من سيحمي القدس وأملاك الكنيسة؟
كان السؤال الذي أنهيت به مقالتي في الأسبوع الماضي، التي كتبتها في أعقاب ما نشرته صحف إسرائيلية عن تفاصيل صفقة كبيرة، نقل بموجبها المسؤولون اليونانيون المتحكمون برقبة الكنيسة المقدسية، وبمساعدة مستشاريهم القانونيين العرب وأعوانهم، حقوقًا عقارية نفيسة في أرض تصل مساحتها إلى 528 دونما من أثمن الأراضي الواقعة في القدس الغربية، هذه الصفقة باتت تعرف "بصفقة رحافيا".
من يرغب في استجماع المعلومات الدقيقة عن هذه الصفقة، وعمّا سبقها من صفقات أبرمها هؤلاء في السنوات الأخيرة، لن يجد صعوبةً في الحصول على ما يكفي منها وعلى براهين دامغة بشأنها، فكثير منها كشفته الصحف الإسرائيلية بالمعطيات الكافية ومعظمه نقل إلى عناية من يجب أن يتابعوه، على الضفة الفلسطينية، بحكم مسؤولياتهم الوطنية أو الشعبية والأخلاقية.
أمّا نصيحتنا لأحفاد "توما" أولئك الذين يرفضون تصديق حدوث هذه الصفقات، رغم ما يستشعرونه ويعرفونه، فسنوجزها بأن يحكّموا عقولهم والمنطق، وأن يضعوا أياديهم في باطن الجرح، عساهم يتحققون من فداحة الخسائر وجسامة الهزيمة وهي تنبعث من التراب المغتصب، فليس من الصعب، إذا أرادوا، أن يحصلوا على الوثائق من أقلام المحاكم الإسرائيلية، أو من مكاتب تسجيل الأراضي، لأن بعض ملفات الصفقات أودعها المستفيدون في مكاتب التسجيل والطابو، كي يضمنوا حقوقهم حسب الأصول والقانون.
في الواقع لا حاجة لإزهاق مثل هذا الجهد فنحن، الفلسطينيين، نعايش نتائج تلك الصفقات أمام أعيننا، ونعيش فصول المأساة وهي تتداعى بطعم الدهشة والعجز، وتنتقل بصليبها من محطة على درب آلام تتلو محطة في القدس ويافا والرملة وعكا وقيساريا وغيرها؛ وما يزيدنا وجعًا علمنا بأن القيادة الفلسطينية اشترطت، قبل اعترافها بثوفوليس بطركًا على "أم الكنائس"، أن يحافظ على العقارات، وأن يسلمها سجلًا رسميًا موثوقًا بجميع ما ملكت هذه الكنيسة وما تملك، فهل نفذ رغم مرور أكثر من عشرة أعوام تعهداته؟ هل سلمها السجل؟ وإذا فعل هل راجع الخبراء ما احتواه هذا السجل في الماضي مقارنة بما بقي منها في الحاضر؟ نحن نعرف الأجوبة على ذلك.
فكيف نجح وينجح المتورطون بإبرام مزيد من الصفقات، التي تتراكم عقود تصفياتها وما تدره من أطيان في خزائن المستفيدين منها؟
قد تجيب البديهة البشرية الصارخة في وجوهنا: "من فرعنك يا فرعون" فهكذا كانت الحكمة في صدى التاريخ، حين ردد تراتيل المجتمعات المذعنة الخانعة وهي تداري خوفها والخدائع وترقص على جراحها ذليلة وبرؤوس مقطوفة. تعودنا على أن يصاحب كل إعلان عن صفقة جديدة بعض المشاهد المستنسخة والمكرورة بطريقة نمطية حتى البلادة؛ في البداية يصمت المسؤولون في الكنيسة ومستشاروهم ويتمنعون عن التعقيب، ولا يتعجلون حتى بإطلاق "مويقف"خجول ازاء ما ينشر عنهم من أخبار، بالمقابل تبدأ فرق الأعوان والأبواق بنشر "بيانات توضيحية" بعضها لا يحمل تواقيع ملزمة ومعرّفة وأخرى تدبجها ثلل من المستكتبين العرب المستنجد بهم للدفاع عن البطرك ورجالاته، فيغرقنا بعضهم بتفاصيل جانبية تستهدف ضعاف النفوس، في حين يتخصص آخرون بإمطار فضاءاتنا "بدقائق تاريخية" مغلوطة أو مغرضة، وظيفتها جر عامة الشعب إلى متاهات لا أهمية لها.
بالتوازي مع ذلك، تقوم وحدات من الاحتياط ذات الخبرة في القصف العشوائي، ببث الأقاويل والشائعات والتناقضات المصحوبة بالتساؤلات الوهمية؛ فالبطركية لم تبع عقارًا، بل قامت بإحكاره لمدة طويلة (من خمسين عامًا إلى أكثر من مئتي عام) والبطركية إضطرت لإبرام الصفقة كي تحافظ على الأرض، والأرض أصلًا ليست عربية، بل هي ملك لليونانيين، وإذا لم تنقذ البطركية ذلك العقار من خلال تلك الصفقة، فحكومة إسرائيل كانت ستأخذه عنوة، وما إلى ذلك من مقولات استعمارية استعلائية تستهبل الرعية المسيحية العربية، وتستهر بقدرات "المواطنين المحليين" وتغفل قناعاتهم بكون هذه الشائعات مجرد دسائس كاذبة لا صحة فيها، ولا حتى مقدار نقطة مداد واحدة من "قافات" الحقيقة.
