في الرابع عشر من تموز الماضي وقعت احداث خطيرة في مدينة القدس وعلى ابواب وفي ساحات الحرم القدسي الشريف . شباب من مدينة أم الفحم لهم بالتأكيد اعتباراتهم أطلقوا النار على عناصر في الشرطة الاسرائيلية وكان ما هو معروف للجميع . حكومة اسرائيل حاولت توظيف أحداث ذلك اليوم لخلق وقائع جديدة استهدفت عروبة المدينة المقدسة والمس بمكانتها الدينية ومكانتها السياسية عند الشعب الفلسطيني وفي العالمين العربي والاسلامي وبدأت بنصب بوابات اليكترونية تطورت لاحقا الى كاميرات ذكية وحواجز وترتيبات شتى . بحجة الأمن توجهت حكومة اسرائيل لاستغلال الحدث لترجمة مخططات مبيتة لم تعد خافية على أحد ، وهي مخططات تستمد مبرراتها من حكايات الأساطير وروايات العرافين .
وقد كنت وأنا أتابع معركة الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف استجمع الطاقات لمشاركة جالياتنا الفلسطينية الكريمة في هذه المعركة الوطنية ، واستحضر من الذاكرة شيئا من الماضي حول ما كنا نسميه في جيل الشباب في الجامعات بلاهوت التحرير ، حيث كان رجال الدين في بلدان أميركا اللاتينية يحاولون تفسير الكتاب المقدس من خلال الانتماء والانحياز لقضية السواد الاعظم من السكان الفقراء في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي حين كانت حركات التحرر الوطني والاجتماعي تحرز المكاسب وتنتشر بين الفقراء بسبب تركيزها على العدالة الاجتماعية ، وبما يسمح للفلاحين الفقراء المشاركة في إعادة توزيع الثروة وبالتالي تحسين وضعهم ومكانتهم الإقتصادية في الحياة . تشكلت في حينه مرجعيات دينية في ظاهرها وسياسية اجتماعية في جوهرها تدافع عن حقوق ومصالح الفلاحين الفقراء . لاهوت التحرير في حينه انتقل من اوساط الفلاحين الفقراء في اميركا اللاتينية الى اوساط الزنوج الفقراء في أميركا الشمالية وكان يحرك جمهورا واسعا من الزنوج والملونين والمعدمين دفاعا عن حقوقهم ومصالحم ، فاكتسب الدين صفة تحررية على المستويات السياسية والاجتماعية .
المقارنة والمقاربة بين لاهوت التحرير في حينه كمرجعيات دينية وسياسية وبين المرجعيات الدينية ، التي قادت معركة الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف ، ليست عادلة لاختلاف الظرف والمكان والزمان واختلاف التقاليد والمورورث الثقاقي والتاريخي ، رغم أن في موروثنا الثقافي والتاريخي صفحات مشرقة في التنوير ظهرت قبل لاهوت التحرير بقرون طويلة بدءا من ابن باجة مرورا بابن طفيل وصولا الى ابن رشد وما قبل وما بعد . ورغم ذلك فقد تقدم الصفوف في معركة الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف مرجعيات قدمت الدين على قاعدة جديدة وحولته الى رافعة من روافع العمل السياسي الوطني القادر على توجيه تحرك جموع المقدسيين بل جموع الفلسطينيين نحو هدف سياسي وطني واضح عنوانه الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس الشرقية بمواطنيها وحاراتها ومقدساتها الاسلامية والمسيحية باعتبارها مدينة محتلة ، حق السيادة عليها وفقا للحقوق التاريخية ووفقا للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية حق حصري للشعب الفلسطيني .
وفي سياق المعركة تحولت المرجعيات الدينية الى قيادة سياسية ، تذكرنا بالقيادة الوطنية الموحدة في السنوات الاولى للانتفاضة المجيدة عام 1987 ، تقود عمليا حركة عصيان وطني بكل ما للكلمة من معنى ، ليس فقط ضد أجراءات سلطات الاحتلال بل وضد مشروعها السياسي في مدينة القدس ، بعد أن حاولت استخدام الأمن والترتيبات الأمنية مظلة لحسم مسألة السيادة على المدينة على نحو يسمح بتجاوز تجربة التقسيم الزماني والمكاني التي قامت بها في الخليل بعد جريمة الارهابي اليهودي باروخ غولدشتاين وذلك في المدينة التي تزعم أنها عاصمتها الأبدية . كانت مظاهر العصيان الوطني واضحة تماما في مدينة القدس ، مرجعيات تتعامل بأفق سياسي واضح مع إجراءات ومناورات سلطات الاحتلال وتقرر رفضها ورفض الدخول في مفاوضات بشأنها وجماهير تنضبط لقرارها على نحو يثير الفخر والاعجاب منذ بداية الآزمة وحتى اللحظات الأحيرة للأزمة المفتعلة في باب حطة قبيل صلاة العصر في يوم النصر المجيد .
وكان سر نجاح تلك المرجعيات في قيادة حركة العصيان الوطني في الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف من بين أمور أخرى واضح وضوح الشمس ، فقد التزمت تلك المرجعيات بالعودة في قراراتها لمرجعياتها ، التي
كانت تحتل الساحات في صلواتها أمام بوابات الحرم القدسي الشريف ، الأمر الذي دفع سلطات الاحتلال الى التراجع عن إجراءاتها وتدابيرها لإدراكها استحالة كسر إرادة المقدسيين وتحوطا من اتساع نطاق العصيان الوطني وامتداده الى شوارع وساحات وطرقات الضفة الغربية المحتلة . معركة الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف لم تدر في الغرف المغلقة ولم تدرها المرجعيات من وراء ظهر مرجعياتها ، التي كانت تحتل الساحات على بوابات الحرم ، بل دارت في العلن وعلى ملأ من الرأي العام ، الأمر الذي اكسبها القوة والمصداقية .
وإذا كان هو ما حصل في معركة الدفاع عن القدس والحرم القدسي الشريف ، فإن منطق الأمور يرشدنا الى مقاربة جديدة في خوض معاركنا مع عدو لا يكتفي باحتلال ارضنا بل ينازعنا السيادة على هذه الارض من خلال زرعها بمئات المستوطنات الاستعمارية ومئات البؤر الاستيطانية ، التي تحولت كما يعرف الجميع الى ملاذات آمنة لإرهاب الجماعات اليهودية اليمينية المتطرفة . المقاربة الجديدة تفيد بأن الحاجة قد اصبحت ماسة لقيادة وطنية تقطع مع ماضي أوسلو البائس وتعيد بناء العلاقة مع اسرائيل باعتبارها دولة احتلال استيطاني ودولة ابارتهايد وتمييز عنصري وتطهير عرقي والتعامل معها على هذا الاساس على المستويات الوطنية والاقليمية والدولية وتبدأ بخطوات فك ارتباط تدريجي بدءا بالوقف الشامل للتنسيق الأمني مع سلطات وقوات الاحتلال مرورا بفك الارتباط في سجل السكان وصولا لفك الارتباط بسجل الاراضي في سياق التحضير للعصيان الوطني الشامل في وجه الاحتلال .
بقلم/ تيسير خالد