اتهمت إسرائيل كل الأطراف بأنها تقف وراء العنف إلا نفسها وسياساتها وإجراءاتها غير المسبوقة، اتهمت إسرائيل الرئيس محمود عباس، وبدأت بالتحريض عليه منذ الآن واتهمت حركة فتح فاعتقلت بعض رموزها في القدس، واتهمت الشعب الفلسطيني في القدس وفي مناطق 1948، وتحاول الآن الانتقام من كليهما، واتهمت أعضاء الكنيست العرب وطالبت بمحاكمتهم، واتهمت بعض القنوات الإعلامية، ولم يوفر نتنياهو فرصة للقول إنه بصدد إغلاق بعضها أو طردها من القدس المحتلة، واتهمت حتى أجهزتها الأمنية، مثل الشاباك، الذي تم التحريض عليه بشكل غير مسبوق، إلى درجة احتدام معركة إعلامية بين المستوى الأمني والسياسي.
لم تستطع إسرائيل بحكومتها المتطرفة الحالية أن تدين نفسها أو إجراءاتها التي تهدف إلى المس بعقيدة مليار وسبعمائة مليون مسلم، ولم ترَ الشناعة المتناهية في إذلالها للشعب الفلسطيني في القدس والداخل، وفي مدن الضفة الغربية، لم ترَ احتلالها وبشاعته وفعلها بالفلسطينيين، لقد أسكرت القوة زعماء إسرائيل الحاليين الذين أثبتوا أنهم لا يتحملون المسئوليات الكبيرة، وأنهم لا يرتقون إلى مصاف رجال الدولة الكبار، الذين يُظهرون أحسن ما فيهم أوقات الأزمة، زعماء
إسرائيل الحاليين – صغار العمر وصغار الرأس أيضاً – تصرفوا بخفة شديدة، وقامت خطواتهم على تخويف جمهورهم وتخديره واللعب بعواطفه والتفكير من البطن لا من الرأس، وكان كبيرهم، بنيامين نتنياهو، هو من يقود هذه السمفونية المجنونة والطائشة، وخرج من كل ذلك كما وصفته الصحافة وبعض زعماء إسرائيل السابقين، بأنه الخاسر الأكبر.
الآن وبعد أن رضخت إسرائيل للإرادة الشعبية الفلسطينية، التي التحمت فيها الجماهير بقيادتها الشرعية، ووصلت الرسالة قوية وواضحة، أن لا عبث بالمسجد الأقصى ولا حقوقنا الأبدية فيه، وبعد أن عرف الإسرائيلي المحتل أنه لا يقاتل الفلسطينيين فقط، وأنه لا يستطيع أن يتعامل مع الأقصى باعتباره بناية أو مجرد عقار قابل للمصادرة أو المحاصرة أو المحاصصة.
الآن، فإن من الممكن استخلاص الكثير من الأسبوعين الذين شهدا الأزمة القمعية والعنيفة، ويمكن لنا أن نبني من خلالهما ومما تراكم فيهما ما يلي:
أولاً: المواقف التي اتخذها الرئيس محمود عباس مؤخراً، عدّلت – برأيي – الميزان، بحيث تصبح المعادلة أننا شركاء في التسوية، شركاء في المنافع، شركاء متساوون وأنداد، لا وكلاء ولا وسطاء، على إسرائيل أن تتوقف عن اعتبارنا أو التعامل معنا وكأننا مهتمون لاحتلالها أو ضحاياها الرائعون الذين لا يبكون ولا يشكون ولا "يُحرّضون" ولا يشتكون للعالم، إسرائيل تريدنا أن نكون "العبيد الطيبون" الشاكرون لفضائلها، برأيي أن على هذا الوعي المريض أن يتوقف مرة واحدة وإلى الأبد.
ثانياً: بناءً على النقطة السابقة، فإن بعض الغضب لا يضر إن لم يكن نافعاً جداً، إن من حقنا التعبير عن غضبنا حسب الهوامش التي حددناها، وحسب الهوامش التي تحددها الظروف والمصالح، وقد بلغ الأمر حداً لابد معه أن نواجه المحتل في الميدان، بعد الذي جرى في الأقصى، بوسائل مقاومة شعبية قد تتصاعد أو تتخامد حسب سياسات إسرائيل وإجراءاتها، وكذلك في المستوى السياسي والدبلوماسي في الإقليم والعالم، فعلى إسرائيل أن تتوقف أيضاً عن التعامل مع سلطتنا الوطنية وقيادتنا الوطنية وكأنها تتكرم علينا بالتنسيق الأمني أو الهدوء أو البقاء، نحن هنا، شعباً وسلطة وفصائل، ليس بسبب كرم إسرائيل أو بذخها أو حسن أخلاقها.
