(4)لكل حادث حديث
والتبرير الجاهز للتقليل من أهمية التشبث بالهوية الوطنية الفلسطينية هو أن الوضع العربي والإسلامي الحالي هو كما وصفت وأسوأ، ولكن هي حالة مؤقتة وغدا ستقام دولة الخلافة، أو الدولة العربية القومية التقدمية الحرة الأبية...إلخ وسترى الفرق الواضح!
حسنا فلتقيموا تلك الدولة على أرض الواقع وبعد أن أرى تطبيقا فعليا ملموسا لشعاراتكم سأفكر بالأمر، فلست مستعدا لشراء سمك في البحر، وقد تبين أن أي دولة يهمها الحفاظ على نفسها وقادتها، ولديها استعداد في سبيل هذا الهدف، أن تتخلى عن فلسطين والمسجد الأقصى والشعب الفلسطيني، عند التخيير الحقيقي...ومع ذلك لماذا نستبق الأمور؟لا يوجد حاليا دولة خلافة على منهاج النبوة، ولا يوجد دولة عربية ظل القوميون يحلمون بها وينظّرون لها منذ زمن بعيد يعود إلى أواخر عهد السلطنة العثمانية...وعلى ذكر السلطنة العثمانية فإن السلطان عبد الحميد الثاني استطاع في خريف عمر سلطنته إنشاء خط سكة حديد ربط به بلاد الشام بالحجاز، بينما في القرن الحادي والعشرين لا يوجد خدمات نقل ومواصلات حديثة في سائر بلاد العرب، وبعضها يتعرض لحوادث مختلفة ومأساوية بسبب القدم وسوء التخطيط، وهذا على مستوى الدولة أو القطر الواحد، فمن يعجز في عصر تطور المواصلات والاتصالات عن توفير شبكة نقل بين مدن دولته لا أظنه يستطيع أن يوفر أدنى حالة من الوحدة بين أقطار أمته!
ليس لدينا دولة مثل يثرب التي هاجر إليها الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- ولا نحن مثل الأندلسيين الذين حين أخرجوا من ديارهم تلقفهم خير الدين بربروسا والعثمانيين فصار رأس حربة في مهاجمة أساطيل الأعداء وساد البحار حوالي 300 سنة، بل أنا الفلسطيني الذي تم تثبيط ثوراته بقرارات عربية متلاحقة، وقرار إسلامي في السنغال يحرّم الجهاد...ولسنا الفيتناميين الذين فتح لهم الصينيون والروس مخازن الدعم العسكري واللوجستي؛ بل صار طبيعيا أن يخرج إعلامي
أو مدع للثقافة والأدب يشكك بحقيقة مكان وقدسية المسجد الأقصى، أو يبارك ويدعو الجيش الصهيوني أن يدمر غزة فوق رؤوس أهلها، أو يقذف ويشتم شعبنا ويمنّ عليه، دون أن يلاقي أي ردع أو محاسبة ولو لفظية من مؤسسات دولته الرسمية ولو مجاملة...ثم تقول لي تنازل عن هويتك الوطنية، أو اجعلها في مرتبة أدنى في فكرك وأولويتك؟ والله إنها مهزلة.
وأيضا فإن الإسرائيلي قد يحمل جنسية دولة غربية ويضاف إليها جنسيته الإسرائيلية التي يخدم في جيشها، ومن أمثلة ذلك الجندي جلعاد شاليط الذي يحمل الجنسية الفرنسية...لماذا لم يعامل الفلسطيني عربيا، مثلما عومل اليهودي من أي دولة كانت من الكيان الصهيوني؟أصحيح أنكم خفتم أن يتخلى عن وطنه وينساه؟وهذه كذبة وفرية ثبت تهافت القائلين بها...ولو قبلنا هذا المنطق، أيجوز أن يكون حال الفلسطيني في بعض البلاد العربية أكثر بؤسا وشقاء من حال شقيقه في السجون الصهيونية؟ألم تعلموا بأن الفلسطيني في الأراضي المحتلة سنة 1948 في الجليل والمثلث والنقب وأحياء مدن الساحل مع أنه بحكم الواقع يحمل جنسية إسرائيلية إلا أنه ظل متمسكا بعروبته وانتمائه لشعبه، وأثبت وما زال هذه الحقيقة؟
ألا يمنع الفلسطيني ولو كان حاملا للدكتوراه من أرقى الجامعات من العمل في عشرات المهن تحت حجة الخوف من التوطين...ثم يتحدثون عن الوقوف مع الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة، أعطوه حقه بالعيش بكرامة أنتم أولا وحقوقه يعرف كيف يطالب بها!
(5)هويات وطنية مهددة
نحن لا نعيش في جزيرة معزولة ولا شك أننا نتأثر بالعوامل المحيطة بنا، خاصة ما يجري في البلاد العربية، وإذا أردنا الدقة والصراحة فإن عددا متزايدا من الهويات الوطنية صارت مجرد حبر على ورق؛ فإذا أردنا القول بأن العراق مثلا هو وطن من يحملون جنسيته ويعيشون فيه في المجال الجغرافي المعروف من زاخو إلى الفاو أو من حدود تركيا شمالا إلى حدود السعودية والكويت جنوبا وحدود إيران شرقا وسورية والأردن غربا، ويجمع هؤلاء حقوق وواجبات المواطنة وقوانين وأنظمة الدولة بغض النظر عن كونهم عربا أو كردا أو تركمان، شيعة أو سنة أو مسيحيين فيسمى المواطن منهم أو يوصف بأنه(عراقي)...فإن عينا فاحصة تقول لم يعد هناك هذا التوصيف لهذه الدولة؛ فمثلا
إقليم كردستان قد صار أشبه بدولة مستقلة عن حكومة بغداد المركزية منذ 1991، وهذه بالمناسبة من أخطاء وسقطات الحكومات القومية العربية التي لم تعرف كيف تستوعب المكونات العرقية الأخرى مما جعلها عرضة للتأثيرات الخارجية، وبعد احتلال الأمريكان للعراق في 2003 ظهرت النزعات الطوائفية وصار العراق محكوما بصورة واضحة ومقسما بين إيران وأمريكا، وغابت كلمة عراقي ليحل مكانها كلمات وأوصاف مثل:شيعي أو سني أو كردي أو أيزيدي أو كلداني، والهياكل والتراكيب السياسية التي عقبت الاحتلال لم تفلح في تجميل الصورة القبيحة التي يراها الجميع:العراق مقسم طوائفيا، وثمة من يشعر بالغبن وغاب الانتماء للوطن العراقي لصالح الانتماء المذهبي الذي تديره قوى خارجية...ومع ذلك كل الفرقاء يتكلمون باسم العراق الموحد، أي أنهم يدفنون الهوية الوطنية العراقية فعليا ويتحدثون عنها ذرّا للرماد في العيون.
ولاحقا تتابعت الأحداث فتم فصل جنوب السودان عن شماله، وأحاديث تدور عن نوايا مبيتة لذات الفعل في دارفور ومن ثم كردفان...وحاليا في سورية تجري حرب أهلية لا يمكن تجميلها وإخفاء أنها تدور بين غالبية السنة والنظام مستعينا بقوى خارجية بعضها يرفع رايات طائفية ومذهبية واضحة وصريحة ويجاهر بالعداء للأغلبية...وأيضا جميع الفرقاء-عدا الدواعش- يتحدثون باسم سورية وطنا وشعبا، والواقع يقول أنهم بقصد أو بغير قصد قد مزقوها.
وهذا يقودنا إلى التقسيم الذي تم تسريب بعض مخططاته وخرائطه عبر الصحافة الأمريكية، والذي بمقتضاه يكون اتفاق التقسيم بين سايكس الإنجليزي و بيكو الفرنسي جنة ونعيما وملكا كبيرا إذا قورن بما يسرّب من مخططات، نرى ظواهر وانعكاسات تطبيقها واضحة، وإن كنا نتحدث عن العراق وسورية والسودان، فإن مصر ليست بمنأى عن هذه المخططات خاصة ما يسرب بخصوص مستقبل سيناء، وأما اليمن فإن السعادة قد غادرته وتنهشه الصراعات والحروب والمجاعة والكوليرا...ولا مجال لسرد وتفصيل حالة كل قطر عربي، ولكن الواضح أن الهويات والكيانات الوطنية تذوب أو في أفضل الأحوال تتراجع وتضعف لصالح مشاريع أو نزعات وقوى طوائفية وعرقية، أو تآكل واضح للدول لتصبح دولا فاشلة بامتياز.
ولكن السؤال المهم بالنسبة لنا:ماذا عن الفلسطيني وهويته الوطنية في خضم هذا الوضع العربي التعيس؟!...يتبع.
بقلم/ سري سمّور