ما أشبه يومك يا قدس بأمسك. كنت في الشرق العروسة، أهلوك الغفاة، وضفائرك سلالم شوق للسماء. أجراس كنائسك مغازل ندافة للفرح. أبوابك ذاكرة للتاريخ، والمآذن أعمدة من نار ونور. أمسك غدك، والأخبار تأتينا من عند من لم نزود.
فها هي الصحف ومواقع الأخبار الإسرائيلية تطالعنا مجددا، بأنباء عن صفقات عقارية جديدة تمّت بين المسؤولين في الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية، وجهات يهودية عديدة، بموجبها حوّلت الكنيسة حقوقا لها في العديد من العقارات والأراضي إلى تلك الجهات المعروف بعضها وغير المعروفين على الأغلب بسبب تسترهم تحت أسماء شركات مسجلة خارج البلاد، ومجهولة التفاصيل وهويات أصحابها الشخصية.
في الواقع لا جديد في هذه الأخبار، فمن تابع ما جرى ويجري منذ عشرة أعوام وأكثر في ميادين القدس المغتصبة وساحات هذه الكنيسة ودهاليزها المعتمة، يعرف أن هذا النزيف لم يتوقف على الإطـــلاق، وأن رؤساء هذه الكنيسة اليونانيين، معـــــززين ببعض المحامين والمستشارين والأعوان العرب وغيرهم، نفذوا عدة صفقات موجعة ليس فقط في القدس الغربية والشرقية، بل في أملاك وقفية كثيرة تمتد من شمال فلسطين التاريخية وحتى جنوبها.
ما الجديد إذن في هذه المسألة؟ وهل من الممكن إيقاف هذا "الجماح" أو استرجاع ما شملته تلك الصفقات، سواء ما بات مؤخرا معروفا باسم صفقة "رحافيا" أو ما سبقها في مدينة يافا (السوق، أندروميدا) أو في قيساريا وطبريا وبيت شيمش وسوق "ماميلا" المجاور لباب الخليل في القدس (ما كان يعرف بأرض الشماعة) أو في منطقة فندق وشارع "الكينغ ديفيد" وغيرها من عشرات المواقع الإستراتيجية الأثمن على أرض البسيطة، التي لا يمكن حصرها في مقالة واحدة وإن حبّرت حروفها بكل الوجع الأدمي والدهشة، أو ربما قد يكون السؤال الأصح مَن معنيٌ بايقاف "مذبحة" هذا التراب المسيحي المستمرة منذ سنوات طويلة؟ فعلى ما يبدو لم يتحرك أحد ذو أهلية وبجدية كافية لصد من قام ويقوم بهذه التصفية "الإسخريوطية"، التي على الرغم من محاولات التكتيم عليها أصبحت أخبارها عند أهل البلاد كأسرار "سقيفة حُبى"، لكن المسؤولين في الكنيسة وأعوانهم من "المهنيين" الميسّرين تنفيذها بطرق محكمة ومضمونة الريوع والنتائج، لم يحاسبوا ولم يشعروا بأي ضغوط حقيقية من قبل أي جهة صاحبة مصلحة في هذه العقارات، أو أي طرف متضرر من جراء انتقالها إلى جهات رسمية إسرائيلية، أو شركات فازت بها بتواطؤ وبأبخس الأسعار وأدهى الوسائل والطرق.
من كان أولى بالتحرك والاعتراض؟
المستحقة الأولى وصاحبة المصلحة المباشرة في هذه الوقفيات، هم الرعية العربية المسيحية الأرثوذكسية (الفلسطينية والأردنية)، لكنها لم تنجح تاريخيا، بسبب عدة عوامل موضوعية وذاتية، بتسجيل أي نصر مشرف، ولا حتى بتشكيل قوة ضاغطة رادعة تقف في وجه سطوة الرهبنة اليونانية المتحكمة في رقاب معظم الكنائس والممتلكات الوقفية على طول الوطن وعرضه، والنتيجة أن هذه الرعية بقيت عبر العصور كقطعان من المؤمنين يخدمون كنائسهم ويطيعون بعمى رعاتهم الوافدين من بلاد "هيلاس". قد يكون عدد هؤلاء المسيحيين المشرقيين الهامشي، أحد أهم أسباب ذلك القصور والفشل، لكنه ليس الوحيد، ففي الأردن توجد خصوصيات تحدد هوامش تحرك تلك الأقلية الأرثوذكسية، وفي فلسطين واجه المسيحيون الأرثوذكس ملازم إسرائيلية وفلسطينية أحبطت في الماضي فرص تحركهم المؤثر وما زالت، على ما يبدو، تجهضه في أيامنا هذه .
