منذ أن وقعت أحداث 11 سبتمبر عام 2001، والكوارث تلاحق العرب والمسلمين، حروب مدمرة في أفغانستان والعراق، ثم انتكاسات متعاقبة لحركة النهوض العربي، وفشل معظم المحاولات بإسقاط كل ما اعتبره البعض إنجازاً في مرحلة ما سمي بالربيع العربي.
في أجواء تلك التقلبات التي ضربت المنطقة، خرجت إلينا داعش، وبدأت في هدم ما تبقى من أركان الدولة في العراق وسوريا، وألجأت الكثير من التيارات الإسلامية لخوض معارك لم تكن في وارد التفكير فيها، وانتهت الأمور بتدمير العراق وجزء كبير من سوريا، والإعلان عن خلافة إسلامية لم يعد لها بهذا الشكل من أنصار إلا في أحلام هؤلاء الطائشين، الذين تمَّ استدراجهم من خلال مجهولين بأسماء وألقاب توحي لهؤلاء المضللين من بسطاء شباب المسلمين بأن الخلافة قادمة أو أن أركانها غدت قائمة في مدينتي الرقة والموصل، وأنهم باتوا يقيمون الحكم الإسلامي على نهج السابقين من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي!!
انتهى الربيع العربي بأسراره وألغازه، فلم ندر من حرَّكه، ومن حشد له، وكيف انتهى الحال بهذه التساؤلات التي ما زلنا نبحث عن جواب لها؟! وانفضَّ السامر على ما تشاهدون من كوارثٍ ومآسٍ بانهيار كيانات الأمة، وتبديد ثرواتها، وضياع مشهد الإسلام العظيم، من خلال حملات الإسلاموفوبيا، التي اجتاحت العالم الغربي، وأدَّت إلى تراجع مكتسبات جالياتنا المسلمة في أوروبا وأمريكا، وتحميلها صفات لم تكن ضمن مفرداتها الدعوية والقيمية، فصار المسلم متهماً بالغلو والتطرف والإرهاب، تلاحقه الأجهزة الأمنية أينما حلَّ وارتحل.
إذا فكرنا في حجم الدم والخسائر التي ألحقها هؤلاء بالإسلام وبلاد المسلمين، وتساءلنا: ترى هل المطلوب أن تأتي الخلافة على كل هذه الجماجم من أبناء العرب والمسلمين؟ وهل من مستلزمات عودة الخلافة تدمير كل هذه العواصم والمدن التاريخية والحضارية للتخلص من الملك العضوض؟! وأيهما أفضل أن يأتي التغيير والإصلاح والتجديد عبر الكلمة الطيبة والتحرك المتوازن باتجاه السلطة الحاكمة - ولو كانت جبرية مستبدة - أم بهذه المجازر، التي تذكرنا بسلوكيات البرابرة وما جرى لبغداد بعد سقوطها في أيدي المغول؟!
ونحن من جهتنا نتساءل: هل من مصلحة أحد في الساحة الإسلامية؛ تنظيمات أو حركات، أن يدعم أو يتعاطف مع هذه التوجهات المتطرفة والتيارات الإرهابية، التي تتمحك خلف مسميات إسلامية، وهي من خلال عملياتها وممارساتها التي نشاهدها هي إرهابية بامتياز، ولا تحمل وجهاً إنسانياً، وليست الرحمة التي جسَّدها الرسول الكريم سلوكاً في دعوته تمثل مظهراً لها؟
إن علينا أن نشجب وأن نندد بشدة ونقطع الطريق على كل من يحاول أن يشوِّه صورة ديننا الحنيف من هؤلاء، الذين ما تزال لغة البعض منهم قائمة على خطاب التهديد والوعيد، ذلك الخطاب الذي يؤجج الأحقاد والإحن بين المسلمين، ويظهرنا في المشهد الأممي أننا قُساة غلاظ القلب، نحرق ونجز الرؤوس بلا رحمة، ومن بيننا القاتل والقتيل!!
وإذا كان بعضنا آثر الصمت والتزمه طويلاً، أملاً بالتغيير والإصلاح لواقعنا العربي الكارثي المأزوم، فإننا - ومن خلال ما جرى وبانتظار ما سيجري- نقول لهم: لا تُعلقوا الآمال، وتبنوا جسور الخلاص على من صنعوا ملاحم الموت والخراب في العراق وسوريا أن يأتوا لنا بالنصر والتمكين، وتحقيق نهضة الأمة في أماكن أخرى من بلاد العرب والمسلمين.
إن هؤلاء الذين ما زالوا يسفكون الدم باسم الإسلام وتحرير بلاد المسلمين، من أصحاب هذه العقلية الإرهابية المتطرفة، ليس معقوداً على نواصيهم الخير لنا ولا لأمتنا، وهم سيف مسلط بيد أعدائنا، حيث يمكرون معهم الليل والنهار؛ سواء أكان من يقودهم في هذه المؤامرة هو ممن يعلمون أم لا.
