كانوا ثلاثة أصدقاء لا يفترقون، يدخلون يومياً الى البار ويحتسون بضع كؤوس من الخمر.. حتى حفظ البارمان عاداتهم، نوع مشروبهم وساعة دخولهم، كأنهم مربوطون بعقارب ساعة مضبوطة تماماً.. لدرجة انه كان يبدأ بتجهيز الكؤوس الثلاثة قبل ظهورهم، ما ان يظهروا في مدخل البار الا والكأس الثالثة قد جهزت.. فيجلسون الى طاولتهم المفضلة وقد وضعت كؤوسهم أمامهم فور جلوسهم.. حتى أضحوا جزءاً من أجواء البار ووجوهه المعروفة.
مرت الأيام دون ان يتغير نظامهم...
في أحد الأيام حدث أمر غريب لفت أنظار البارمان وسائر رواد البار.. كانت مفاجأة مطلقة.. دخل صديق واحد من الأصدقاء الثلاثة.. كان يبدو حزينا وكئيباً... لم يجلب البارمان الكؤوس التي ملأها للأصدقاء الثلاثة.. بدل ذلك اقترب من الصديق الوحيد المتبقي من الثلاثة وقال مفتعلاً الحزن:
- أقدم التعازي باسمي وباسم صاحب البار.. كيف فقدت صديقيك؟
- لا يا سيدي، ليس الأمر كما يبدو.. صديقاي هاجارا، وهما بخير والحمد لله.. واحد هاجر إلى أستراليا والآخر الى أميرِكا.. وبقيت لوحدي كما ترى..
- هل أجلب لك كأسك يا سيدي؟
- ليس كأسي فقط، بل الثلاث كؤوس، وكأننا ما زلنا ثلاثتنا نأتي كل يوم، لقد أقسمنا ان ندخل باراً في نفس الساعة، حيثما نكون في أرض الله الواسعة، وان يشرب كل واحد منا كأسه وكأسي صديقيه، وكأننا نجلس سوية لم نفترق. لذا يا عزيزي.. أجلب لي الكؤوس الثلاثة وكأننا ما زلنا ثلاثتنا نشرب سوية...
وهكذا استمر الوضع.. يدخل يومياً بنفس التوقيت ويجلس ليحتسي ثلاث كؤوس وكأن صديقيه يشاركانه الشرب.
مرت سنة أو أكثر.. والصديق محافظ على برنامجه، ويخبر من في البار عن أخبار صديقيه، وكيف انهما يتصرفان بنفس الشكل وفي الساعة المشابهة في بلادهم الجديدة.
لكن في يوم ما، حدث ما لفت انتباه رواد البار وأثار تهامسهم.
دخل الصديق كعادته.. وطلب كأسين فقط رافضاً الكأس الثالثة.. البعض راهن انه فقد أحد صديقيه.. البعض قال ان الجيل يفرض علية التقليل من الخمر.. البعض قال ربما وضعه المادي لا يسمح له بشراء ثلاث كؤوس...
جلس كعادته يحتسي الخمر من الكأسين، لم يطق البارمان الصمت وعدم معرفة ما جرى، اقترب منه وسأله:
- ماذا مع كأس الصديق الثالث.. هل وقع لأحدهما مكروه؟
- أبداً أبداً.. الصديقان بصحة جيدة ويشربان الخمر يومياً.. لكني عدت الى ديني وصلاتي ولم أعد أشرب الخمر.. وأشرب فقط كأسين عن صديقي حتى يهديهما الله ويكفان عن الشرب.. تماماً كما هداني!!
نبيل عودة
ملاحظة: في هذه القصة البسيطة والساخرة ، هناك فكرة فلسفية بسيطة عن "فشل التفكير المنطقي" لدى بعض الناس، مثلا استمرار بطل القصة في شرب الخمر بحجة انه يشرب عن صديقيه فقط وليس عن نفسه لأنه عاد الى دينه وصلاته ولم يعد يعاقر الخمر... القصة ليست مجرد لسعة فكاهية ولا انفي حدة اللسعة.. ولم أقصد الغمز ضد الدين كما اتهمني البعض.. بل طرح موضوع فلسفي عن فشل التفكير المنطقي. !!
التفكير المنطقي هو التفكير الذي يمارس عند محاولة تبين الأسباب والعلل التي تواجه الإنسان في مسيرة حياته ومعرفة نتائج ما قد يقوم به من أعمال أو تصرفات.