بوابات المسجد الأقصى ماضي مجيدٌ وحاضرٌ أليم

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

كأنهم يحقدون على بوابات المسجد الأقصى التاريخية الخمسة عشر، الحارسة للأقصى والأمينة على المسرى، والحافظة للحرم وأولى القبلتين، الأسباط والسلسلة والسكينة، والعتم وحطة والحديد والقطانين، والمطهرة والغوانمة والناظر، وباب المغاربة الحزين، والباب المنفرد والثلاثي والمزدوج، والباب الذهبي المعروف بباب الرحمة والتوبة، وباب الجنائز الصغير، التي كانت موصدة أمامهم، وممنوعةً عليهم، فلا يقدرون على اجتيازها أو الاقتراب منها، إذ كانت حصينةً منيعةً، ومحميةً محروسة، يقف عليها رجالٌ أمناء وحراسٌ أشداء، فلا يستطيع العدو اختراقها أو التسلل منها، أو اختراق أسوار المسجد الأقصى القديمة التي تحدد مساحته وتحصر بينها حرمه، فبات من الصعب على اليهود الولوج إليه من بواباته، أو تسلق أسواره خلسةً وخفيةً.

إذ كان سكان المدينة المقدسيون المسلمون يمنعونهم بالقوة، ويحرمون عليهم استخدام أبواب المسجد الأقصى أياً كانت حجتهم أو ذريعتهم، فقد كانوا لا يأمنون جانبهم، ولا يصدقون حجتهم، ولا يقتنعون بروايتهم، إذ ما توقفوا يوماً على مدى التاريخ عن خرافاتهم، وما أخفوا أحلامهم، ولا امتنعوا عن التبشير بأساطيرهم، وإعادة رواية التاريخ وفق أهوائهم، واعتادوا في كل الفترات على الغدر والخيانة، والتحالف والتأليب، والتآمر والانقلاب، ولكن المسلمين انتبهوا لهم، وعرفوا حقيقتهم، فأغلقوا دونهم الأبواب، ورفعوا أمامهم الأسوار، وأحكموا دونهم الرتاج والأقفال، وما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها لولا المؤامرات والتحالفات المعادية.

بوابات المسجد الأقصى لم تكن مجرد أبواب يعبر منها المصلون دخولاً وخروجاً من وإلى حرم المسجد، وإنما كان في بعضها مآذن شاهقة تحمل كلٌ منها اسم البوابة وتدل عليه من بعيد، ليُستدلَ على المسجد الأقصى ويهتدي إليه المصلون والزائرون من مكانٍ بعيدٍ، وقد بناها الملوك والسلاطين لتكون علامات قوة ورموز عزة، يصدح الآذان من فوقها، ويسمع المسلمون النداء من أبراجها العالية، وما زالت أربعة مآذن قائمة، تحدت الزمن وصمدت أمام الزلازل، ولم تركعها الحروب والمعارك، وكان القائمون على المدينة وحراس المسجد يغلقون الأبواب إذا شعروا بخطر، ويمنعون الغرباء من الدخول إلا إذا تأكدوا من هويتهم وعرفوا غايتهم، وبذا حافظوا على الكثير من تراث الأقصى ومحفوظاته.

الأبواب الخمسة عشر الشاهدة على المسجد الأقصى والمطلة على باحاته والمفضية إلى ساحاته ليست مفتوحةً كلها، بل إن بعضها وهي خمسة قد أوصدت منذ زمنٍ طويلٍ، ولم تعد تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستخدامها، بينما بقيت عشرة أبوابٍ مفتوحة، يستعملها المصلون والزائرون في الدخول والخروج ولكن وفق معايير مختلفة وسياساتٍ ضابطةٍ متشددة، حيث يقف على مداخلها من الجهتين جنودٌ وحراسٌ إسرائيليون، وعناصر من شرطة المدينة وبلدية القدس، كلهم يدقق في هويات المصلين، ويتحكمون في عدد المسموح لهم بالدخول، ويحددون لبعضهم المدة المسموح لهم فيها بالبقاء داخل المسجد، حيث يسحبون أحياناً بطاقات بعضهم الشخصية ويحتفظون بها عندهم، ويعيدونها إليه عند خروجه من المسجد من نفس البوابة التي دخل منها.

لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي صادرت مفاتيح باب المغاربة عندما احتلت الشطر الشرقي من مدينة القدس ومن ضمنها المسجد الأقصى المبارك، عملت على تسخير هذه البوابة لخدمة المستوطنين والمتدينين اليهود، والوزراء وأعضاء الكنيست وزعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة، وزوار المسجد الأقصى من عموم اليهود ومعهم سواحٌ من مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي جعل من هذا الباب بوابةً للشر ومدخلاً لشذاذ الآفاق وحملة الأفكار العنصرية المتطرفة، وبؤرةً لتجمع والتقاء المقتحمين اليهود، الذين اعتادوا بحماية الجيش والشرطة على اقتحام الحرم وتدنيسه والعبث فيه، في الوقت الذي لا تسمح فيه للمواطنين العرب بالمرور منه أو استخدامه في أي وقتٍ، علماً أنها تتحكم في جميع الأبواب الأخرى، وتستخدمها كيف شاءت، وتغلقها حين تريد، وإن كانت تدعي أن مفاتيحها مع حراس المسجد العرب.

الإسرائيليون الجدد ذراري اليهود القدامى وحملة الأفكار الصهيونية العنصرية المعاصرة، يدركون أن هذه الأبواب شاهدةٌ على ذلهم، وناطقةٌ بصغارهم، وتسجل عبر التاريخ صفحات انكفائهم، وتدون على مر الزمان ندرة مرورهم، وشدة هوانهم، وطول وقوفهم أمامها، وهم يذكرون ما مرت به أجيالهم، وما عانت خلالها شعوبهم، ولهذا فإنهم يكرهونها ويحقدون عليها، ويريدون هدمها وطمس معالمها وتغيير هويتها، لتكف عن فضيحتهم، وتنهي الشهادة على تاريخهم، فتراهم يغلقونها حيناً، أو يوصدونها دوماً، ويتعمدون إهانة المسلمين أمامها، وإطالة مكوثهم قبالتها، وإن سمحوا لهم بالعبور فإنهم يهينونهم تفتيشاً وتدقيقاً في بطاقاتهم الشخصية، فيسمحون للبعض بالدخول ويحولون دون آخرين وفق معايير عمرية وأخرى أمنية.

لا يمكن لسلطات الاحتلال الإسرائيلي أن تنسى بوابات المسجد التي تذكرهم بصلاح الدين الأيوبي محرر القدس ومطهر المسجد الأقصى، ومجدد مجد العرب والمسلمين فيه، وهو القائد الفذ والعبقري الألمعي، الذي استعاد القدس ومسجدها، وأعاد للعرب والمسلمين ألقهم الذي كان، وبريقهم الذي كاد أن يذهب تحت سنابك خيل الصليبيين، إلا أنه دحرهم عن القدس ومسجدها، وقهرهم بالقوة وأخرجهم منه عنوةً، وقمع وساوس اليهود في ما يسمونه بـ "جبل الهيكل"، وقضى على أحلامهم القديمة وأطماعهم فيه، وحافظ السلاطين من بعده على طهر الأقصى وسيادة المسلمين فيه، وفتحوا في أسواره أبواباً حملت أسماءً معبرة، وبقيت إلى يومنا هذا معمرة، وإن كان العدو قد أغلق بعضها، فإنه يقف عاجزاً أمام غيرها، وهي القديمة المهترئة، الضعيفة الصدئة، إلا أنها ثابتة وباقية وصامدة، ومنها بإذن الله سيدخل الفاتحون، وسيعبر الأبطال والمقاومون، ومن فوق مآذنها ستصدح صيحات الله أكبر وتهليلات المنتصرين.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

بيروت في 20/7/2017