كثيرا ما أسترجع تلك الابتسامة العريضة لصديقي النرويجي الذي بالكاد استطاع أن يحجب صوتها ، كنت تجولت برفقته على العديد من مؤسسات المدينة وكلما حط في احداها حظي بقدر وافر من الترحيب، لم يتقلد صديقي منصبا حكوميا واكتفى بعمله الخاص وسخر الكثير من وقته لنشاط مجتمعي أكسبه الكثير من الاحترام، جلسنا بعدها في مقهى صغير نحتسي القهوة في يوم اكتست فيه المدينة ثوبها الأبيض وتداخل ليلها مع نهارها دون أن تكون الغلبة لأي منهما، بينما كان يرتشف قهوته سألته لماذا لم يدخل معترك السياسة سيما وأنه يحظى بقبول وعلاقات واسعة في المجتمع، أعاد فنجان قهوته للمنضدة ليترك ابتسامته تلك على سجيتها، كأن سؤالي أصابه بلوثة من الضحك المستتر، ما أن وضع حدا لابتسامته حتى بادر بالسؤال ما الذي يمكن أن تضيفه لي السياسة ومكوناتها الوظيفية، وما الذي يدفعني لأن أكون أسيرا لقواعد فيها تحاصر حياتي وتجبرني على ترويض أفكاري بعيدا عن قناعاتي، بقيت إجابته تراوح مكانها في المساحة الرمادية للمنطق حتى أعادت تموضعها من جديد يوم أخبرني بأنه يشرف على إعداد سفينة لكسر الحصار المفروض على غزة.
ترى ما الذي تضيفه المكانة السياسية والموقع الوظيفي لنا، ولماذا نخوض غمار حرب ضروس نفقد فيها الكثير من قيمنا على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، ولماذا نقاتل كي نبقى ملتصقين بالمقعد وكأنه بات بالنسبة لنا توأمنا السيامي، ما الذي يدفعنا لمقاومة الطبيعة ونعتلي بشيخوختنا حلبة مصارعة نفقد عليها الكثير من هيبتنا، هل يتحمل الفرد وزر ذلك، أم أن المنظومة المجتمعية هي من مهدت الطريق لذلك وجعلت منه قوة جذب لا انفكاك منها.
الحقيقة أننا نحترم الكرسي أكثر من احترامنا للشخص الذي يجلس عليه، ونحن من أعطى الكرسي هالة تدفعنا لأن نحترف النفاق لصاحبه، نحن من ارتضينا للكرسي أن يتحول بقدرة قادر إلى جهة مانحة تهب لصاحبه الامتيازات، بدءا من الراتب والبدلات مرورا بالسيارة والمرافقين وصولا إلى صلاحيات مبتكرة ليس للقانون والنظام سلطانا عليها، نحن من قبلنا أن ينفق المسؤول من المال العام على حاشية ترافقه أينما ذهب وحل، ليس هذا فحسب بل أننا نخوض فيما بيننا سباقا محموما لنيل رضا المسؤول، ومن أجل ذلك نسخر قدراتنا وإمكانياتنا لخدمته، ونحن من يكيل له المديح والثناء ونستخرج مفردات القدح والذم لنلصقها بسلفه ونشجعه على أن يهدم المعبد ويعيد بناءه من جديد على اعتبار أنه المصلح القادر على اجتثاث فساد من سبقه، نصفق للمسؤول وهو يطيح بالأنظمة والقوانين.
يدرك المسؤول أن كل تلك الامتيازات المادية والمعنوية تتبخر بمجرد أن يغادر موقعه، لذلك يبقى متشبثا بمقعده وكأنه حكرا له، ينتابه شعورا بأن الموقع خلق له دون سواه وأن الأمهات عجزن أن يلدن مثيلا له، ماذا لو أيقن المسؤول بأن هناك قانونا يحكمه وأنظمة لا يستطيع تجاوزها وأن المنصب مهما علا شأنه لن يتمكن من توفير القليل من الحصانة لصاحبه، ألسنا أصحاب ثقافة تمجيد المسؤول وكلما صعد في السلم الوظيفي كلما ازداد تمجيدنا له، حتى نصل إلى القائد فنحيطه بهالة من القداسة تمنحه العصمة من الخطأ، ونحج إلى عتبة بابه طمعا في رضاه، ونخرج إلى الشوارع نهتف له بالروح بالدم نفديه، المجتمع الحر ينتفض دفاعا عن القانون ولا يقبل البتة تجاوزه من الرئيس قبل الغفير، كثيرة هي الصور لرؤساء دول الدخل اليومي لواحدة منها أضعاف الميزانية السنوية لدولنا ونراهم يعززون بسلوكهم مفهوم المواطن البسيط، فيما التكاليف السنوية لموكب المستشار لدينا تكفي لبناء مدرسة، لديهم قوانين تحترم ولدينا قوانين خطوط مشاه، دون أن يكون للقانون سلطته على الجميع سنبقى نراوح مكاننا.
د. أسامه الفرا