قلت مرارا وتكرارا بأن الإنترنت وابنتها الشرعية (وسائل التواصل الاجتماعي) سلاح ذو حدين وفي موضوع قرار حبس المجاهر بالإفطار في نهار شهر رمضان المبارك شهرا، رأينا وتأذينا من الحد الجارح لهذا السلاح المعاصر عبر هذه الوسائل.
فهناك من شرّق وغرّب وتحدث عن أمور (أهم) يجب أن تتخذ قرارات بشأنها، وهناك من اتبع هواه وصار يحدثنا الحديث الممجوج عن الحرية والتعددية والتنوع في المجتمع وغير ذلك من العبارات والجمل المعلبة الجاهزة للاستخدام السريع دائما، والتي صارت أشبه بفاكهة بل خبز الحديث ووجبته الرئيسة عند مجموعة من الكتبة والنشطاء في الحقل الإعلامي والثقافي.
يبدو بأنه صار من لازم صفاتنا كما يبدو افتعال نـقاش وجدل وإثارة زوابع وعواصف إعلامية لكل شأن صغر أو كبر، وتتصف النقاشات بالسطحية، والتجييش السلبي وإطلاق الاتهامات والمبالغة في تضخيم الأمور.
ولكن ما الذي يجعلني أبدو مغردا خارج سرب (النوشتاء) ومتمردا على قيم الحرية والتعدد والتنوع والمجتمع المدني الديموقراطي...إلخ المعزوفة؟!
لا بد لي أن أقول بأنني تمنيت صدور هذا القرار منذ زمن طويل، ولكن لا بأس فإن رمضان ضيف كما حل هذا العام سيحل العام القادم والذي يليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، سواء كنت أنا ومن اتخذ القرار ومن أيده ومن عارضه على قيد الحياة أو ممن انقلبوا إلى ربهم.
أتذكر قبل حوالي 20 عاما أحد الشيوخ تحدث بغضب عن رؤيته لمجاهرين بالإفطار قرب المسجد الذي يتولى إمامته، وقد ناشد وطالب بوضع حد لهذه الظاهرة؛ ولنتخيل أن الشيخ أو من سمع كلامه أو من رأى المجاهرين مثله اصطدم مع المفطرين ألن نقع في مشكلة، القرار الآن أغنانا عنها؟أليس شعور الفرد الصائم بأن ثمة عقوبة على من يستفزه بإفطاره، وأن ما عليه إلا إبلاغ الجهة الكفيلة بالتنفيذ أفضل من تحوّل الشعور بالغضب إلى شجار أو مشاعر داخلية سلبية كل منا يعرف محتواها بعيدا عن التنظيرات السامجة؟!
ثم إن من الهوس الذي يجتاحنا جميعا، عقد المقارنات مع الدول المجاورة والبعيدة، ودائما حديث المقارنة يقول ضمنا: ليت هذا موجود عندنا؛ حسنا أيها الأفاضل؛ أليس القرار يستند إلى قانون العقوبات الأردني لسنة 1960 والذي ظل معمولا به في الضفة الغربية حتى النكبة الثانية في 1967 وما زالت المملكة الأردنية الهاشمية تعمل بهذا القانون؟ وهناك العديد من الدول التي تفرض عقوبات على من ينتهك حرمة رمضان، تتراوح ما بين السجن والغرامة والجلد.
وقبل الحديث عن بعض الحجج الواهية لرفض القانون/القرار أنوّه إلى مسألة يعرفها أبناء الشعب الفلسطيني؛ وهي أن الإخوة المسيحيين في شهر رمضان يحرصون –بما في ذلك أطفالهم-على عدم الأكل والشرب أو التدخين أمام إخوتهم المسلمين، وهذه الحقيقة دوما تستعرض عند الحديث عن مسلم بكامل قواه العقلية والجسدية يجاهر بإفطاره؛ بل إن بعض المسيحيين لا يكتفي بعدم الإفطار أمام المسلمين، بل يصوم مثلهم ويتحدث عن أجواء رمضان التي ينخرط بها بإعجاب وتحبب...فإذا كان من لا تلزمه ديانته بصوم رمضان هذا حاله، فلم هذا الهجوم الأخرق عبر مواقع التواصل وملحقاتها على القرار بذريعة أن مجتمعنا متنوع ومتعدد؟
أما من حوّلوا الموضوع إلى مسألة سياسية أو تحدثوا عن ضرورة عقاب أشخاص جرمهم أكبر وأعظم من المفطرين؛ فأقول بأنكم لستم من يحدد أن جرم شخص أكبر أو أصغر من انتهاك حرمة الشهر المبارك، وليس ما ترونه أولوية هو فعلا له الأولوية بالضرورة، واستباحة الناس لحرمة ربهم أكبر وأعظم من استباحتهم لمحرمات أخرى تتحدثون عنها...وهل اتخاذ هذا القرار وتطبيقه هو الحائل والمانع من معاقبة آخرين على خطاياهم؟ما علاقة هذا بذاك؟وهذا ذكرني –إن جاز لي التشبيه أو المقارنة-بمقابلة مع أشخاص يقومون على جمعية أو مؤسسة تعنى برعاية الحيوانات من كافة النواحي في إحدى دول الخواجات، وكان السؤال البدهي والحاضر دوما بأن الإنسان أولى بالرعاية والعناية، فأجاب المتحدث:هناك مؤسسات ترعى الناس، نحن نختص برعاية الحيوانات والاهتمام بها، لم نمنع أحدا من الاهتمام بالناس المحتاجين إلى رعاية، ونشاطنا لا يؤثر عليهم ولا يمنعهم من القيام بمهامهم على أية حال...هل يكفي هذا المثال للمتفذلكين؟
أما المظهر العام فو الله إن كثيرا من المغتربين الذي يصومون يقولون بأنهم يحسدوننا على أجواء رمضان، وأهمها الحالة السائدة في النهار، من عدم وجود من يأكل أو يشرب أو يدخن علنا.
