فما الذي قاله ولم نتعود على سماعه من قبل، بهدف واضح ألا وهو إغاظة الأعداء.. بضع كلمات تلفظ بها عن الصبر أثارت معها حفيظة الشارع واستفزته!! فهل أخطأ د. البردويل فيما قاله في تلك الوعظيِّة أم هي السياسة التي لكلماتها حسابات أخرى؟!
لا شك أن موقع د. البردويل اليوم كعضو مكتب سياسي هو ما حرَّك الناس لتطاله بألسنتها الجارحة، وبتلك التعليقات التي خرج بعضها عن سياق الأدب، وإن كان ذلك يمكن تفهمه واستيعابه بما أورده القرآن في هذا المعنى (لا يُحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم)، حيث إن أحوال الناس بلغت أوضاعاً غير مسبوقة من الفقر والعوز والحاجة، وتراجعت مشاهد الأمن والاستقرار، وتزايدت نسبة البطالة والضياع بين الشباب، وتردي منظومة القيم والأخلاق بأشكال تبعث على الخوف والقلق من المستقبل.
صحيحٌ، أن د. البردويل لم يتحدث بتلك اللغة من موقع أنه شيخ أو إمام مسجد تابع لوزارة الأوقاف، ولا كإعلامي في فضائية الأقصى، ولا كمحلل سياسي يجتهد الرأي والموقف، وإنما تحدث بلغة من هو في موقع صانع القرار، الذي لكلماته معانٍ ودلالات، أصابت أوجاع الناس وعضَّت جراحهم، فخرجت تلك الأصوات تعبر عن احتجاجها ورفضها وتمردها بهذه القوة الصاخبة.
إن من حق الناس أن تقول: إن من يطلب منا الصبر يجب أن يعيش مثلنا، وأن يكابد أعباء الحياة وقسوتها، والتي أحاطت بنا من كل جانب.
إن من يطلب منا الصبر عليه أن يرينا أنه يأكل مثلنا من خشاش الأرض، وأنه ينتظر الكابونة على أحرٍّ من الجمر، وأنه قد ربط على بطنه كمسئول حجراً أو حجرين، حتى تكون لكلماته وقعها وصدقيتها، وبأننا فعلاً استوينا في الفقر والمسغبة.
لقد أكل الناس في قطاع غزة القديد بعد عشر سنوات استفرغ فيها الكثير منهم جيوب مدخراتهم، وقهروا بصبر جميل الفقر العنيد، كرمال عيون وطنهم، وحتى لا يشمت بهم الأعداء، ولكنهم لم يشاهدوا من عليِّة القوم من يشاركهم طهي الحصى، تلهيِّة لأطفالهم في عتمات الليل، أو يأتيهم بثوب جديد مع تكبيرات العيد يُلجم أحزانهم، ويدخل على قلوب أولادهم الفرحة.
أخي د. صلاح أتفهم أبعاد كل ما قلت، بهدف إغاظة الأعداء، ولكن ربما خانك التعبير؛ لأن المكان الذي أنت فيه ليس هو المنبر فنفهم ما تقول في سياق الوعظ والإرشاد، فأنت قيادي ورجل سياسة، وإذا طالبت الناس بالصبر فعليك أن تُشهد الناس من خلال ربط حجرين على بطنك، أن فعلك يسبق قولك، حجرٌ تُذهب به عضة الجوع، وآخر لتقول للناس صدقتكم فأصدقوني.
إن هذه الحملة التي طالت د. البردويل هي بالطبع ليست له وحده، ولكن لكل إخوانه في قيادة حركة حماس، ولكل من يرفع عقيرته يطالب الناس بالصبر والتحمل، دون أن يكون لهم إماماً في نفسه وأهله وعشيرته الأقربين.
إننا نريد أن نرى قيادات حركة حماس تربط حجرين على البطن؛ حتى يكون لنداء الصبر بعد عشرة عجاف آذاناً تسمعه، وشعباً يُصغي إليه، ودلالة نقضُّ بها مضاجع الأعداء.
حقيقة، عندما يتحدث السياسي عن الصبر فيجب أن تكون كلماته مشفوعة ببشارة قادمة أو فرج قريب.. نعم؛ تحملنا 11 سنة وقادرين على تحمل مثلها، ولكن في ظل هذا الواقع القائم سنكون أشبه بأجداث وحطام لشعب لم يعد لديه ما يقدمه للوطن، على مستوى التحرير والتضحية والعزيمة وقوة الشكيمة.
لو طالعنا الخطيب في المسجد بما تحدث به د. البردويل لأخذناه على محمل مغاير، من حيث أنه مشكوراً يريد الحفاظ على معنوياتنا عالية وألا ننكسر، وتأتي موعظته من باب شد الأزر ومكايدة الأعداء، أما عندما تأتي من السياسيين فلها دلالات أخرى إذا لم تكن مشفوعة بالبشارات القادمة، والتي يمكن أن يتلمس الناس بعض إرهاصاتها، وإلا فهي حالة من التدليس والضلال المبين.
إن فلسطين لن يحررها شعب أنهكه الجوع والعطش، وأوهى أركان صبره وصموده الانقسام والحصار، ولن يأتي التمكين لقطاع غزة بالخُطب والمواعظ وحدها، فسنن الله لا تحابي أحداً، ومن أراد أن يتعلم السياسة فليقرأ التاريخ؛ تاريخ الشعوب والأمم، ويتبحر في النظرية الأممية لصعود وسقوط الحضارات، ليبني عليها رؤية للأجيال تستوعب من خلالها لماذا تأخر النصر؟ وكيف ترتفع رايات العزة والتحرير.
إن د. صلاح البردويل من خيرة رجالات حركة حماس، ومن أفضل قياداتها على المستوى الإنساني والأخلاقي، وله محبين كثر، وهو شخصية متفتحة وله مواقف تاريخية تمنحه كل ما يستحق من التقدير والاحترام، ولكنه بطبيعة تكوينه الثقافي والدعوي اختلطت عليه مفردات الأديب مع لغة السياسي فوقع فيما وقع فيه، برغم ذكائه وفطنته ومدونة سلوكه المتميزة بنبرة ابن المخيم، والتي أعرفها فيه.
ما وقع وجرَّ عليه كل هذه الموجة من الغضب حتى من الكثير من شباب حركته إنما كان زلة لسان وكبوة جواد، لشخص نحبه ونحترمه من قيادات هذه الحركة المباركة.. لقد أخطأ التوظيف لتعبير كثيراً ما نتداوله، بهدف حثِّ الناس على التحمل ومغالبة الظروف القاسية.. فالصبر هي الكلمة الدارجة التي نرددها في كل حين، وخاصة إذا تجاوزت بنا وضعية الحال الطبيين، وبلغت الحلقوم.
أتمنى على الأجهزة الأمنية ألا تنجر وراء تعبيرات غاضبة لبعض الإعلاميين وأصحاب الأقلام، فحرية التعبير حق للجميع، والاعتقال في مثل هذه الظروف ولهذه الأسباب ليس فيه من الفطنة والذكاء الذي يحقق التلازم بين المُلك والحكمة.