علاوة على ذلك فإن نجاح رؤساء الكنيسة اليونانيين بتجنيد أعوان لهم من بين المؤسسات الكنسية العربية والقيادات المجتمعية المحلية، خاصة في زمن الفضائح الأخيرة، ووقوف هؤلاء "الوجهاء" إلى جانب مبرمي هذه الصفقات ودفاعهم عنهم، كان أحد العناصر التي سهّلت "المهمة" وضياع تلك العقارات.
همسة لقصار الذاكرة
لن يتوج بطريرك على رأس الكنيسة المقدسية إلا إذا اعترفت به حكومة إسرائيل والمملكة الأردنية والسلطة الفلسطينية (بعد عام 1993)، ورضيت عنه حكومة اليونان. فإسرائيل عرفت كيف تمارس ضغوطها على البطاركة اليونانيين، ونجحت دوما في مقايضة اعترافها بهم، بعد استمالاتهم إلى جانبها سياسيا وحصولها على مكاسب مادية عقارية كبيرة قلّصت، مع مرور السنين، ثروة هذه الكنيسة بشكل خطير ومستفز. فحكومة إسرائيل اعترفت بثيوفيلوس خدمة لمصالحها، وفعلت الأردن ذلك لأسبابها، بينما لم تعترف فلسطين به إلا بعد أن وقع على رزمة من التعهدات، كان التزامه بعدم التفريط في عقارات الكنيسة أهمها، والعمل على استرجاع عقارات كانت موضوع عقود وصفقات بغيضة، ووعده بتسليم السلطة سجلات تحتوي على قيود لجميع عقارات وممتلكات البطركية وتعهده بشروط أخرى لو نفذها لتوفرت الحماية للأملاك وتوطدت مكانة الرعية العربية وتحولت بعدها إلى شريكة كاملة في إدارة شؤون البطركية الدينية والمدنية.
في الواقع كانت أهمية إصرار الفلسطينيين واشتراطهم توقيع البطريرك على هذه التعهدات، ليس فقط كمحاولة منهم لردعه والتضييق على فرص تكراره لفعلات الماضي، بل كتعبير عن نظرة القيادة الفلسطينية، ربما للمرة الأولى في التاريخ، وعن موقفها القاضي بأن التعاطي مع عقارات الكنيسة، يجب أن يعتبر قضية وطنية عليا وليس مجرد تفصيل مسيحي داخلي، كما كان رائجا في العقود الرمادية الخوالي، فلقد أشاع هذا الموقف في حينه في بعض الأوساط، على الرغم من تشكيك كثيرين بجدّية الموقِّع وعدم ثقتهم بنواياه، اطمئنانا متواضعا، لا سيما في نفوس من كانوا بعيدين عن مجريات الأحداث، أو من كانت لديهم حسابات مصلحية دفعتهم للترحيب بخيارات الحكومات الثلاثة.
مرت السنين عجافا، ولم يفِ البطريرك بوعوده وبما وقع عليه. ومن حين لآخر كانت الصحافة العبرية تمطرنا بحبرها الأسود، وبتفاصيل دقيقة عن صفقات أبرمها البطريرك ثيوفولوس ورجالاته. ومن صفقة إلى صفقة كانت القدس تكمش والكنيسة تبهت والوطن "يباع ويشترى" وقوافل السماسرة والمرابين تصيح "فليحيا الوطن".