نحن مجتمع مسلم ولنا خصائصنا والمظهر الملتزم في شهر رمضان من خصائص مجتمعنا، فإذا كنتم تتحدثون عن المظهر في الغرب، وترون الغرب قدوة في الحريات الشخصية، فلهم خصائصهم وليست الحريات عندهم مفتوحة كما تزعمون، فمثلا أنتم تدافعون عن منع الحجاب عندهم، مع أن الأمر خيار فردي خاص بمن ترتديه، حسنا، فلم نسمح بالمجاهرة بالإفطار في شوارعنا تحت يافطة الحرية الفردية التي لا يحترمها من تشدقوا بها في بعض الأمور.
وفي كل الأحوال ليس الغرب ولا الشرق مرجعيتنا وقدوتنا، فنحن لدينا مرجعية أقدس وأطهر وأنـقى وأصح نزلت من فوق سبع سماوات؛ وإذا أردنا اقتداء آثار ما يسمح به الغرب، فعلينا تقبل العلاقات المفتوحة والإنجاب خارج الزواج، وتقبل الشواذ كأزواج لهم حقوق وعليهم واجبات، فليست كل أشكال الحرية في أوروبا وأمريكا مقبولة لدينا شرعا بداية، ثم عرفا ومنطقا اجتماعيا سائدا.
وفي الكيان العبري قوانين وأنظمة تنظم العلاقة بين فئات المجتمع اليهودي من العلمانيين والحريديم ومن هم بين بين، ومع ذلك فإن أي سيارة تمر في أحياء الحريديم يوم السبت تعتبر منتهكة لحرمة هذا اليوم عندهم وقد يرشقونها بالحجارة، أو يمنعونها من السير في شوارعهم، ويتعرض أي مسؤول أو وزير للتقريع من قبل أحزابهم وحاخاماتهم إذا قام بنشاط يرونه غير جائز في ذلك اليوم...وضروري التحدث عن كيان الاحتلال بالذات عند مناقشة كثير من المسائل، وخاصة أن من أبناء جلدتنا من يتحدث بانبهار عن حالة الحرية والديموقراطية الموجودة لديه.
أما من قالوا أن الصيام خيار الفرد؛ فأقول هذا صحيح، وهي عبادة معروف بأنها عبادة بالغة الإخلاص، فالصائم يمكنه الأكل والشرب بالتواري عن أعين الناس، ولكنه لا يفعل استشعارا لرقابة رب الناس، وعليه فإن المفطر عليه أن يتبع قاعدة (وإذا بليتم فاستتروا) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال:كل أمتي معافى إلا المجاهرين...الحديث، وعليه فإن المجاهر بالإفطار لا يمارس حرية فردية وخيارا شخصيا بقدر ممارسته للاستفزاز البالغ لمشاعر الصائمين مما قد يجر إلى مشكلة مع بعضهم، وقبلها مخالفة لأمر الله بالصيام، ولنهي نبيه عن المجاهرة بالذنوب...وليس لأن الصائم قد يشتهي الطعام إذا رأى من يأكل، مثلما يظن بعضهم.
كان الصغار يرددون أهزوجة طفولية حفظوها عن الآباء والأمهات كي يعظموا شهر رمضان وصيامه:يا مفطر رمضان يا مقلل دينك، بستنا السمرا تقحف مصرينك.
لم يكن وقتها إنترنت ولا مواقع تواصل كي يخرج علينا متفذلك يقول بأن حفظ الأطفال لهذه الأهزوجة يؤثر على براءتهم، ويحضهم على العنف وعدم احترام حرية الفرد الشخصية وووو....كل العبارات والشعارات التي تملأ السايبر.
أنا مع القرار القاضي بحبس وتغريم المجاهر بالإفطار في شهر رمضان، غير مكترث بمتشدقي الحريات الكاذبة، ولا التعددية الزائفة، وأدرك أن المجاهرين قلة، ولكن هذه القلة ليس من حقها أن تستفز الكثرة برعونتها، فليردعها القانون.
بقلم/ سري سمّور