إني عشقتك واتخذت قراري..
فلمن أقدم يا تُرى أعذاري؟
لا سلطة في الحب تعلو سلطتي فالرأي رأيي والخيار خياري..
هذي أحاسيسي فلا تتدخلي أرجوك بين البحر والبحَّار.
تلك كانت الحالة التي أنطقت الشاعر العربي السوري نزار قباني في علاقته مع بحرٍ واسعٍ، كلما ضاقت به الدنيا وتقاذفته همومها أطلق أشرعة جسمه وانطلق صوب البحر، يُداعبُ رماله، ويغوصُ في مياهه الزرقاء، فيغسلُ ما أصابه من ألمٍ، ويُزيل أحزانٍ تراكمت على مشاعره بفعل ضربات وركلات الأيام.
منذُ كنتُ طفلاً صغيراً أحببتُ ذلك المخلوق، وكثيراً ما وجدتُ رفقتي تحلو بصحبته، فقد أدركتُ حقيقةً خطها شاعرنا العربي حافظ إبراهيم، حين قال: أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي. وحفظتُ كذلك ما كتبه جلال الدين الرومي الشاعر والعالم المعروف حين خاطب البحر: فإن تطلب اللؤلؤ، عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غير الزبد.111
في هذا العالم ولأني أعيشُ في غزة المحاصرة منذ ثلاثة عشر عاماً، سأخالف ما كتبه الشعراء، وما خطه الأدباء، بل إني سأقفُ في مواجهة نفسي التي أحبت البحر في الليل أو الشتاء.
في الماضي كنتُ أجدُ جمال الأوقات حينما أتجول على شاطئ البحر وتلفحني رياحه، ويستقبل جسمي الأمطار المشبعة من مياهه، أما في الصيف فرماله التي ألمسها كان لها السحرُ الخاص على جوارحي يصيبها بدغدغةٍ تخفف ما نحنُ فيه من هموم.
ومياهه فحكايةٌ تفاصيلها بحاجة لفنجان قهوةٍ أرتشفها على رصيف الشاطئ لعلي أغوصُ بين أمواجها، كي أفلحُ في رسم زرقتها وصفاء أمواجها، التي أراها مثلنا تماماً نحن البشر، فمرة هادئة لطيفة تسرُ الناظرين، وأخرى يدفعُ بعضها الآخر، ربما غضباً مما عكر صفوها، وما أجمله من منظر حينما تميلُ الشمسُ بحركات أنوثتها ناحية المغيب فيقترب منها ماء البحر فاتحاً أحضانه يسابق في دفع جسمه ناحية محبوبته التي اختار لقائها في كل مساء.
تلك أيامٌ مضت، كُنا فيها نلتقي بأجسامنا وجوارحنا على رمال وداخل مياه البحر، أما اليوم فبات البحرُ يلفظنا نحن أهلُ غزة ولا يقبل بنا كضيوف، كل واحدٍ منا جعل من البحر صديقه المقرب، فأبلغه بأسراره، أحزانه، أفراحه، آماله التي حطم الكثيرُ منها الحصار الذي نعيشه منذ سنوات.
حتى أنت يا بحر وضعتنا في زاوية الأعداء؟!
لماذا؟ وما هي جريمتنا؟
لقد تغيرت صفرةُ رمالك وباتت قذرة، وغابت زرقة مياهك وتحولت للأسود القاتم، لم تعد تسمع لشكوانا وهمومنا، وإذا ما حاولنا غسل أجسامنا والاستمتاع بملوحة مياهك وجمالها ابتلعتنا في جوفك، ثم لفظتنا، وربما على أقل تقدير جعلتنا نخرج مسمومين لا تمضي علينا سوى ساعات حتى تتحول فرحتنا بك إلى نقمة ومعاناة، أو مصيرٍ تحت التراب.
حتى أنت يا بحر تخنقنا بالمياه العادمة، وتُحاربنا بسفن يعلوها خفافيش العالم يمنعوننا من تذوق أسماكك الشهية، فلا مياهك باتت ملكنا، ولا كنوزك أصبح لنا منها نصيب غربا وشمالاً، وإن فكرنا بتحويل وجهتنا عبر البحر، ولمعت عيوننا صوب الجنوب حيث جيراننا وإخوان عقيدتنا، استقبلونا برصاصهم ولم يختلفوا عن “خفافيش العالم” غير أن رصاصاتهم كانت أشد على أجسامنا التي أعياها الحصار.
أتذكرُ طائر النورس قبل سنوات حينما داعبناه ونحن على ظهر سفينةٍ تشقُ عباب في المياه الإقليمية التركية، وحينما كُنا مجموعة من الشباب نفعل ذلك ونلهو كالأطفال مع طائرٍ اقترب منا، ضحك منا ركابُ السفينة، لكنهم لم يعلموا بأننا من قطاع غزة، فلا طفولةً عشنا، ولا سفينة امتلكنا، أو طيوراً صادقنا، فتلك الطيور تعشق الحرية، وفي بلادنا نعيش في بقعةٍ صغيرة تحيط بها الأسلاك من كل مكان قريبٍ كان أو بعيد، وهي حياةٌ تأنفها الطيور الحُرة.
أما البحر فعلاقتنا معه في مد وجزر كأمواجه تماماً، لكنه لا يسمح لنا بمغادرته إلى العالم، هكذا عهدناه منذ كنا صغارا، وذات الحالة بقينا عليها حتى شابت رؤوسنا، وكادت أن تنحني ظهورنا.
إن علاقتنا بالبحر تبقى على أملٍ بأن يجدد مياهه ويستقبلنا مرةً أخرى ذات يوم، ويلفظ خفافيشاً تعلوه على مدار الساعة تحرمنا من صيد كنوزه، أو مداعبة مياهه والرسم على رماله، وتحدي المياه التي تقتنص فرصتها كعادتها فتمحو ما رسمنا، لنعود من جديد، مرة نفوز وأخرى تنتصر المياه.
بقلم/ أيمن دلول