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحزب الشيوعي الإسرائيلي دعوةً صريحة إلى" إقامة أوسع تحالف يهودي-عربي في مواجهة الاحتلال والفاشية" وهو موقف تاريخي ميّز الجبهة الديمقراطية عن غيرها من الأحزاب والحركات السياسية العربية الناشطة على الساحة المحلية، لكنه افتقد في السنوات الأخيرة لبريقه ووهجه، حتى أمسى موقفًا ملتبسًا وضبابيًا أو توشيحًا باهتًا على صدر بيتهم وتحول بعد إقامة القائمة المشتركة إلى يافطة زينة سياسية ليس إلا؛ فمعظم شركاء الجبهة في القائمة لا يؤمنون، مثلها، بضرورة التحالف مع القوى اليهودية، ولدى بعضهم شروط حاجبة لإقامة مثل هذا التحالف وآخرون لن يقبلوا به عن عقيدة ومبدأ.
فإذا قرأنا البيانين بواقعية سياسية وبدون "لف ودوران"، وحققناهما على تلك الخلفيات، سنعرف لماذا تكتفي القائمة المشتركة بنشر مواقفها بخطابية فضفاضة، بينما تعلن الجبهة دعوتها الصريحة "لإقامة تحالف يهودي عربي يواجه الاحتلال والفاشية"، أما في الواقع فسيبقى بيان المشتركة مجرد صرخة تطلق في الهواء، وسيحال بيان الجبهة إلى غرفة التخدير أو الإنعاش، لأن إجماعًا عربيًا وطنيًا يؤمن أن الشراكة في القائمة أولى وأهم وأنفس من كل برنامج نضالي حقيقي على الأرض.
وكما علمنا تاريخ العقدين الفائتين، سنبقى الخاسرين نحن، عموم الجماهير التي تنام على وقع البساطير وتصحو على نداء القادة والبشرى بأنها الحرب على الأبواب!
فما العمل؟
لا شك ان تشكيل القائمة المشتركة يعدّ إنجازًا في ظروف إقامتها، لكنها، ولإشكالات بنيوية وسياسية عميقة لم تستطع تخطيها ولا تذليلها، وضعتنا إزاء ظرف عبثي خطير، فقادتها أدخلونا في حلقة سياسية مفرغة، ويدورون فيها حول أنفسهم، ولا ينجحون في إنتاج حالة نضالية ذات وقع وقيمة، والأخطر أنهم فشلوا في اجتراح خطاب سياسي موحد ومؤثر وقادر على اختراق جدران البازلت التي وضعتها الدولة حولنا.
لا يوجد لدينا وقت للترف النزق ولا للمغامرات الرومانسية الثورية، فوفقًا "لقانون القومية" أصبحنا فعلًا "سكانًا بلا دولة"، وأعادتنا "البينتية الحديدية" إلى عوالم الاحتمالات الأثيرية، فالحاضر قلق وشفيف والمستقبل كالريشة خفيف، وكل الجهات مشرعة أمام مراوح "الترامبيزم" الوليد وأشقائه من عرب وترك وعجم!
سؤالي لكم، وقبل أن تذهبوا الى نومكم هذه الليلة، ماذا أنتم فاعلون في الصباح؟ لا تصدروا بيانًا ولا تتناسروا وتتبوشقوا وببساطة ابدأوا بخطوة واحدة ودلونا على السبيل!
يتبع…

جواد بولس
كاتب فلسطيني