ثالثاً: دعوة الرئيس إلى المصالحة الوطنية دعوة يجب أن تُلتقط، وأن تُطوّر، وأن تدرك حماس أن التجرؤ على الأقصى وعلى الأرض وعلى العرض وعلى الكرامة، لم يكن ولم يتصاعد إلا بسبب الانقسام الحاد الذي نعيشه، والذي قامت به منذ عشر سنوات، وشكّل أعمق حالة مرضية يشهدها المجتمع الفلسطيني بعد عام 1947، إن مصالحة وطنية حقيقية ستضمن بالتأكيد للقيادة الفلسطينية قدرة أكبر وهامشاً أعرض ووسائل أكثر لمواجهة السيناريوهات المخيفة التي قد تُدخلنا إليها سياسات اليمين الإسرائيلي المتهور.
رابعاً: تميزت القيادة الفلسطينية في ثبات موقفها وحزمه واستمراره والدفاع عنه، وإعلانها أنها تتحمل تبعاته، هذا الموقف خلق حالة شعبية متجددة في الشارع من جهة، وأوصلت رسالة قوية للمحتل أن الأمور لم تعد كما كانت في السابق من جهة ثانية ، ثبات الموقف انعكس أيضاً على السلوك السياسي تجاه المحتل وتجاه الإقليم وتجاه المجتمع الدولي.
خامساً: من أهم نتائج الأسبوعين الماضيين هو تجربة المقاومة الشعبية السلمية، التي أبدع فيها الفلسطينيون، حيث الحشد الكبير الذي تسلح بالصلاة والدعاء، رغم النار والدخان والضرب والاعتقال، هذه تجربة في المقاومة السلمية تُدرّس للأجيال، استطاع الفلسطينيون خلالها أن يثبتوا اعتصاماً سلمياً في مدينة عالمية، واستطاعوا أن يحافظوا على سلميتها، رغم عسف المحتل وجبروته واستدراجه لهم باستخدام وسائل أخرى، إن الاعتصام السلمي في أزمة القدس وحول المسجد الأقصى جرّد المحتل من كل أسلحته.
سادساً: إن الثقة المتجذرة بين القيادة والشعب، هي من وضع نهاية سعيدة لهذين الأسبوعين الماضيين، ذلك أن التناغم والتنسيق بين القيادة الشرعية وبين القيادة الميدانية للمواطنين في اعتصامهم، جعل من الخطوات والقرارات التكتيكية تصب في خدمة الهدف الأهم والأعلى، إن هذه التجربة يمكن تقييمها وتعميمها فيما سيأتي من تجارب.
سابعاً: كان يمكن لدعوة الرئيس محمود عباس للمصالحة أن يتم تطبيقها، وكان يمكن لهذا الاعتصام والانتصار أن يوحد الفلسطينيين، لكن للأسف، لم يتم التقاط الدعوة ولم يتم ترجمتها حتى الآن، إن ذلك يشكل خسارة كبيرة، وعلى الجميع أن يعرف أن ما جرى خلال الأسبوعين
الشهيرين قد يكون مؤشراً على مستقبل النخب إن لم تنتبه إلى مصالح ومطامح وآمال وأحلام الجمهور.
وفي الختام، نحذر من طيش نتنياهو وحكومته، حيث سيطلق يد مستوطنيه ليعيثوا فساداً في أرضنا والتعرض لمواطنينا، وسيعلن عن إنشاء مستوطنات جديدة، وسيرفع الصوت مهدداً قيادتنا السياسية، وخاصة الرئيس أبو مازن، الذي قاد معركة السيادة على الأقصى، ومن هنا نرى بأن المعركة لم تنتهي بعد، وبالتالي، من الضروري على الكل الوطني بالتداعي، ووضع برنامج نضالي، يتعاطى مع المرحلة الجديدة من الصراع مع هذا الاحتلال البغيض، آخذين بعيم الاعتبار دور الأردن الشقيق، الذي يعتبر شريكاً لنا في كافة قضايا الحل النهائي، وليس في المقدسات فقط.
بقلم/ اللواء د. محمد المصري