قضية المسجد الأقصى

بقلم: ماهر الجعبري

لا يمكن فصل ما يجري من تهويد متصاعد للمسجد الأقصى ومن مشروع التقسيم فيه، ومن عدوان على أهله وعلى المرابطين فيه، عن طبيعة الحكومة الليكودية المجرمة والأشد عداوة على الإسلام وعلى أهل فلسطين، والتي جمعت ما بين الرؤية السياسية المتمسّكة بالسيادة اليهودية الكاملة على فلسطين والرافضة لحل الدولتين، مع النظرات التلمودية للأحزاب المتطرفة، وتعززت فيها التوجهاتُ العدائيةُ، وعلت الرؤى التوراتية فوق النظرات السياسية التي كانت قد أفسحت المجال لمسار التفاوض، وضمّت "الحاخامات المندفعين نحو تهويد المسجد الأقصى، وفرض سيادتهم عليه، والذين يدعون إلى اقتحامه وأداء طقوسهم فيه وطرد المسلمين منه، ومنهم من يصرح بهدمه لإعادة بناء الهيكل المدّعى"، كما تحدثنا في العدد 44 من جريدة الراية في 23/9/2015، تحت عنوان "العدوان على الأقصى: التقاء الدوافع التلمودية مع الغايات السياسية". وقلنا فيه أن ذلك "يجعل الوضع في القدس مفتوحا على مزيد من الانفجار، ويدق ناقوس الخطر في الأمة الإسلامية، وهو يوجب عليها أن تستيقظ قبل أن لات حين مندم". ولذلك فإن هذا التهويد والعدوان عاصفة جديدة ضمن ذلك الإعصار اليهودي المتصاعد في التحدي الحضاري والعقدي للمسلمين.

وأمام هذه الحقيقة الصارخة حول الطبيعة الدينية لهذه الهجمة والعدوان تبرز التساؤلات الكبيرة حول محاولة تصوير هذا المشهد الصدامي على أنه مجرد أزمة عابرة يُمكن أن تُحل بالحراك الدبلوماسي، أو التواصل السياسي عبر الأنظمة التي مدت جسور التطبيع والتنسيق مع كيان يهود جهارا نهارا، مثل قطر وتركيا ومصر والسلطة الفلسطينية...، أو تلك التي لم تتعر بما يكفي بعد، كالسعودية. وتبرز التساؤلات الأخرى حول ما يحاوله "القادة" من نفي وصف "الحرب الدينية" عمّا يجري حول المسجد الأقصى، الذي ارتبط بعقيدة المسلمين وبتاريخهم، والذي يريد قادة يهود أن يجعلوا أرضه خالصة لهم ولهيكلهم المزعوم، بل ويُقر لهم بعض "القادة الوطنيين!" بحقهم الديني المزعوم في حائط البراق. ومن بعد ذلك تبرز التساؤلات الأكبر - إن لم نقل الاتهامات - حول كل خطاب سياسي أو إعلامي (ولو حمل اللقب الإسلامي) يحاول تصوير قضية المسجد الأقصى على أنها قضية وطنية، بل ويحاول تصوير مناوشات المقاومة الفلسطينية كبديل عن حرب الجيوش لتحرير المسجد الأقصى وفلسطين، ومن بعده ذلك الخطاب "المشيخي" الذي نظر لقضية الأقصى من باب فقه الأرامل واليتامى لتقديم المال والمساعدات بدل أن ينظر له من باب الجهاد والفتوحات لتحريك الجيوش.

هذه الحقائق وتلك التساؤلات توضح بما لا يدع مجالا للشك أننا أمام قضية إسلامية عقدية عسكرية، تخص أمة من مليار ونصف المليار المسلم، تمتد على جناحي عقاب عملاق ما بين إندونيسيا والمغرب، وأن المسجد الأقصى مهوى أفئدتهم، وأن بيت المقدس متضمن بوعد رسولهم صلى الله عليه وسلم أن لا تقوم الساعة حتى تنزل الخلافة فيه.

ومن هنا، فإن النظرة العقدية الصحيحة لقضية المسجد الأقصى وفلسطين تكشف خيانة الحكام جميعا، من اعترف منهم بأنه خانع، ومن ادّعى أنه ممانع، ومن ضلل بدعم المقاومة وأذرعها السلطوية، عسكريا أو سياسيا أو اقتصاديا، وخصوصا أن هذا التحدي اليهودي لعقيدتهم ولقبلتهم الأولى لم يحرّك شعرة في أجسادهم، ولم يجرؤ أي منهم على رفع مستوى ردة فعله عن اتصالات الاستجداء لفتح أبواب المسجد الأقصى وإبقاء الوضع على ما هو عليه، وهو وضع احتلال بغيض باطل!

وهذا الحديث عن الخيانة ليس من باب الشتم والتخوين بلا حجة، مما يحاول البعض الدفاع عن الحكام عبر طرقه، بل هو وصف لواقع مخز للحكام حيثما ولّوا وجوههم، وحيثما حلّوا، فهم قد عطلوا الإسلام عن الحكم، وانخرطوا في الحرب الأمريكية عليه بدعوى "الحرب على الإرهاب"، وهم الذين حرّكوا طائراتهم ودباباتهم في كل اتجاه يريق دماء المسلمين: في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وأفغانستان والباكستان... بينما اتفقوا جميعا على أمن كيان يهود وحفظ دماء جنوده ومغتصبي فلسطين، بل تجرّأ بعضهم على تجريم من يقاومه، كما فعلت أمراء الخليج ومصر.

ومن هنا، فإنه لا خلاص للمسجد الأقصى ولا فكاك له من الأسر إلا بالعمل السياسي - أولا - لحشد الأمة الإسلامية على مشروع التحرر من الهيمنة الغربية، وخلع عملائها، وإعادة الإسلام للحكم في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، لاستعادة الإرادة العسكرية للجيوش الإسلامية، بعدما سخرها الحكام في مؤامراتهم وفي حماية عروشهم وفي قمع المسلمين الثائرين، ومنعها من أن تقوم بواجبها الجهادي الذي لأجله تكون. ومن ثم العمل العسكري للجيوش القادرة على أداء مهمة التحرير بفعالية.

ومن الغرابة أن بعض المسلمين ممن انخدعوا بمؤامرة التخذيل عن دعوة الجيوش للجهاد، يستدبرون تاريخا طويلا من الحروب العسكرية التي خاضها المسلمون، والتي صنعوا من خلالها أمجاد الأمة وحررّوا بلادها، وهم إذ يتغنون ببطولات خالد وصلاح الدين وقطز وبيبرس، يتجرؤون على الدعوى بعدم جدوى "الجيوش"، في تناقض ثقافي صارخ، وفي تجاوز للحكم الشرعي الذي أوجب نصرة الجيوش الإسلامية.

بل والأغرب من ذلك، أن أولئك المخدوعين يستمرؤون الدعاوى الباطلة للتدخل الدولي (الاستعماري) أو لعقد قمة عربية للحكام المتآمرين، بينما ينكرون ويتنكرون لدعوة الجيوش للجهاد من أجل التحرير، ولو تأملوا الموقف قليلا لوجدوا أنهم بذلك - من حيث علموا أو لم يعلموا - يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف!!

إن الجيوش ليست كيانات سياسية حتى نحمّلها جرائم خيانة الحكام، بل هي أذرع عسكرية، تنقاد بأوامر الضباط الذين إذا ما انحازوا لعقيدتهم حسموا أمر التغيير الجذري، وغيروا معادلات السلم والحرب بين المسلمين وأعدائهم، ومن ثم أعادوا للأمة مجدها وعزها.

ونختم هذا المقال بتحية إسناد للمرابطين حول المسجد الأقصى من أبناء بيت المقدس، ممن يعبرون عن عقيدة الأمة ويذكرونها بواجبها تجاهه، وقد تعالت أصوات الكثيرين منهم تسنتصر الجيوش وتفضح صمت الحكام، بينما ظلت الفضائيات الخانعة والممانعة تعتم على دعوتهم تلك، حفاظا على مصالح الحكام الذي يضخّون في شرايينها الدولارات، وهي التي ترصد عدساتها كل حراك يدعو للتدخل الدولي أو للأنظمة العربية ولو ضم العشرات أو المئات، بينما تتعامى عن الحراك الجماهيري الذي يستنهض الجيوش ولو ضم الألوف، كما في الوقفات الجماهيرية التي نظمها حزب التحرير في رام الله والخليل وقطاع غزة الأسبوع الماضي. وبعون الله لن يطول الزمان حتى يدور دورته، ويعود للعسكر الإسلامي دوره.

بقلم/ د. ماهر الجعبري