حبذت الكتابة عن هذا الموضوع بعد أن هدأت نسبيا تلك الزوبعة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ونسبة لا بأس بها من عموم الفضاء الإعلامي ونقاشاتنا حول موضوع الكوارث الطبيعية، بعد أن ضرب الإعصار الرهيب إيرما (Hurricane Irma) ولاية فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ هل نعتبره ابتلاء وعقوبة من الله على أمريكا بسبب سياساتها وجرائمها؟وما ذنب الأبرياء المتضررين من الإعصار بذنوب حكومة بلادهم؟ألا تصيب الكوارث والأمراض الفتاكة بلاد المسلمين المؤمنين وتكون نتائجها أكثر تدميرا؟لماذا نتشفى بهم؟لماذا ندعو لهم بالسلامة؟....إلخ تلك النقاشات التي كانت إعصارا إلكترونيا موازيا للإعصار الفعلي في فلوريدا.
شاركت في بعضها باختصار وحذر، وتابعت ما يقوله أهل العلم، أو ما قالوه في مناسبات سابقة مشابهة، وراقبت أن الانقسام صار علامة مسجلة لنا في كل شيء؛ فلا تكفينا انقساماتنا السياسية وغيرها حتى نبتكر انقساما جديدا بسبب إعصار ضرب فلوريدا، وصار الأمر أشبه بمناطحة مقززة في بعض الأحيان، ولم يخلو من حوار جاد، ولكن النتيجة هي أننا يجب أن نظل منقسمين في كل شيء، وحول كل شيء...ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تأملت القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، بعيدا عن الانفعالات والأحكام الجاهزة والآراء التي تحكمها الثنائية؛ وعلى ذكر الثنائية فإننا في عصر كثرت فيه بل تطغى عليه الألوان بدرجاتها في الصور والتصاميم مثلما هي في أرض الواقع، ولكننا في الحكم على كل شيء نلتزم بالثنائيات المطلقة التي تنم عن ضعف وخلل محبط؛ مثل مع/ضد، جيد/رديء، صالح/طالح...غافلين عن قصد ربما أن هناك تصنيفات ومعايير تتجاوز تلك الثنائيات التي نحصر أنفسنا داخلها.
{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَوَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} -التوبة 126-
خطرت ببالي هذه الآية الكريمة، ومن عادتي محاولة أخذ انطباع عما تحدثه الآية في نفسي أو عقلي من خاطرة أو فكرة أو ملاحظة، مع مراجعة ما قالته كتب التفسير، ومختصر دلالة وتفسير الآية الكريمة أن أهل الكفر والنفاق يحدث عندهم ما ليس معتادا في حياة الناس من حيث التكرار، وهذا ربما يشمل القحط أو الجوع أو الغزو أو أي اختبار(فتنة) وقد يكون الاختبار ربما رخاء من بعض جوانبه، كسعة الأرزاق والأموال وما شابه.
هنا يأتي السؤال المباشر:أولا تصيب فتن أشد مجتمع المسلمين؟نعم بالتأكيد وهذا دفعني لتأمل آية أخرى من الكتاب العزيز:-
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾-الروم 41
هنا نرى أن الفساد وهو خروج الشيء عن طبيعته، كما يقول د.محمد راتب النابلسي، يظهر ويعم بما كسبت أيدي الناس...أي ناس سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو البوذيين أو ممن لا دين لهم؛ ونرى مظاهر الفساد في التغيرات المناخية وانتشار بعض الأمراض الجسدية أو النفسية، والتي تسبب بها الإنسان المعاصر بتجاوزه السنن والقوانين التي أودعها الله في الكون مستخدما تقنيات حديثة في الصناعة أثبت العلم ضررها على البيئة وحذر منها الخبراء وما زالوا، وأيضا-وهذا يجب ألا يغيب عن أذهاننا- باقتراف المعاصي وخاصة المجاهرة بها وعدم الخوف من الله تعالى...والمعاصي في زماننا يرتكبها المسلمون كما غيرهم؛ فمثلا اسأل عن شرب الخمور كمثل للمعاصي وكم مسلم يشربها؟ والأدهى والأمر أنه ظهر بين أظهر المسلمين من يبرر أي معصية أو مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، بأنها حرية شخصية، بدل الاستغفار والستر!
بل هناك ذنب كبير عظيم جاء التحذير منه صريحا في القرآن الكريم:-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾-البقرة: 278، 279.
ألا يقوم الاقتصاد العالمي على الربا؟ألم يغرق كثير من المسلمين في وحل هذا الربا؟هل لنا طاقة بحرب من الله ورسوله...والحرب من الله-جل وعلا-ليست على نمط الحروب بين الجيوش والأمم والشعوب...نسأل الله السلامة.
ضربت مثالا عن شرب الخمور والربا فقط، وثمة محرمات أخرى تقترف لا يسع المجال لذكرها وكلنا يلحظها، يقاس عليها نفس الشيء...فلقد فشت المعاصي وصار مقترفوها يجاهرون بها، وصار هناك من يبررها...أليس هذا مدعاة لظهور الفساد في البر والبحر؟...أليس مخالفا لمفهوم وروح الآية(...لعلهم يرجعون) السخرية المستفزة ممن يدعو إلى تقوى الله تحذيرا من وقوع كوارث قد تصيب الصالح والطالح من الناس على حد سوا؟ ثم ألم تنقل الأخبار عن استقبال مساجد للفارين من الإعصار وتلقينهم الأذكار الخاصة عند وقوع مثل هذا البلاء؟لماذا نستهين بفكرة كون المعاصي من أسباب غضب الله الذي قد يظهر بكوارث مثل هذه، ويخف ويزول بالدعاء والاستغفار.
والقرآن الكريم يعلمنا حال هذا الإنسان المتكبر إذا وقع في خطر شديد وخاف من الغرق في البحر مثلا:-
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا ) – الإسراء67
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾-يونس 22+23
أي أن الإنسان المؤمن والكافر، التقي والعاصي حين يقع في الخطر يتجه بالدعاء والتضرع إلى الله وقت الخطر، ولعل ما نسمعه عند وقوع خطر في الطائرات-لم تكن الطائرة قد اخترعت عند نزول القرآن طبعا- كيف أن الركاب وقت حدوث خطر أو طارئ يبتهلون إلى الله أن ينجيهم، والله تعالى يعلم أن هناك من سيتعهد بترك المعصية والبغي، ولكنه لن يلتزم بتعهده، ومع ذلك قد ينجيه الله تعالى.
فلماذا يجلس بعض المتفذلكين للاستهزاء، والتنظير الساخر من فكرة اللجوء إلى الله تعالى؟!
وللحديث بقية إن شاء الله.
بقلم/ سري سمّور