هل ندين إسرائيل أم حماس؟

بقلم: نزار بولحية

مضى الآن ما يقرب من ستة شهور، من دون أن يظهر أي نفي أو أي تأكيد رسمي على أن العقل المدبر للاغتيال الذي هز تونس في الخامس عشر من ديسمبر الماضي كان اسرائيليا.
كل ما قيل في العاصمة تونس هو أن جهة أجنبية تورطت في قتل محمد الزواري، وكل ما صدر عن تلك الجهة الافتراضية هو مجرد تلميحات وإشارات لا ترقى للاعتراف القطعي والواضح بالجريمة، من قبيل ما قاله وزير الحرب الاسرائيلي ايفغدور ليبرمان من أن "اسرائيل تفعل ما يجب القيام به للدفاع عن مصالحها"، وانه "اذا ما قتل شخص في تونس" فانه يفترض "أنه لم يكن نصيرا معروفا للسلام، أو مرشحا لجائزة نوبل للسلام".
ومن المؤكد أنه لم يعد هناك أدنى شك في أن الآمال في الكشف عن تفاصيل اخرى غير التي سمعناها في الرواية الرسمية لرحيل الزواري، باتت شبه معدومة. وقد لا يكون مجديا أن ننتظر العكس. فلا أحد في الجانبين التونسي والاسرائيلي يبدو راغبا في ترك الملف مفتوحا لامد أطول، فضلا عن المضي فيه للاخر. وربما كان الحل الافضل للطرفين هو أن تدفن حقيقة الاغتيال الغامض نهائيا، ولا تحصل مواجهة اعلامية وقضائية مع اسرائيل، وتتجنب تونس في الوقت نفسه تبعات أي تداعيات محتلمة للربط بين جنسية الزواري وعمله وانتسابه لكتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس.
ولعلكم تذكرون جيدا أن ما جعل مقتل ذلك الشخص المجهول يتحول من حادث جنائي عابر إلى قضية اغتيال سياسي مدو، هو البيان الذي أصدرته كتائب القسام بعد ثمان واربعين ساعة من حصول الجريمة، الذي وصف الضحية بـ"شهيد فلسطين وشهيد تونس وشهيد كتائب القسام" وأنه كان "أحد القادة الذين اشرفوا على مشروع طائرات الابابيل القسامية". فبقدر ما فاجأ ذلك البيان معظم التونسيين، فقد أحرج في المقابل كثيرين في دوائر السلطة، وربما أربك ايضا حساباتهم. ولعلكم لاحظتم كيف تردد رئيس مجلس النواب التونسي، في الجلسة العاجلة التي عقدها المجلس اسبوعا بعد الاغتيال، في أن يصف الزواري بالشهيد، مفضلا أن يطلق عليه صفة الفقيد والمرحوم، وكيف أن الرئيس قائد السبسي قال في خطابه بمناسبة رأس السنة الميلادية "نحن نعرف التعامل مع اسرائيل، وسبق أن قصفت حمام الشط والقيادة الفلسطينية في تونس، ولم نتأخر وذهبنا إلى مجلس الأمن، وكنت حينها وزيرا للخارجية. ورغم أن الرئيس ريغان قال إن اسرائيل في حالة دفاع شرعي، فإنه تمت إدانتها وحكم عليها بجبر الأضرار"، من دون أن يفصح عن السبب الذي جعله يرفض تكرار التجربة مرة اخرى في العدوان الاسرائيلي الجديد، وهل كان بالفعل يفتقد الدليل على تورط اسرائيل؟ أم انه كان يخشى عواقب تدويل الملف؟ صحيح أن هناك اختلافا بين الحالتين، ففي الاولى اقر الاسرائيليون بشكل واضح وصريح بانهم قصفوا حمام الشط. وفي الثانية لم يعترفوا رسميا بانهم هم من قتل محمد الزواري. ولكن كيف نفسر ذلك التردد في توجيه اصبع الاتهام للقاتل، فضلا عن تقديم شكوى لمجلس الأمن؟ وهل نجد له سببا اخر غير الحرص على أن تنأى تونس بنفسها عن أي علاقة أو ارتباط بشخص كان له دور ميداني في المقاومة، وتتجنب ما قد يفسر على انه تأييد أو حتى اعتراف ضمني بمشروعيتها؟ وقد يكون هذا هو بيت القصيد.