من معني بإظهار الحقيقة؟
الأَولى بمن يطالب في القدس عاصمة لدولته العتيدة ويصر على كونها رمزا للعروبة والسؤددا، أن يتحرك لوقف هذا الانزلاق الخطير، لاسيما وفي فلسطين شكلت القيادة الفلسطينية لجنة "رئاسية عليا لشؤون الكنائس" كان يتحتم عليها ملاحقة هذه المسألة منذ عشر سنوات. من القليل الذي نشر عن دور هذه اللجنة الرئاسية نستدل أن أعضاءها تابعوا بسطحية بعض جوانب ما نشر عن صفقات أبرمها البطريرك ثيوفولوس بمعاونة مستشاريه، لكنها في الواقع لم تتخذ أي إجراء جِدّي بحق من كان مسؤولا عن تلك الصفقات، بل في كثير من الأحيان فسّرت مواقفها كدعم لرؤساء البطركية، حتى عندما أصدرت في التاسع والعشرين من الشهر المنصرم بيانا في أعقاب نشر معلومات تفصيلية عن "صفقة رحافيا" دأبت على تضمينه مواقف من شأنها أن تفسر كتفهم من جانبها لما قامت به الكنيسة وكتخفيف من مسؤولية من كان متورطا في هذه الصفقة، لأنها أكدت على "أنه رغم الملابسات والتعقيدات التي أحاطت بهذه الصفقة، التي تعود بأصولها وبنودها المجحفة لمطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ورغم إدراكها لعمق الأزمات المالية التي تعاني منها مختلف الكنائس، إلا أن بيع أو تأجير لممتلكات أو أراض تابعة لها لسداد عجز، هو أمر غير مقبول، ولا يقدم حلا جذريا لانهاء العجز".
إنه موقف خطير وغير مبرر من لجنة فلسطينية راقية، كان واجبها الدفاع عن أراضي القدس وحمايتها من أطماع المستعمر الأجنبي والطامع الجديد، فنحن في صدد صفقة نقلت بموجبها حقوق ثمينة وبأبخس الأسعار، خاصة إذا عرفنا أن تخمين هذه العقارات قدرت قيمتها الحقيقية بمليارات الشواقل، ولقد كان من الأجدر باللجنة الرئاسية أن تطالب هي بإدارة هذه الممتلكات أو بتولية جهات مسيحية عربية موثوقة إدارتها لما في مصلحة الكنيسة ومؤسساتها ورعيتها.
من ينقذ ما تبقى من ملك وأمل؟
حديث اللجنة عن أزمة الكنيسة المالية يعد ضربا من الشطط، خاصة إذا ما عرفنا قيمة ما امتلكته وتمتلكه هذه الكنيسة من عقارات، سواء ما كان جزءا من صفقات أو ما زال ينتظر، فريوع بعض الصفقات كانت تكفي لإعالة مسيحيي الشرق جميعهم ولضمان معيشتهم سعداء وبرغد وكرامة، ولو اجتهد أعضاء اللجنة الرئاسية قليلا لوقعوا على بعض تلك "الكنوز" ولأصابوا بعض الجيوب الممتلئة نعما ودنانير وباوندات.
من الواضح أن الرئاسة الفلسطينية، ومن باب احترامها للمسيحيين ومكانتهم أقامت هذه اللجنة وأولتها ثقة كبيرة وجليلة، لكنه من الواضح أيضا أن هذه اللجنة أخفقت بمهمتها وبواجبها، فتنكر البطرك لتعهداته، وما يجري في أروقة الكنيسة الأرثوذكسية يحتم اتخاذ التدابير السريعة، وقد يفيد ويسعف، في البداية، إجراء تعديلات على صفوفها وتعزيزها بقدرات جديدة وبخبراء أكفاء وعلى قدر المسؤولية، مع أن هذا الإجراء لوحده لن يكون كافيا بالطبع. فمن سيـــحمي القدس وعقارات الكنيسة إذن؟
يتبع
جواد بولس
كاتب فلسطيني