إن الكارثة تستدعي التدبر والمراجعة، فليس كل من زرع لحية أصبح شيخاً، وليس كل من تلفظ بـ"قال الله وقال الرسول" صار فقيهاً، وليس كل من تحدث عن الجهاد غدا مجاهداً، والشواهد حولنا هذه الأيام كثير.
إن حجم الجرائم التي ترتكب اليوم باسم الإسلام تستدعي أخذ الحيطة، وتوخي الحذر أيها الشباب.. فكم من الأيدي الخفية والوجوه العميلة ساقتكم إلى هذا المستنقع، وعملت على تجنيدكم لخدمة أعداء أمتكم، وشروا حياتكم وكرامتكم وأعراض أهليكم بثمن بخس، تذكروا خلية العملاء الذين تورطوا في تصفية الشهيد مازن فقهاء، ما الذي كسبته أيديهم، والعار الذي جلبوه لعائلاتهم، وأولئك الذين تمَّ استدراجهم إلى بلاد عربية ليدفعوا حياتهم بوهم الجهاد والشهادة فيما بلادهم محتلة، وهي أولى بتضحياتهم ودمائهم الطاهرة!!
إن هؤلاء الشباب الذين سقطوا بعيداً عن أرض الوطن، وتحوم حول طرق تجنيدهم الشبهات، آخذة أعدادهم في الازدياد.. إن أصابع الشاباك – للأسف - ليست بعيدة عن مثل هذه الشبكات المشبوهة، التي تقوم بتجنيد العملاء من بين شباب أمتنا والتغرير بهم، بهدف ضرب الإسلام، وتشويه صورة المسلمين في كل مكان.
ربما لا تكفي كلمات التنبيه ومطالبات الأخذ بالحذر، إذ إنَّ علينا مع التذكير ولفت الأنظار - وهذا هو جهد المُقلِّ - حثِّ السلطة والجهات الحكومية على أن تبذل جهدها، وأن تراقب الساحات والمساجد حتى لا يكثر السقط، ويصبح الفلسطيني معرَّة بين أبناء المسلمين، بعد أن كان هو العنوان للطهر والمجد والفخار، وترفع شعوب أمتنا ببطولاته بيارق كرامتها وعزتها.
ختاماً؛ للقيادات السياسية والدينية نوجه النداء.. تداركوا الشباب الذي دمره هذا الانقسام السياسي البغيض، وأنهكته الحزبية، قبل أن تغرق السفينة وتنحني الأعلام، هذه كلمتي لكم جميعاً قبل أن تتمادى بوصلة الوطن في انحرافها الطائش لغياب الرجل الرشيد، وأنتم وحدكم – أيها الفلسطينيون - بأيديكم إصلاح المسار.
إن ما يجرى في سوريا والعراق باسم الإسلام من مجازر وسفكٍ للدماء، ومن انتهاك للحرمات، وقتل المسلم لأخيه المسلم، تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول خلفية الجهات التي تعبث بساحاتنا، وتحرك الفتنة بين أهلينا، كما أن ما يحدث في ليبيا وسيناء أيضاً يجرنا للسؤال عن خلفية الجهة أو الجهات المعنيِّة والمستفيدة من خلق بؤرٍ للتطرف والإرهاب على حدود الوطن، وفي كل أرجاء عالمنا العربي والإسلامي؟!!
إن أصابع إسرائيل وأجهزتها الأمنية ليست بعيدة عن كل ما يجري حولنا، وفي فضائنا الإسلامي القريب، وأن هذا الانقسام البغيض قد منح الفرصة لمن يتربص بنا الدوائر من أعدائنا لتضليل شبابنا التائه، واستدراج بعضهم للتطرف والإرهاب، حيث إن عاقبة كل ذلك هو ما نشاهده من الخسران المبين لمكانة الأمة وقوتها وثرواتها، والعلو لبني إسرائيل، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ختاماً؛ إن علينا أن ندرك كذلك بأن ما يجري في دول غربية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا من عمليات إرهابية يقف خلفها شباب من أصول عربية وإسلامية، هي المحرك لحملات "الإسلاموفوبيا" وموجات العداء للإسلام والمسلمين، وهي التي تجعل هذه الدول تغض الطرف عن كل ما تقوم به إسرائيل من إرهاب الدولة وأشكال العدوان ضد الفلسطينيين، وذلك بعد أن نجحت في شيطنة كل من يمارس حقه منهم، وألبسته ثوب الإرهاب.
إن هذا الإرهاب الذي يقوم به بعض المُضللين من أبناء المسلمين، الذين يعيشون في الغرب ليس صناعة إسلامية، وهو مرفوض ارتكابه بأي هوية دينية، ودافعه تشويه صورة اٌسلام والإسلاميين في الغرب، والتحريض ضد حقنا - كفلسطينيين - في المقاومة وتقرير المصير.
د. أحمد يوسف