عن حقائق الصراع بعد 69 عاما على النكبة

بقلم: فايز رشيد

 

تأتي الذكرى المتجددة للنكبة، التي تحمل الرقم 69 في ظل حالة فلسطينية قاسية، من عناوينها إضراب أسرى الحرية والكرامة، الذين دخلوا شهرهم الثاني، وسط تدهور حالة العشرات منهم، ونقل العديدين إلى خيام تسمى ظلما وعدوانا مستشفيات، ووسط إصرار وتعنت صهيوني على عدم التفاوض معهم، ولا الاستجابة لمطالبهم الإنسانية العادلة.وفي ظل تنكيل مستمر تمارسه بحقهم إدارات السجون، وعزل قادة الإضراب في زنازين انفرادية.
لقد حاولت سلطات الاحتلال فتح قناة للتفاوض مع القائد أحمد سعدات، لكنه وبكل الإباء رفض رفضا قاطعا التفاوض معها، وأبلغ الجلادين أن التفاوض يتم مع لجنة قيادة الإضراب، ومع القائد مروان البرغوثي. هذا مثَل كبير على رفض أسرانا البواسل فكّ لحمتهم الوطنية الفلسطينية الأصيلة، وبهذه الإرادة الفولاذية فإنهم حتما منتصرون.
في الذكرى 69 للنكبة علينا إدراك الحقائق الصهيونية، التي تبلورت على مدى ما يقارب سبعة عقود، ولعل أبرزها يتلخص في ما يلي:
أولاً: إن المشروع الصهيوني للمنطقة العربية، وبفعل مستجدات واكبت تطور الصراع فيها، وبحكم حقيقة تتمثل في فشل إسرائيل في إقناع غالبية يهود العالم في الهجرة إليها، فإن مشروع إسرائيل في بناء دولتها من الفرات إلى النيل، وإن غاب عن أذهان الساسة الإسرائيليين، باستبداله من الاحتلال الجغرافي إلى السيطرة الاقتصادية وبالتالي السياسية، لكنه يتعمق في أذهان اليمين الإسرائيلي المرشح لازدياد قاعدة وهرم تأثيره في الحياة السياسية والاجتماعية الصهيونية.
ثانياً: إن التحولات الجارية داخل إسرائيل، مذهلة في مضامينها، وكلها تشي بارتفاع نسبة الأصوليين بين اليهود إلى مستويات قياسية، فقد أوضح بحث جديد أجرته جامعة حيفا ونُشرت نتائجه التي تقول: إنه في عام 2030 فإن نسبة المتدينين سترتفع، وستتراوح بين 62% – 65% وهذا سيعد انقلاباً هائلاً في الحياة المدنية الإسرائيلية. ليس من حيث تأثيراته في الحياة الاجتماعية فحسب، ولكن بالضرورة أيضاً، تداعياته التأثيرية على السياستين الداخلية والخارجية، وتحديداً على الصراع الفلسطيني العربي- الصهيوني، ما يعني أننا سنواجه إسرائيل أكثر تطرفا وعنصرية وعدوانية مع مضيّ المزيد من السنوات على إنشائها، أكبر بكثير من عدوانيتها الكبيرة الحالية.
ثالثاً: المتتبع لمسيرة الداخل الإسرائيلي، يلاحظ وبلا أدنى شك، أن إسرائيل تتفنن تماماً في المزاوجة بين القوننة العنصرية والنهج السياسي بما معناه، أدلجة السياسة الخارجية بقوانين، في ما يتعلق بالصراع مع أعدائها، وأدلجة السياسة الداخلية بقوانين أخرى تعمل على تحصين إسرائيل من تأثيرات العرب في داخلها من جهة، ومن جهة أخرى تعبّد الأرضية لبناء هيمنة يهودية. بالتالي فهي تسن مزيدا من القوانين العنصرية (بقراءاتها الثلاث في الكنيست). وكانت الأعوام الأخيرة مميزة في فرض مثلِها، إضافة إلى خلق واقع اقتصادي – اجتماعي فيها للعرب، يصبح معه استمرار العربي في العيش في بلده الفلسطيني مستحيلاً، وبالتالي فليس أمامه سوى الهجرة.
إسرائيل ورغم قوننتها للعنصرية (على شاكلة النظام العنصري الأبيض السابق في جنوب إفريقيا) تبقى في عرف الدول الغربية والكثيرين الآخرين (دولة ديمقراطية). ففي الوقت الذي أدان فيه العالم عنصرية جنوب إفريقيا وروديسيا، يقف صامتاً أمام العنصرية الصهيونية.
رابعاً: السعي لتحقيق الاعتراف الدولي والعربي والفلسطيني بــ(يهودية دولة إسرائيل) لقد مارس العالم خلطاً (مباشرة أو بطريقة غير مباشرة) في عدم التمييز بين اليهودية كديانة (مثل الإسلام والمسيحية) وبين اليهودية كقومية، وهو ما حرصت الصهيونية منذ بداية تأسيسها على تحقيقه، فقررت في مؤتمرها الأول إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين. جاء وعد بلفور في عام 1917 ليؤكد هذا الهدف، وكذلك نص قرار التقسيم للأمم المتحدة في عام 1947 على "إنشاء الدولة القومية للشعب اليهودي". إسرائيل في بداية تكوينها لم تركز على تحقيق هذا الشعار لاعتبارات تكتيكية ليس إلاّ عنوانها/ ترسيخ دعائم دولتها أولاً، ومن ثم وحين تساعدها الظروف تطرح الشعار للاعتراف به دولياً. ذلك للتغطية على أية خطوات عنصرية مستقبلية تقوم بها من خلال المزيد من الحرمان والتضييق على العرب فيها (في منطقة 48) وتجريدهم من كل حقوقهم، وصولاً إلى إيجاد الحلول الملائمة والمناسبة لخروجهم طائعين منه.
خامساً: في ما يتعلق بسقف التسوية مع الفلسطينيين والعرب، جاء الشرط الإسرائيلي الجديد على الجانب الفلسطيني بوجوب الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، مقابل الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية المنقوصة السيادة، والمحكومة بشروط قابلة للازدياد، هذا الأمر سيتم فرضه على النظام الرسمي العربي أيضا، وقد بدأنا نشهد فصوله.
أما حقائق الوجه الآخر للصراع، وهو حُكما الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني، وليس النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي كما يردد البعض، خاصة عندما جاءت الإثباتات الشعبية الجماهيرية العربية من الكثير من العواصم والمدن العربية، وهي تحيي النشاطات تضامنا مع أسرى الحرية. حملات تضامن واعتصامات في الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة 48، وفي الشتات، الأمر الذي جعل من إحياء الأمة العربية لأشكال التضامن أمرا مميزا، وهو ما يعني أن الصراع بوجهيه الوطني والقومي عاد إلى مربعه الأول، فالجماهير العربية، ورغم أوضاعها الصعبة، لم تُسقط القضية الفلسطينية عن أولويات أجندتها، وستظل قضية فلسطين قضيتها المركزية.
من جانب ثانٍ، رغم قوانين العدو الصهيوني العنصرية التي سنّها الكنيست، يتحدى أهلنا داخل الخط الأخضر، إسرائيل في كل المناسبات الفلسطينية ( بما فيها التضامن مع الأسرى) وهو ما يشي بأن إسرائيل كما عجزت عن (أسرلة) هؤلاء طيلة 69 عاماً، رغم كل محاولاتها لمحو هويتهم الوطنية والقومية، ثقافةً وانتماء ووجوداً، فستعجز عن كسر إرادتهم، وهو ما يؤكد أن الفلسطينيين في الوطن والشتات، يوحدهم الحلم والأهداف، كما الانتماء، وهم ماضون في نضالاتهم من أجل تحقيق طموحاتهم الواحدة وأهدافهم الوطنية.
لعل ما قلناه:هو من أبرز الحقائق في الخاص الوطني الفلسطيني والعام القومي العربي، فمهما حاول البعض الفصل بين المسألتين، فإن أكبر الأدلة على استحالة إيجاد الشرخ بينهما هو، الوضع الشعبي العربي الحالي، في ما يتعلق بالخصوصية الفلسطينية. ولعل من أبرز الحقائق النضالية الفلسطينية والعربية الأخرى:
أولاً: إن حق العودة في الذهنية الفلسطينية يترسخ يوماً بعد يوم. ثانياً: إن القرى الـــ537 التي هدمتها إسرائيل في منطقة 48 في محاولة واضحة لمحوها من الذاكرة الفلسطينية، تماماً كما تهويد الأسماء الذي تمارسه منذ إنشائها وحتى اللحظة، على المدن والقرى العربية والشوارع والأزقة في هذه المدن والقرى والأماكن، بقيت خالدة في الذاكرة الفلسطينية، ليس كنوستالجيا فقط، وإنما إصرار على إعادة بناء هذه القرى إلى أرض الواقع، وعودة أهلها إليها.
ثالثاً: إن الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، هو وحدة واحدة، رغم اختلاف معاناته الخاصة، باختلاف مشاكل الجغرافيا التي يتواجد عليها، وإن معاناته العامة المتمثلة في الهموم والأهداف الوطنية والنضال من أجلها، هي هموم وأهداف ونضال واحد.
رابعاً: إن الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده سيبقى الضمانة الأساسية الأكيدة على التمسك بالأهداف والحقوق الوطنية الفلسطينية في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على كامل ترابه الوطني، خاصة في ظل انسداد الآفاق أمام التسوية (إلاّ الحكم الذاتي)، وانعدام الفرص أمام كافة الحلول الأخرى.
خامساً: إن النكبة والنكسة والمذابح والاعتقال والاغتيال وهدم القرى وسرقة الأرض، وكافة أشكال الملاحقات والمضايقات والتجويع والمنع من العمل وغيرها من مظاهر المعاناة الفلسطينية الطويلة، منذ ما قبل النكبة وحتى اللحظة، والمؤهلة للاستمرار طالما بقي الأعداء، لم ولن تستطيع إرهاب الفلسطينيين، مثلما يقصد الأعداء، فبدلا من ذلك ازداد الفلسطينيون تمسكاً بهويتهم وحقوقهم وأهدافهم وإصرارهم على تحرير وطنهم، ورفضهم لكل ما هو بديل عن الأرض الفلسطينية. هم كانوا، وهم الآن، وسيظلون الأوفياء لوطنهم مهما غلت التضحيات، ورغم كل أشكال المعاناة، ورغم كل المؤامرات التي تستهدفهم وطناً وأرضا وشعباً.

 د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني