الإجازة السنوية

بقلم: هاني المصري

عادة، لا آخذ إجازتي السنوية لأسباب كثيرة، منها لأنني كنت في شبابي أعتبر الإجازة ترفًا أو تقليدًا برجوازيًا، وأن الوطني والثوري، خصوصًا إذا كان وطنه محتلًا من استعمار صهيوني استيطاني عنصري، لا يجوز أن يأخذ إجازة، وكأن تحرير الوطن على الأبواب، وإذا حصل الثوريون على إجازة سيتأخر تحرير الوطن.

شيئًا فشيئًا بدأت أنضج، وأدرك أن معركة الفلسطيني ضد الصهيوني طويلة، بل طويلة جدًا، وأن الفلسطيني عليه أن يعيش حياته وكأنها عادية مليئة بالعمل والفرح والحزن ومظاهر الحياة المختلفة وكأنه يعيش في بلد حر، ويعمل في نفس الوقت وكأن الوطن يناديه وأن الكفاح غير قبل للتأخير تمامًا، على أساس "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". فلا يمكن أن يتأخر الفلسطيني عن تلبية النداء، ولكن علية أن يعرف وأن يكون واثقًا أنه إذا لم يحصل على إجازاته الأسبوعية والسنوية ويترك فسحة للراحة بشكل يومي، فلن يتمكن من مواصلة الصمود والكفاح، سواء كان على أرض وطنه، أو في الشتات.

ولعل القدرة على الحياة وسط الموت وفِي خضم الصراع تعلمتها أنا ومن عاشوا التجربة اللبنانية من اللبنانيين الذين كانوا يعرفون أن يخوضوا الحرب ضد بعضهم وضد الاحتلال الإسرائيلي، ويعيشون حياتهم كاملة وكأن بلدهم لا يعاني من الاحتلال ولا من الحرب الأهلية.

قد يعلق قارئ لهذا المقال أنني أتحدث عن عدم أخذ الإجازة رغم أنني على سفر شبه دائم وزرت العديد من دول العالم. صدقًا، إن هذه السفرات التي قد تسبب الغيرة، وحتى من البعض القليل الحسد، تكاد أن تُستنزف كليًا في الاجتماعات والحوارات والمناقشات، لدرجة في كثير من الأحيان نشد الرحال عائدين إلى الوطن ما أن تنتهي الورشة أو الندوة أو الاجتماع، وتكرر أنني في زيارات عدة لم أغادر الفندق إلّا إلى تناول وجبة طعام أو إلى المطار.

وكان ولا يزال يلعب دورًا في عدم أخذي للإجازة أن العمل دائمًا متراكم، وهناك أكثر من مائة شغلة متأخرة، ويجب أن تنجز، وإذا حصلت على الإجازة تتراكم أكثر، ولكن أدرك أكثر وأكثر "أن العمر بخلص والشغل ما بخلص"، خصوصًا لمن هم مثلي ممن يحملون بطيخات عدة في يد واحدة.

كما أن العمل يجب أن ينجز بأفضل صورة وبأسرع وقت وبأقل التكاليف، وحتى يحصل ذلك على المرء أن يجدد طاقته على الحياة والإبداع باستمرار. وهذا لا يمكن أن يحصل بدون الراحة التي تمكن من تجديد الأمل والطاقة والنشاط والثقة بالنفس، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون الاستمتاع عن طريق انتظام أخذ الإجازة الأسبوعية والسنوية وفِي المناسبات والأعياد.

وَمِمَّا يمنع الحصول على الإجازة وأستخدمه كعذر أنني كنت سابقًا وفِي معظم سنوات حياتي لا يفيض شيء من دخلي حتى أغطي مصاريف الإجازة، تحت تأثير نظرة اكتشفت أنها خاطئة تمامًا، وهي أن الإجازة لازم أن تكون خارجية، وتحتاج إلى مال كثير، إذ يتوجب قضاؤها في إحدى الدول العربية أو الأجنبية، والإقامة في فنادق خمس نجوم، وارتياد المناطق المكلفة. في حين أن الإجازة يمكن ألا تكلف كثيرًا، حتى إذا كانت خارج البلاد، فقد قضيت شهر العسل باليونان بأقل التكاليف.

من الممكن أن تقضي الإجازة في الوطن، ففي فلسطين الكثير من المناطق التاريخية والأثرية والسياحية التي تستحق أن تزار ويأتيها السياح من كل أنحاء العالم. وأنا هنا لا أتحدث أو أقصد القدس وبيت لحم فقط وما تحتويانه من أماكن دينية وتاريخية وسياحية تجذب السياح من أركان الأرض الأربعة، وإنما أقصد نابلس والخليل وأريحا والأغوار وسبسطية وحيفا ويافا والناصرة وعكا وصفد وغزة وغيرها (إذا استطعنا الوصول إليها سبيلًا)، فالاحتلال يضع الموانع ويفصل الأراضي عن بعضها البعض تكريسًا لإقامة المعازل التي تهدف إلى تشتيت الفلسطينيين، وألا تقوم لهم قائمة لا الآن ولا في المستقبل.

فطبيعة فلسطين خلابة، وطقسها متنوع حار دافئ صيفًا، معتدل ماطر شتاء، وربيعها ساحر، وخريفها ذهبي. كما يوجد في فلسطين أفضل طقس وأجمل تضاريس، وتحتوي على أخصب أرض على الكرة الأرضيّة يمكن أن تزرع وتحصد، فيها أربعة مواسم، وتنتج أفضل الخضار والفواكة رغم أن الاحتلال ضم القدس ويحاصر القطاع ويضع يده على معظم أراضي الضفة المصنفة (ج)، ويهدم المنازل ويمنع البناء إلا في مناطق صغيرة محددة، وحتى أصحاب الأراضي يمنعون من زيارتها أو الاستثمار فيها أو البناء عليها أو حفر بئر فيها، خصوصًا في المناطق المصنفة عسكرية وأمنية، مع أن هذه المناطق يتم زراعتها والاستفادة المتنوعة منها، ما ينفي الصفة العسكرية والأمنية عنها، ويبرهن أن كل ذلك ادعاءات زائفة لتبرير احتلال الأرض، والتغطية على عملية مصادرتها وتهويدها وأسرلتها وطرد سكانها، تمهيدًا لضمها لإقامة "إسرائيل الكبرى".

يكفي أن أورد أن عدد سكان أكثر من 60٪‏ من الضفة الآن يساوي أو أقل من عدد السكان الذين كانوا مقيمين فيها عند احتلالها في العام 67، وما يعنيه ذلك أن هناك عملية تهجير وتطهير عرقي منظمة، إذ ارتفع عدد المستوطنين في الضفة من دون القدس من آلاف قليلة من المستعمرين في العام 1972 إلى حوالي 800 ألف مستوطن في الضفة، بما فيها القدس الشرقية المصنفة محتلة وفق الشرعية الدولية، وذلك ضمن مخطط معلن لرفع العدد إلى مليون مستوطن خلال سنوات قليلة.

إن تنظيم رحلات سياحية وتضامنية وكفاحية وغيرها إلى كل المناطق الفلسطينية، خصوصًا المعرضة للمصادرة والتهجير، وتشجيع السياحة الداخلية لها، يمكن أن تكون عملًا وطنيًا بامتياز. ولا يجب أن يقتصر الاهتمام والزيارات والسياحة إلى القدس وبيت لحم، بل يجب أن تصل إلى كل المناطق لأنها تحيي المناطق المستهدفة والضعيفة، وتعرّف الفلسطيني على روائع بلاده.

لدينا مدن تاريخية وقرى فيها مبانٍ تعتبر وفق علماء الآثار ثمينة وتحفًا فنية، ولكنها في معظمها مهملة، ويجب تسليط الضوء عليها. نرى في بلدان أخرى اهتمامًا كبيرًا بمناطق لا يمكن مقارنتها بالمناطق الفلسطينية. طبعًا، تحقيق هذا بحاجة إلى بنية تحتية واستثمار في الزراعة والسياحة الداخلية، وهذا بحاجة إلى تخطيط وموازنات ووضع هذه المسألة ضمن الأولويات، وإلى أمن واستقرار، ما يجعلنا نخاطب رأس المال الفلسطيني والعربي والصديق، ونحثه على النظر إلى الاستثمار في فلسطين بشكل عام، وفِي السياحة بشكل خاص، ليس بدافع الربح، وإنما كشكل من أشكال دعم الصمود، وهو دعم يساهم حتمًا في إبقاء الفلسطيني على أرضه والقضية حية ونافذة الأمل بالنصر مشرعة رغم كل الأهوال والصعاب.

أكتب هذا المقال من شرم الشيخ، حيث أقضي إجازتي التي شارفت على الانتهاء، وأتأمل أن تتعافى هذه المنطقة السياحية الجميلة بعد أن طالها الإرهاب وأدى إلى تراجع معدلات السياحة، وسط تصميم من المصريين على انتصار إرادة الحياة على الإرهاب.

بقلم/ هاني المصري