فالحقيقة واحدة وحيدة لا لبس فيها ولا غبار عليها: أملاك الكنيسة الأرثوذكسية القائمة في حدود إسرائيل تتبخر وتنفد، وكثير منها قد نقل وينقل إلى جهات غريبة وبطرق ملتوية وخطيرة، وريوعها تتدفق في جيوب أشخاص محدودين، من دون أن تؤخذ مصلحة الرعية المسيحية العربية بالحسبان، ولا المصلحة الوطنية الفلسطينية القاضية بوجوب المحافظة عليها.
بعد نشر أخبار "صفقة رحافيا" بدأنا نقرأ ونشاهد فصول المسرحية المألوفة، وهي تتوالى تباعًا كما توالت في الصفقات السابقة، ولقد وصلنا في هذه الأيام إلى المشهد قبل الأخير، إذ بدأنا نسمع عن تحرك بعض الجهات الرسمية (الفلسطينية، الأردنية) ومطالباتهم بتوضيحات من قبل المسؤولين في البطركية حول "صفقة رحافيا"، وكما تعودنا فلن ننتظر المفاجآت، لأنه في رد البطركية على ما نشر بخصوص الصفقة ادعى بيانها (عادة يأتي نشر مثل هذا البيان بعد جميع الخطوات الاستباقية المذكورة سابقًا) أن جهات في "اللجنة الرئاسية الفلسطينية العليا لشؤون الكنائس" كانت تعلم "بصفقة رحافيا"، ولذلك بات من المرجح أن "يقتنع" المسؤولون بأن رؤساء البطركية لم يفرطوا بأي عقار، وأنهم ومحاميهم ومستشاريهم ساهرون على سلامة تراب الوطن ويذودون بشراسة عن كل شبر وحجر، وأن القدس فعلًا عروس عروبتهم، وهي في "الحفظ والصون" وكل من قال إنها صارت تتكلم اليونانية والعبرية مخادع ومزايد ومغرض، لقد كانت بصليبها عربية، وللعرب ستبقى عاصمة الأبد بإذن ثيوفولس وهمة مطارنته و" مجمعهم المقدس" ومن لفهم بعطفه وكنفه ونعمه.
أكتب ساخرًا ولعلها سخرية الخائب، أو ربما مرآة لحيرة من وقف أمام الأبواب رافضًا أن يفض الطامعون والمتواطئون "غشاء بكارتها"؛ فأنا وكثيرون مثلي واكبنا "مذبحة الأرض المسيحية" خنجرًا بعد خنجر وصفقة تلتها صفقة، وصرخنا أمام العدم وما زلنا نصرخ: اصحوا يا مسيحيين يا عرب، فحقوقكم تذرى في بيادر الغريب، وقمحكم تدوسه في الليل ذئاب وتسرقه في النهار اللئام وها هو مكدس في أهرائهم التي وراء البحور والجبال؛ وعوا، يا ملح الأرض، أنكم حفنة تبر رماها الزمان، ووجودكم في الوطن صار على كف بطرك و"أخوية" توحدها دماء "هيلاس" وكرهها لكم، ومصيركم بات أضعف من كرسي همزة يتيمة تتأرجح على "أجراس" صارت في مدن الشرق خرساء للأسف أو لكناء. لا تقعوا في الفخ مرة أخرى فـ"توماكم" آمن بعد أن وضع يده في الخاصرة متحسسًا أثر الحربة، ومسيحكم كان يوصيكم وهو مطعون على الصليب: " طوبى لمن آمنوا ولم يروا"، فكيف لم تؤمنوا وأنتم ترون بأعينكم، يومًا بعد يوم، ضياع كنائسكم ونفاد أوقافكم وتيه سفنكم وصواريكم؟
من ينقذ "أم الكنائس" من هذه العتمة، أفي تعريب الكنيسة دواء؟
كانت النسوة يلطمن وينحن على يسوع الحامل صليبه في شوارع القدس، فالتفت إليهن وقال: "لا تبكين علي يا بنات أورشليم، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن".
فيا عرب، أهل البلاد، ابكوا على أنفسكم، أو كونوا رأس الحربة واصرخوا بحنجرة واحدة كفى للقهر كفى للخسارة، لأن المسيحيين الأرثوذكس لن ينجحوا في حمل "الصليب" وحدهم، وعلى إخوانهم في الهم والحلم، مسلمين وعلمانيين، أن يقفوا معهم وإلى جانبهم، فالأوقاف، علاوة على قيمتها الوطنية، يجب أن تبقى مخزونًا يدعم المجتمعات المحلية، خاصة المسيحيين المشرقيين، ويساعد المحتاجين على البقاء في الوطن.
تجارب الماضي كانت مخيبة وما يحيط "بصفقة رحافيا" من إجراءات رسمية ونشاطات شعبية تنذر بالسقطة مجددًا وبالفشل مع أننا بدأنا نقرأ ونسمع أصواتًا معارضة للصفقة ولسياسة الكنيسة اليونانية الرسمية بحق رعاياها العرب، وقد تكون من بينها لافتة تلك الأصوات التي تنادي مرة أخرى بضرورة تعريب الكنيسة، فهل في هذا الشعار سنجد ضالتنا ويكون الشفاء ويستعاد الأمل؟
أنا لا أومن بذلك.. يتبع
جواد بولس
كاتب فلسطيني