تكلّم ومُت...أكتب ومُت
إذا كان لديك ماض لا يرضيك انسه الآن... لقد مضى... وتخيل قصة جديدة. غيّر حياتك وآمن بها (باولو كويلو) ، وها هو الكاتب الجزائري حسان أحمد شكاط في روايته " ذاكرة عالقة " (الصّادِرة عن "دار الأوطان"، تحوي 128 صفحة من القطع الصغير) يروي قصة هشام الرايس، صحافي ناجح يعمل في صحيفة تصدر بمدينة سكيكدة الجزائريّة، مرّ خلال مراهقته وشبابه أحداثًا مؤلمة علقت بذاكرته وأخذ يستحضرها فاختلط عليه بالخيال، منها انحراف أبيه وموته، انتحار أصدقائه، وقصة "العاشق السفّاح" التي قام بتغطيتها في بداية مشواره المهني . وتتحدّث الرواية عن صديقه الكاتب عبد الحفيظ المحواج الذي يعاني من عقدة فشل بعد روايته الأولى التي لم تلق رواجا ويحاول مساعدته للخروج من إحباطه، وتتطرّق إلى الصراعات بين المثقفين الجزائريين أبان الثورة، معاناتهم والحساسية المفرطة بينهم. يستخدم الكاتب، ببراعة، طيفًا هلاميًا يظهر بين الحين والأخر لبطله فيحوّل حياته إلى جحيم ويجعله يستحضر ذكرياته المريرة العالقة التي تنغص عيشه.
حسان كاتب جزائري يطلّ علينا بروايته الأولى ، القطرة الأولى من غيث قلمه، فتخرج القريحة لتعلن تمردها إجلالا، لتكسر السكون وتعطي مدينة الرواية العربيّة الحديثة جزءًا من حقها فتنبئ ببداية مسيرة روائيّة واعدة تشقّ طريقها الحتميّة لتحتلّ مكانًا ومكانةً على الساحة الأدبيّة العربيّة.
قرأت الرواية بشغف ونهم بسبب لغتها الانسيابية السلسة وأسلوبها المشوّق، حيث تجذب القارئ بغموضها لفك طلاسمها ومعرفة المزيد من أحداثها وسيرة بطلها ومصيره، تحثك على قراءتها المتواصلة بشغف ونهم .
عنوان الرواية يوحي إلى الماضي ، فذاكرة الانسان تحمل الكثير وما فيها من أهل وأصدقاء وأحبّة ووطن وفقد وغربة وتهجير وأخريات، وعبر الماضي تتطرق الرواية إلى عدة جوانب اجتماعية خفية من اجرام وتعقيدات، عنف مجتمعيّ ومخدّرات وانتحار تجمع الحب والموت ليمتزجا فيما بينهما ليشكلا خليطا من الواقع الجزائري المرير، حيث أن القدر من يوزع الأوراق، لكن نحن من يلعبها (راندي بوش).
كي تكونِ أديبًا في يومِنا هذا، عليك أن تكون مثقّفًا، وإحسان نِعمَ المُثقّف - حيث أخذنا معَه بلباقة عبر الأديب التشيكي فرانز كافكا وروايته "التحوّل" مرورًا بالروائي المغربي محمد شكري وروايته "الخبز الحافي" معرجًا على الشاعر الفلسطيني محمود درويش ورثائه لغسان كنفاني مسترسلًا مع شاعر القدس تميم البرغوثي ، وتدلّ قراءة الرواية على سعة اطّلاعه وثقافته المتنوعّة ، نجده موفّقا عندما استحضر رواية "طريق التبغ" لأرسكين كالدويل، رواية "غاتسبي العظيم" لفرنسيس فيتزجيرالد والرواية الخالدة "الشمس تشرق أيضًا" لأرنست همنغواي دون تكلّف فاضح فجاءت تخدم النص، بدون تصنّع مبتذل.
لفت انتباهي أسلوب حسان الحداثيّ ، فلولا الحداثة لما عَرَفت العربيّةُ منجزًا وبقيت متخلّفةً عن روح العصر، بعيدةً عن روح العلم، فإعادة النظر في الموروث الفكري، القيم الانسانية الحديثة والابداع المستمر وتحول اهتماماتُه إلى أن يكون معنيًّا بالإنسان وبالتجربة الإنسانية، معنيًّا بحضوره في زمانه، رافضًا كل خضوع للماضي وتقاليده ومتحرّرًا من النمطية الروائية ليصبح الإنساني، المعاصر، الرافض والمتحرّر، بعيدًا عن نمطية النظرة الدينية الفقهية، أي من سلطة المعجم والماضي، مقدّساً كان أو تاريخيّاً، ودفعه إلى اتجاه التفكير الفلسفي والحدس وتحريض اللاوعي وتراسل الملَكات وفتحِه على المغامرة الإنسانية الكبرى.
راقني تناصّه مع المقولة المشهورة لشهيد الكلمة – الروائي الجزائري التقدمي الطاهر جاووت الذي اغتيل بالرصاص عام 1993 إثر كتابته مقالة بعنوان "العائلة التي تتقدم، العائلة التي تتأخر" – "إذا تكلمت تموت وإذا سكت تموت، إذن تكلّم ومُت." حيث يقول حسان "إن تكتب تموت وإن لا تكتب تموت إذن أكتب ومت"!
حسان تقدميّ بفكره وكتابته، متفائل إلى أبعد الحدود، آمل بتغيير الواقع المر حاذ حذوّ الممثل الأمريكي توم هانكس في فيلم "فورست غامب" الذي كان يمتلك موهبة الركض سريعًا من دون أن ينال منه التعب ... وقطع عدة ولايات أمريكية جريًا على قدميه، وأكثر من هذا قام بإنقاذ عشرات من زملائه الجرحى في ساحة المعركة في الفيتنام عندما قام بحملهم والركض بهم واحدًا واحدًا إلى مكان أكثر أمانًا، علّهم ينسون الماضي ويبدأون قصة جديدة يؤمنون بها تغيّر حياتهم .
لفت انتباهي العلاقة بين عنوان الرواية ولوحة الغلاف الرائعة والمُوَفّقة اللتين تُصوّران الكتاب، مما يزيد الكتاب رونقاً ويساعد القارئ العادي على فهم المقروء كما نجح حسان.
إنها حقًا لرواية جديرة بالقراءة لروائي واعد وبداية موفّقة .
المحامي حسن عبادي