ولسنا في حاجة لنذكّر مرة اخرى بمواقف جزء واسع من الاعلام المحلي، الذي سخر من الزواري ومن طائراته المسيرة عن بعد، ووصفها بلعب الاطفال، أو الذي تساءل باستهزاء إن كان الرجل يملك كل تلك القدرات الجبارة فلماذا بخل بها على جيش بلاده الذي يواجه الارهاب؟ فلا احد كان ينتظر من النخب الاعلامية والفكرية أن تفخر بأعمال المهندس المغمور، أو أن تعتبره بطلا قوميا. وحتى حين حصل تغير ملحوظ في نبرة الصحافة المحلية، وخرجت بعض المظاهرات في صفاقس اسبوعا بعد الاغتيال، فإنها كانت مجرد أعمال استباقية، لامتصاص أي غضب شعبي قد يظهر بعد فضيحة التعامل الباهت والمشبوه مع حادثة الاغتيال خلال اليومين الاولين من حصولها.
وكل ما انكشف بانتهاء مفعول تلك الحماسة الوقتية هو ليس فقط أن كل تلك الشعارات الرنانة الكبرى، التي كانت تنادي بتجريم التطبيع ونصرة المقاومة، خفتت وصارت في ذيل قائمة الاولويات، بل تبدل الصورة وانقلابها مئة وثمانين درجة، وتحول الاتهامات الاولية، التي لم تثبت حتى الان رسميا لاسرائيل بالتورط في الاغتيال، إلى ما يشبه الايحاءات الاعلامية بأن الجهة الاجنبية المقصودة التي دبرت العملية يمكن أن لا تكون اسرائيل، وان هناك فرضية بديلة، وهي أن تكون المعنية بذلك هي حماس نفسها، التي قد تكون لسبب ما خططت وقررت أن تتخلص من الزواري في عملية تصفية حسابات داخلية. ولم تكن الغاية من وراء ذلك هي فقط تبرئة اسرائيل من دم المهندس التونسي، وايجاد تفسير لحالة الارباك والصمت والسكون الرسميين والتردد في توجيه اتهام للاسرائيليين بالضلوع في الجريمة، بل تصوير الطيار على انه ضحية لحماس، حتى إن لم تتورط هي فعليا في قتله وإفهام الرأي العام، انه يتحمل قسطا وافرا من المسؤولية عن مصيره، بعد أن فضل الانضمام لتنظيم خارجي مسلح، من دون يخبر سلطات بلده أو يخطرها بنواياه وخططه.
وحتى تلك الزوبعة التي قامت شهورا قليلة بعد الاغتيال، حول ما قيل ساعتها إنها رسالة دكتوراه ستناقش في كلية العلوم في صفاقس، وهي الكلية التي انتسب لها طيار حماس، وموضوعها أن الارض ليست كروية بل مسطحة، ثم الضجة التي أحدثها ذلك داخل تونس وخارجها، فإنها لم تحصل بمحض الصدفة بقدر ما كانت عملا دعائيا مدبرا، لإثارة الشك والريبة في البحوث والمشاريع العلمية للزواري وتشويهها بشكل من الاشكال. لقد كان الامر اشبه بعمل مازوشي لجلد الذات، لم يكن له غرض آخر سوى وأد كل مبادرة أو طموح يخرج عن السياقات المعروفة. والرسالة كانت واضحة ومكشوفة وهي، إما أن يبقى الشباب داخل قطيع الدولة والنظام، ويلزم الحدود المفروضة عليه، ويترك تضامنه وتعاطفه مع فلسطين في طور الشعارات والامنيات فقط. وإما أن يتحمل وحده تبعات تصرفاته، إن فكر في المبادرة لعمل ميداني أو جهد علمي يدعم المقاومين للاحتلال، وساعتها لن يجد أحدا يدافع عنه، أو يطالب بحقه في صورة ما إذا كلفه ذلك القرار حياته.
والمحير حقا، أن كثيرين من بين الذين ينتقدون عجز السلطات عن العثور حتى الان عن دليل على أن اسرائيل هي من اغتالت الزواري، لم يفعلوا شيئا على مدى الشهور الستة الاخيرة حتى يثبتوا أن المهندس لم يكن ضحية أحد آخر غير الاحتلال الصهيوني. وربما لن نتوقع منهم أن يفعلوا ذلك حتى في الشهور الستة المقبلة ايضا، مادامت إدانة حماس اسهل عليهم من اي إدانة اخرى!

نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس