عودة فلسطينية لتجارة الأوهام

بقلم: محمد أبو مهادي

يحاول رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس" أن يقنع الفلسطينيين أن تحوّلاً كبيراً قد طرأ في السياسة الخارجية الأمريكية اتجاه القضية الفلسطينية بعد انتخاب "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وسارع بحرق مراكب مثقوبة أصلاً مع حركة حماس التي تشارك محمود عباس نفس الرهان وتقدمت بوثيقة سياسية تنازلت فيها عن مسلمات كانت قد تبنتها منذ نشأتها حتى وقت قريب، ظنّت أن هذه الوثيقة ستقدمها بشكل أفضل لإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي، وانها قد تكون بديل تفاوضي جيد يمكن التعامل معه بدل التلويح بشطبه في إطار سياسة مكافحة الإرهاب التي كانت عنواناً بارزاً في الحملة الانتخابية للرئيس ترامب.

حركة حماس ورئيس السلطة محمود عباس حرصا على عدم توتير الأجواء الأمنية مع اسرائيل قبيل زيارة الرئيس ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط بما فيها اسرائيل، بحيث يظهر للعيان أن هناك تواطؤاً على معركة مطلبية يخوضها الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية ومحاولات لجم مستمرة لكل حراك شعبي فلسطيني يتفاعل مع إضراب الأسرى منذ قرابة خمسة وثلاثون يوماً، إضافة لإشغال المجتمع في قضايا من نوع الكشف عن قاتل الشهيد مازن فقها والتقليصات الحاصلة على رواتب موظفي السلطة والتهديدات التي تبعتها على لسان رئيس السلطة محمود عباس وعدد من فريق قيادته.

سأفترض ما يفترضه محمود عباس وحركة حماس، أن هناك تحولاً في السياسة الأمريكية تجاه الشعب الفلسطيني، وأن الرئيس ترامب سوف يجمع الفلسطينيين على طاولة مفاوضات هدفها إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي فيما بات يعرف "بالصفقة" التي ستبدأ بثلاث قمم إسلامية وعربية وخليجية، سأتجاوز أيضاً الحديث عن مضمون هذه الصفقة الموعودة وأن كانت تستجيب لبرنامج السلام الذي تبنته منظمة التجرير الفلسطينية أو تقترب من مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية للسلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين في العام 2002 وتبنتها جامعة الدول العربية كأساس لحل الصراع العربي الإسرائيلي، لأنهي الافتراض بتساؤل عن حقيقة الموقف الإسرائيلي من كل ما يجري، ومستوى استعدادها لتقديم تنازلات تعتبرها "مؤلمة" لصالح الشعب الفلسطيني، هل ستفعل ذلك، ولماذا، وما هو ثمن قبولها بهذا الأمر إن فعلت؟

الواقع يقول أن سياسات الدول والمفاوضات والتنازلات تبني على مصالح وموازين قوى، الطرف الذي يمتلك عناصر قوّة أكثر هو من يحقق نتائج أكثر، فإسرائيل تعيش أفضل مراحل استقرارها منذ نشأتها حتى الآن، والفلسطينيون والعرب يمرون بسلسة أزمات اقتصادية وأمنية إثر الانقسام ونتائج ما أطلق عليه "الربيع العربي"، معارك مشتعلة في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وسيناء، تفجيرات لم تسلم منها السعودية وبعض بلدان الخليج العربي والمغرب العربي، رغم ذلك يجري زراعة وهم جديد عنوانه صفقة سياسية عربية إسرائيلية مقابل تحجيم النفوذ الإيراني أو توجيه ضربة قاسمة لنظام الحكم في إيران بعد أن يتراجع العالم عن الاتفاق النووي الإيراني مع المجموعة 5+1 عام 2013 الذي تخلت بموجبه إيران عن طموحاتها النووية مقابل فك الحصار الاقتصادي عنها، مصالح اسرائيل متحققة من هذا الاتفاق رغم تحفظها عليه في حينه، إذا سلمنا بأن إيران كانت خطراً استراتيجياً حقيقياً على أمن اسرائيل فالخطر انتهى بتوقيع الاتفاق، وبقدر تحقق المصالح الإسرائيلية من الاتفاق سالف الذكر مع إيران فمصالحها الأمنية مكفولة في عدة اتفاقيات عقدت مع الفلسطينيين ومصر والأردن وضمنياً مع لبنان وسوريا، إضافة لجملة من المصالح الاقتصادية الإسرائيلية المتحققة مع بلدان عربية بعضها علني وبعضها الآخر غير معلن، العالم ملتزم بأمن إسرائيل ولن يتركه عرضة للتهديد، أمريكا تحديداً موقفها استراتيجي من هذه المسألة لن يتأثر حتّى لو شاغلتها اسرائيل بعض الوقت في بعض المواقف، المشاغلة لن تعدو كونها علاقات دلال بين واشنطن وتل أبيب.
إعادة إنتاج الأوهام على الشعب الفلسطيني ستلحق ضرراً كبيراً بالقضية الوطنية الفلسطينية، لا وقت يصرفه الفلسطينيون على وهم أسمه المفاوضات مع حكومة استيطان وقتل تحكم في اسرائيل، في العشرين سنة مفاوضات القادمة لن يبق شبراً واحداً من الأراضي الفلسطينية ليتم التفاوض عليه، وربما لن يبق الشعب على أرضه إذا ما استمرت السياسات الاقتصادية القمعية التي ينتهجها فرعي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مسألة الثبات ستكون موضع شك هذا إذا لم يدخل الفلسطينيون حقبة أكثر ظلامية من الانقسام، تفتك نهائياً بالمجتمع الفلسطيني جراء ما فعله وسيفعله طرفي الانقسام الفلسطيني، تستفيد منها اسرائيل وتحقق حلمها في دولة نقية من الفلسطينيين داخلها أو جوارها.
الوهم لن يأت بالحرية والاستقلال للفلسطينيين، والرهان على حسن نوايا الآخرين في العمل السياسي دائماً كان رهاناً خاسراً ومكلفاً، لا خيار أمام الفلسطينيين سوى استعادة وحدة النظام السياسي، وحدة أعمق في مضامينها من الوحدة الفصائلية، مرتكزها الأساسي احترام الشعب وتمكينه من ممارسة تقرير مصيره وتوسيع خياراته السياسية والكفاحية وتعزيز ثباته على الأرض، هذه القاعدة الأساسية للرهان، ودون ذلك مجرد سراب.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]